دعاة الطائفية الجدد
دعاة الطائفية الجدد
د. علي المؤمن
الدعاة الطائفيون المعاصرون ينتمون إلى مختلف الاختصاصات: مفتون، مشايخ، كتّاب، إعلاميون، جامعيون وسياسيون، وينقسمون إلى: موظفين ينتسبون إدارياً إلى حكومة معينة، وموظفين ينتسبون إلى مصالحهم، سواء تمظهرت في مصالح مالية أو ميول نفسية أو فكرية، وتتنوع مهامهم بتنوع مواقعهم واختصاصاتهم، ولكنهم عموماً يشتركون في مهمة استدعاء الشبهات والاتهامات التاريخية التراكمية، وخلق شبهات واتهامات جديدة، تنسجم مع الواقع.
ولعل أبرز شبهة أو تهمة يركز عليها هؤلاء الطائفيون هي (الإرهاب الشيعي) و(الخطر الشيعي)، ولاسيما (الخطر) الذي يستهدف الحكومات السنية (المعتدلة) والمجتمعات السنية (المستقرة)، كما يقولون. وظل هؤلاء يتخذون من ذريعة الصعود الشيعي الجديد مدخلاً لمحاكمة الشيعة وتكفيرهم وتخوينهم، وهو الصعود الذي يتمثل برأيهم في ثلاث ركائز رئيسة: إيران بعد العام 1979 ولبنان بعد العام 1982 والعراق بعد العام 2003. وظل دعاة الطائفية من (المعممين) والمشتغلين في الحقول الدينية يستغلون منابر خطب الصلوات، والندوات والمؤتمرات والمحاضرات، والمناسبات والمواسم الدينية، كالحج، لإثارة الفتن والاضطرابات الطائفية بين المسلمين، من خلال تكفير الشيعة وتكفير مراجع الشيعة ورموزهم الدينية والسياسية.
ومن أبرز دعاة الطائفية الفاعلين في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وما بعدهما، هم شيوخ الفرقة الوهابية في السعودية والبلدان الأخرى، ولاسيما أعضاء هيئة العلماء الحكومية، كعبد العزيز آل الشيخ وعبد الله آل الشيخ ومحمد البدر وعبد الله التركي ومحمد آل سليمان وعبد الوهاب أبو سليمان وعبد العزيز بن باز وأحمد مباركي وعبد الله الركبان وعبد الله المطلق وصالح اللحيدان وصالح الفوزان ومحمد آل الشيخ ومحمد العثيمين، وآخرون كعبد الله الجبرين وعايض القرني. وفي مصر برز عبد المنعم النمر وصلاح أبو اسماعيل ومحمد عمارة ومحمد حسين يعقوب، وفي الأردن كان ناصر الدين الألباني هو الأبرز، وفي الهند أبو الحسن الندوي، وفي باكستان إحسان إلهي ظهير، وفي العراق كان أغلب الشيوخ البعثيين أو المرتبطين وظيفياً ومعنوياً بالنظام البعثي، في مقدمة دعاة الفتنة الطائفية، أمثال بشار عواد معروف وعبد الملك السعدي، ومنهم من علا صوته بعد سقوط نظام البعث، أمثال رافع الرفاعي وحارث الضاري، وفي الكويت برز أحمد بزيع الياسين ووليد الطباطبائي وفهد عبد الله النفيس، وفي قطر الشيخ يوسف القرضاوي.
وإذا كان شيوخ الوهابيين وبعض الطائفيين غير الوهابيين، يمارسون التكفير والفتنة الطائفية دون غطاء ودون مسوغ أو مبرر واقعي، ويقولون أن الشيعة أكفر من اليهود والنصارى، وبأنهم حلفاء اليهود في التآمر على (الإسلام والمسلمين)؛ فإن آخرين من شيوخ الطائفية كانوا يستخدمون تكفير الإمام الخميني وغيره من الرموز الدينية الشيعية، غطاءً لتكفير الشيعة؛ فكانوا يذكرون آراء الإمام الخميني العقدية والفقهية في كتبه وفتاواه، وهي عقائد شيعية تقليدية معروفة، كالنص على الإمام علي وعصمة الأئمة والأمام المهدي وغيرها، ويقولون إنّ الخميني كافر، لأنه يقول بهذه الأقوال، وهي في الحقيقة أقوال الشيعة منذ 14 قرناً، ويجمع عليها علماؤهم.
يقول عبد العزيز بن باز (شيخ الوهابية الرسمي في السعودية) في إحدى فتاواه الكثيرة في تكفير الشيعة: ((الشيعة أقسام وأنواع، ذكرها بعضُهم اثنتين وعشرين نوعًا، لكن الباطنية منهم: كالجعفرية، والإمامية أتباع الخميني الإثنا عشرية، هؤلاء لا شكَّ في كفرهم؛ لأنهم رافضة، خصوصاً قادتهم وأئمتهم الذين يدعون إلى الشرك بالله وعبادة أهل البيت، ويغلون في عليٍّ، ويعبدونه من دون الله، وفي الحسن والحسين، ويرون أنهم يعلمون الغيب، وأنهم معصومون)).
ويقول ناصر الدين الألباني: ((وقفتُ على الأقوال الخمسة التي نقلتموها عن كتب المسمى بـروح الله الخميني، راغبين مني بيانَ حكمي فيها، وفي قائلها، فأقول وبالله تعالى وحده أستعين: إنّ كلّ قول من تلك الأقوال الخمسة كفرٌ بواح، وشركٌ صراح، لمخالفته للقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولذلك فكل من قال بها، معتقداً، ولو ببعض ما فيها، فهو مشرك كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)).
كما يقول عبد المنعم النمر (وزير الأوقاف المصري الأسبق): ((إن أهل السنة، بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى آخر مولود منهم، كفار عند الخميني. فهل بعد ذلك يصح أن نجد بيننا من يسمح له أو لأفكاره الخربة مكاناً في مجتمعاتنا)). أما بشار عواد معروف (الشيخ البعثي العراقي) الذي برز أيضاً في الفترة ذاتها؛ فإنه استطاع أن يوفق بين انتمائه البعثي والأفكار السلفية، فيقول: ((وما من شك في أن الأمة الإسلامية في هذه الأيام تتعرض لتشويه في عقيدتها تقوم به النحلة الفاجرة التي أفتى علماء الأمة الإسلامية – المؤتمنون على عقيدتها – بخروجها من الإسلام)). وكان أحمد بزيع الياسين (الرئيس السابق لبنك التمويل) أكثر وضوحاً حين قال: ((دولة كبيرة تستغلها طائفة منحرفة لترويج أفكارها المضلة، باذلة في سبيل ذلك المال والشهرة)).
وفي الهند أوجب الشيخ أبو الحسن الندوي على من أسماهم بعلماء الإسلام فضح الفكر الشيعي، بقوله: ((آن الوقت كي ينهض علماء الإسلام كل بواجبه في البراءة من هذه الضلالات، وكشف تلك الانحرافات، وفضح الغايات الفاسدة للخميني وأتباعه)) ، ثم أثنى على موسى الموسوي، لأنه اتهم التشيع بالانحراف والغلو، ودعا الشيعة لتبني الفكر السلفي، وذلك بعد إعلان موسى الموسوي في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي في مكة في العام 1987، عن تحوله من التشيع الى التسنن السلفي، بقوله: (( هناك أمور نسبتها كتب الغلاة إلى الأئمة وتبناها فقهاء المذهب الشيعي، وذكرتها كتب الأخبار الموثوقة عندهم مثل: «أصول الكافي» و«الوافي» و«وسائل الشيعة» و«الاستبصار»، ولعل من أهم مواضيع الغلو: العصمة، والعلم اللدني، والإلهام، والمعجزات والكرامات والإخبار بالغيب، وتقبيل الأضرحة)).
ولعل أهم نموذج معاصر للداعية الطائفي المتحوّل هو الشيخ يوسف القرضاوي، الفقيه الحركي السني، الذي كان كثير من الحركيين الإسلاميين الشيعة معجبون بأفكاره، منذ ستينات القرن الماضي، وشكّلت بعض كتاباته جزءاً من ثقافتهم الإسلامية العامة، في إطار انفتاح الإسلاميين الحركيين الشيعة، وخاصة مدرستي السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني، على كتابات المفكرين والكتّاب الإسلاميين الحركيين السنة، وخاصة المصريين منهم، كالشيخ حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة والشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق والشيخ يوسف القرضاوي وزغلول النجار وغيرهم.
ولكن؛ بعد سقوط نظام البعث الطائفي في العراق في العام 2003، ثم تبلور مؤشرات الصعود الشيعي في المنطقة؛ حدثت انعطافة نوعية في منهجية تفكير العلامة القرضاوي وخطابه وسلوكه، فتحول خلال سنوات معدودات من مفكر إسلامي حركي مجدد ومصلح ديني متميز، الى عنصر محوري في الفتنة الطائفية والتمييز المذهبي. وهنا تكمن المشكلة؛ فأن يقوم رجل بهذا المستوى بدور فتنوي طائفي، يؤدي الى تمزيق الأمة وتقطيع أوصالها، وصب الزيت على رماد النفور وحالة عدم الثقة بين المسلمين، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض واستباحة الذمم، والدعوة الى الكراهية والتمييز الطائفي؛ لهو أمر يدعو الى الدراسة والتأمل والتحقيق؛ للوقوف على خلفيات هذا التحول وحيثياته وتبعاته؛ للحد من خطورتها وتحجيم آثارها.
واللافت للأمر؛ جرأة القرضاوي في الدعوة الى قتل قادة إيران وقادة حزب الله ورئيس وزراء العراق ــ آنذاك ــ نوري المالكي، وذلك في تصريح تلفزيوني في العام 2013؛ ففي معرض حديثه عن دعم إيران وحزب الله والمالكي للنظام السوري؛ أفتى بما نصّه: ((هؤلاء أول من يجب أن يقتلوا، وهؤلاء أول من يجب أن يحاسبوا)). هذه الجرأة لم يبلغ مداها غيره من أهل العلم، باستثناء شيوخ الوهابية وشيوخ البعث؛ فلو صدرت من واحد من هؤلاء؛ لما التفت إليها أحد. ولا تكمن خطورة هذه الدعوة في الإفتاء بقتل حكام أو قادة سياسيين وعسكريين أو صحافيين مرتدين، بل بقتل مراجع دين وفقهاء وقادة إسلاميين من ثلاثة بلدان؛ فالقرضاوي يعلم أن من بين قادة إيران، مراجع دين يعود بالتقليد؛ ليتهم عشرات الملايين من الشيعة في أصقاع الأرض، وكذلك فقهاء ومفكرين ورموز إسلامية، ويعلم أيضا أن من بين قادة حزب الله فقهاء وعلماء دين ومفكرين ورموز إسلامية أيضا، ويعلم كذلك أن نوري المالكي هو زعيم حزب إسلامي يضم أيضاً فقهاء ومفكرين ورموز إسلامية.
وعند التأمل في دعاوى وفتاوى واتهامات وشبهات دعاة الطائفية الجدد، تكفيريين أو غير تكفيريين، والمقارنة بينها وبين الموروث الطائفي التراكمي الذي يبلغ عمره (1370) عاماً؛ سنجد أنهم لم يأتوا بجديد، إلّا إسقاطاً للمفاهيم القديمة على المصاديق أو الوقائع الجديدة؛ فهم يرددون ما قاله المحدثون الوضّاعون وفقهاء التكفير والمؤرخون والقصّاصون والأدباء في العصور السابقة، من مقولات تدخل في خانة التكفير والإخراج من الدين، لتسويغ سياسات الإلغاء والإقصاء والقمع.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua