خيار اندماج الشيعة بمجتمع الدولة

Last Updated: 2024/04/14By

خيار اندماج الشيعة بمجتمع الدولة

د. علي المؤمن

التمايز الإنثروبولوجي والثقافي الاجتماعي بين المجتمعات الشيعية، يشكل في وقت واحد تهديدات وفرص، فالتهديدات مصدرها استغلال هذا التمايز الطبيعي من خصوم الشيعة وتحويلها إلى خلافات قومية وصراع هويات محلية. أما الفرص فتتمثل في استثمار هذا التنوع لمصلحة عملية التكامل الاجتماعي الديني المذهبي بين المجتمعات الشيعية، عبر التعامل معه تعاملاً معتدلاً متوازناً، أي القبول بالتمايز، وعدم تصنيف الاعتزاز الموضوعي بالوطن والقومية والقبيلة واللغة والثقافة المحلية في خانة المحرمات والأُمور السلبية المقوِّضة لعملية التكامل؛ لأنّه جزء من التكوين الإنساني والاجتماعي الطبيعي. وبالتالي، فإنّ التمايز الاجتماعي والأنثروبولوجي بين المجتمعات الشيعية لا يتعارض مع تكاملها في إطار الجسد الاجتماعي الديني الشيعي الواحد.

وعلى الضفة الأُخرى، تترشح عن التمايز المذكور أيضاً، تهديدات وفرصاً لعملية اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة؛ لأنّ هذا التمايز يعني وجود تباينات مذهبية واجتماعية دينية مع مجتمع الأكثرية المذهبية من جهة، ومشتركات قومية وقبلية ولغوية وثقافية محلية معه من جهة أُخرى. وحين يتم التعامل مع هذه التباينات والمشتركات تعاملاً متوازناً وعادلاً، وفي إطار معادلات الحقوق والحريات والمساواة، فإنّه يُنتج اندماجاً تلقائياً طبيعياً للمجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة، أمّا إذا كان تعامل الدولة ومجتمع الأكثرية المذهبية مع هذه التباينات الاجتماعية المذهبية تعاملاً طائفياً ظالماً، فإنّه سيؤدي إلى شعور المجتمع الشيعي بأنّه مقموع ومظلوم ومهمّش، وأنّ الشيعي مواطن من الدرجة الثانية والثالثة؛ الأمر الذي يؤدي تلقائياً أيضاً إلى صراع هويات مذهبية مدمرة، وتهديد ، وهو ما لا تريد أن تفهمه الأنظمة الطائفية، وهي تعرّض الأمن السياسي والمجتمعي للبلد إلى مختلف ألوان التهديد، بسبب سياساتها الطائفية وانحيازها ضد جزء من المجتمع؛ بجريرة انتمائه إلى مذهب إسلامي يختلف عن مذهب الحاكم أو الأُسرة الحاكمة أو النظام السياسي.

لذلك؛ فإنّ موضوع اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة، ليس موضوعاً بسيطاً للاستهلاك الإعلامي والكسب السياسي، بل هو موضوع معقد وعميق ومتعدد الجوانب. صحيح أنّه يحمل عنواناً إيجابياً عاماً، يتلخص في اندماج المجتمعات الشيعية بمجتمعات بلدانها، وهو هدف مشروع ومطلوب؛ لكنه في تفاصيله ينطوي على عقد واشتراطات وملابسات كثيرة، في مقدمتها تحديد دلالات الاندماج وأطرافه ومداخله وممهداته ومخرجاته وتبعاته، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل طرف. فالأنظمة الطائفية تريد من هذا الاندماج أن يذوب المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الدولة وبمجتمع الأكثرية المذهبية، وأن يرضى بمنظومة الحقوق والحريات والسياقات السياسية المذهبية التمييزية في الدولة كما هي، أي أنّ يقبل الشيعة بواقع التهميش والقمع ومصادرة الحقوق والحريات المذهبية والسياسية للدولة، دون أي اعتراض ومطالبات بالتعديل، وأن يقدموا للحاكم وللنظام السياسي فروض الولاء والطاعة بالمطلق؛ لأنّ الحاكم هو الأب وولي الأمر المطاع، وإن كان ظالماً وقاتلاً ومستبداً، ويميز بين مذاهب مواطنيه، ويتعامل معهم على أساس الهوية الاجتماعية المذهبية. والحال أنّ هذا اللون من الاندماج هو الوجه الآخر للاستعباد والانقياد الفرعوني.

وقد أثبت هذا اللون من الاندماج بمجتمع الدولة فشله الذريع عملياً، في ظل الأنظمة الطائفية القمعية، كما في تجربتي السعودية والبحرين في تسعينات القرن الماضي، رغم مكابرة بعض من مارس التجربة وعاشها، ولا يزال يراهن على نجاحها، وهو رهان يخلو من أية مقومات موضوعية حقيقية، اللهم إلّا إذا كان الرهان على مجرد العيش في البلد والسلامة الشخصية، وكف شر الدولة عن دائرة الجماعة الخاصة، وهو رهان مشروع كما يبدو، لكنه رهان خاص ولا يمكن أن يكون رهاناً عاماً للمجتمع. أمّا في ظل الأنظمة المعتدلة نسبياً، فإنّ الاندماج حاصل وناجح نسبياً قبل ظهور دعوات الاندماج، وهو ما نجده في تجربتي عُمان والكويت. وقد كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين أحد الداعين لمشروع الاندماج والمصالحة الوطنية مع الأنظمة في أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي، وقد تمت ـ برعايته ـ عودة بعض المعارضين الإسلاميين الشيعة إلى بلدانهم، وخاصة إلى السعودية والبحرين. بيد أنّ أحداث العقود الثلاثة اللاحقة أثبتت أنّ مشروع الاندماج لا يمكن أن ينجح مع إصرار الأنظمة على سياساتها الطائفية التمييزية.

تجدر الإشارة إلى أنّ هناك ثلاثة مستويات تنطوي على مفهوم الاندماج الملتبس:

    1- الاندماج بمجتمع الدولة:

يعني الاندماج بمجتمع الدولة ذوبان المجتمع الشيعي في الاجتماع السياسي والنظام السياسي للدولة، وإعلان الولاء والطاعة بالمطلق. هذا اللون من الاندماج هو المشكلة الحقيقية؛ لأنّه ينطوي على عقبات أساسية تضعها الأنظمة السياسية للحيلولة دون حصوله، وفي مقدمتها التمييز والتهميش السياسي والمذهبي الطائفي، بهدف تقييد تأثير الشيعة على الاجتماع السياسي للدولة، ومنعهم من الحصول على المناصب في الحكومة والقضاء والبرلمان (إن وجد) والقوات المسلحة بما ينسجم ونسبتهم العددية. وبالتالي، تعمل الأنظمة الطائفية في هذا الإطار على استحصال واجب الطاعة والتسليم المطلق من المجتمع الشيعي، وعدم منحه أياً من حقوقه المذهبية والسياسية والثقافية البديهية.

    2- الاندماج بالمجتمع الديني للدولة:

أي الانخراط في النظام الديني للدولة ومؤسساته المذهبية الأحادية، وتحول عالم الدين الشيعي إلى موظف لدى الدولة، أسوة بنظيره السني، وتحول المؤسسة الدينية الشيعية إلى جزء من المؤسسة المذهبية السنية للدولة. ورغم أنّ هدف هذا الاندماج تدجين الواقع الديني المذهبي والاجتماعي الشيعي، وسلخ عالم الدين من استقلاليته المالية والعملية، ويصب غالباً في مصلحة الدولة، إلّا أنّ المؤسسة الدينية الرسمية السنية تعيقه بشدة؛ لأنّه سيشكل اعترافاً من الدولة ومؤسستها الدينية بأنّ يكون المذهب الشيعي مذهباً مشاركاً في الدولة ونظامها وأعرافها وتقاليدها الدينية، وأن يكون الفقه الجعفري جزءاً من التشريعات والأحكام القضائية، إلى جانب المذاهب السنية الرسمية وفقهها، كما سيسمح لعلماء الدين الشيعة بأنّ يكونوا في المناصب الرسمية الدينية والإفتائية المحتكرة من الطبقة الدينية السنية الرسمية. وبالتالي، فإنّ هذا اللون من الاندماج ليس له حظوظ عملية؛ لأنّه غير مقبول من الطرفين الرسمي والشيعي.

    3- الاندماج بالمجتمع العادي:

لمجتمع العادي هو مجتمع الأكثرية المذهبية في الدول السنية. ولعل اندماج الشيعة بمجتمع السنة؛ لم يكن يوماً مشكلة حقيقيةـ لأنّ الشيعة والسنة، على المستوى الفردي والاجتماعي العادي، لم يكونوا خصوماً يوماً، ولم تنشب بينهم مشاكل طائفية، إلّا بمحركات سياسية أو دينية رسمية وخارجية، سواء من النظام الحاكم أو مؤسسته الدينية الطائفية أو الجماعات التكفيرية أو المحتل الأجنبي، أمّا العلائق الاجتماعية والعشائرية والمصاهرات والشـراكات المتنوعة بين الشيعة والسنة، في البلد الواحد؛ فإنّها تحول دون بروز مشاكل حقيقية شخصية ومجتمعية بينهم. وبالتالي؛ فإنّ هذا الاندماج لا ينطوي على مشكلة، وهو متحقق إلى حد كبير، قبل صدور دعوات الاندماج كما ذكرنا.

وعليه؛ نخلص إلى أنّ عملية الاندماج ليست مهمة أحادية تقع على عاتق المجتمع الشيعي أو الفرد الشيعي وحسب، بل إنها ـ بالدرجة الأساس ـ مهمة أنظمة الحكم السنية ومؤسساتها الدينية الرسمية وشبه الرسمية، والجماعات السياسية والدينية والمدنية السنية، لكي تبادر إلى توفير الظروف الموضوعية الواقعية لهذا الاندماج، وإلّا كيف يُطلب من الشيعي أن يندمج في الاجتماع السياسي والديني والثقافي لبلده، وهو يتعرض لكل أشكال ومضامين التمييز الطائفي السياسي، والنظرة المذهبية الدونية، واتهامات التكفير والخروج على الدولة؟! فلطالما بقي الآخر المذهبي ينظر إلى شيعة البحرين والسعودية والإمارات وسورية وفلسطين ومصر والسودان والجزائر والمغرب ونيجيريا وأفغانستان وماليزيا وغيرها من بلدان الحضور الشيعي، نظرة الخروج على مذهب الدولة، وأنهم جيوب اجتماعية معزولة، كما تصفهم الأنظمة الطائفية ومؤسساتها الدينية، وبذلك لن فلن يحدث الاندماج الإيجابي الحقيقي المطلوب.

في حين يحدث الاندماج بمجتمع الدولة، حين تؤمن الأنظمة السياسية السنية ومؤسساتها الدينية بأنّ الشيعة مواطنون كاملي المواطنة، ولهم حق المشاركة السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية والدينية الكاملة في دولة المواطنة والعدالة والمساواة والقانون، شأنهم شأن السنة، وأنّ من حق الشيعي أن يكون في أي موقع في الدولة دون أي تمييز طائفي.

وبالتالي؛ فإنّ مدخل الاندماج الحقيقي يكمن في تغيير القوانين والأعراف والسياسات الطائفية الحاكمة في هذه البلدان، قبل الطلب إلى الشيعي أن يندمج في مجتمعٍ ونظامٍ يرفضانه ضمناً، ويميزان بينه وبين المواطن السني والمسيحي. وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة، بأنّ الشيعي كلما تعرض لمزيد الضغوط والتهميش والإرهاب من الدولة، فإنّه يبتعد تلقائياً عن مجتمع الدولة وعن الحاضنة الاجتماعية للحكم، والعكس صحيح. ولذلك، من الإجحاف انتقاد المواطن الشيعي الذي يبحث عن الحماية والحياة والحرية والمواطنة الحقيقية، بسبب تعامل دولته معه بوصفه مواطناً من الدرجة الثالثة، كونه يتبع مذهباً غير مذهب الدولة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment