خلاصة بحث الدولة الإسلامية بين مبدأين ولاية الفقيه والشورى باللغة العربية
الدولة الإسلامية بين مبدأين: ولاية الفقيه والشورى
د. علي المؤمن
يعد الموضوع الذي نتناوله من المواضيع الجديدة في الفقه السياسي الإسلامي، وخاصة ما يتعلق بالمقارنة بين مبدأين أساسيين يحظيان بأصول تشريعية ثابتة، وقد أخذ هذا الموضوع بالتفاعل بقوة بعد العام 1979، وشهد اهتماماً خاصاً حينها، ولا سيما خلال فترة مناقشة دستور الجمهور الإسلامية الإيرانية، وكانت النقاشات تتسع لمناهج ومقاربات متعددة، فقهية وفلسفية وفكرية وسياسية، ولم تكن تقتصر على الجانب النظري، بل كانت لصيقة أيضاً بالجانب التطبيقي الذي سيقرره الدستور، ويرسم شكل النظام السياسي الجديد للدولة في إيران.
مفهوم الدولة الإسلامية
يمكن تعريف الدولة الإسلامية بأنها الكيان السياسي القانوني القائم على رقعة جغرافية، وتستند إلى الشريعة الإسلامية في تحديد غاياتها وأهدافها، وصياغة نظمها السياسية والتشريعية والقضائية والجهادية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، وتنظيم علاقاتها الخارجية، وسياقات عملها وآليات حركتها بين مؤسساتها، وبينها وبين رعاياها، فضلاً عن معايير نصب حكامها وشروطهم وصلاحياتهم.
وتتلخص معايير إسلامية الدولة من الناحية النظرية في ثلاثة محاور أساسية: شرعية الحاكم، حاكمية الشريعة وحاكمية القانون. ونقصد بالحاكم رئيس الدولة الشرعي الذي تقرر الشريعة الإسلامية شروطه وصلاحياته في عصر غيبة الإمامة. أما حاكمية الشريعة؛ فتعني تدخّل الشريعة الإسلامية في كل جوانب الدولة الإسلامية ومؤسساتها وسلوك رعاياها، وفي صياغة مضامينها وشكلها ومؤسساتها، وفي شروط من يمارس السلطة وصلاحياته. بينما تعد حاكمية القانون شرطاً في الدولة الإسلامية الحديثة لكي يتوحد موقفها القانوني، أي منظومتها التشريعية المستندة الى أحكام الشريعة الإسلامية، من خلال عملية التقنين.
مبدأ الشورى
مبدأ الشورى، هو مبدأ إسلامي أيضاً، ويمثل أداةً لاختيار مسؤولي الدولة الإسلامية، واتخاذ القرار بصورة جماعية، وتقوية قرار الحاكم وتعميقه عبر بالرأي والمشورة، والتشريع. ويستند مبدأ الشورى الى عدد من الآيات القرآنية التي تختلف في أسباب نزولها ومناسباتها وموضوعاتها، ودلالاتها أحياناً، وهي التي ورد فيها لفظ (شورى) ومشتقاته، وكذلك الى عدد من أحاديث الرسول والأئمة. وكان للشورى في عصر رسول الله والأئمة مظهر واحد فقط، وهو استماع النبي والإمام الى آراء الأصحاب أو نخبة الأُمة، دون أن تكون آراءهم ملزمة له. وفي عصر غياب المعصوم؛ يمكن الاستفادة من آفاق آيات الشورى وأحاديثها ومقاصدها، في تنظيم حياة المسلمين وأساليب حكمهم واختيار حكامهم، كنوع من التدبير.
ويمكن أن يتسع تطبيق مبدأ الشورى في عمل الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، لأغلب آليات ممارسة السلطة، وذلك من خلال مجالس شورى الإشراف والتخطيط والتشريع والتنفيذ والرقابة والتحكم والقضاء، ومنها ما هو منتخب انتخاباً عاماً من قبل رعايا الدولة الإسلامية، ومنها ما هو منصوب من قبل الحاكم، ويعني ذلك استناد الحاكمين في قراراتهم وأدائهم إلى المتخصصين من جهة، وإلى أمة الدولة الإسلامية من جهة ثانية، عبر آليات وسياقات مؤسَسية، مما يحول دون تفردهم بالقرارات والممارسات العامة، إضافة الى تعبير دستور الدولة يعبر عن إرادة الشعب وإجماعه، كجزء من حقوقه، وهو ما يضمن أيضاً تطبيق العدالة في الدولة الإسلامية، عبر تدخّل الشعب في اغلب تفاصيل حركة الدولة، ومشاركته في القرار على مختلف المستويات، وممارسته الرقابة على أجهزة الحكم.
ويرتبط دور الأُمة في الدولة الإسلامية ارتباطاً مباشراً بتطبيق مبدأ الشورى، ويمكن أن نطلق الأمة هنا مصطلح «الشعب» أو «المواطنين»؛ وفق ما تفرضه مقتضيات الزمان والمكان القهرية، وفي مقدّمها معادلات الجغرافية السياسية والقانون الدولي والقانون الدستوري. ويمكن التعبير عن دور الأُمة بالحقوق والواجبات العامة والسياسية لشعب الدولة الإسلامية، والتي تتجلى في المشاركة المباشرة في الاستفتاءات والانتخابات العامة، ترشيحاً وتصويتاً، أو المشاركة غير المباشرة، عبر ممثلي الشعب في المؤسسات الشورية.
مبدأ ولاية الفقيه
مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ إسلامي خاص بمدرسة آل البيت، ويعني المنصب الحصري للفقيه أو الحكومة الحصرية للفقيه في زمن غيبة الإمام، وهو يستند إلى أصل تشريعي يتمثل في النصب الشرعي للفقيه العادل ولياً للأمة، بوصفه نائباً عاماً للإمام في عصر غيبته، الأمر الذي يحصر الحق الشرعي في تأسيس الدولة الإسلامية ورئاستها به. ومبدأ ولاية الفقيه هي مقولة فقهية تخصصية، وليست مقولة سياسية أو مناطقية، ولا علاقة لها بمتغيرات السياسة وعموم الشأن العام، شأنها شأن أي موضوع فقهي آخر يدخل في أبواب العبادات والمعاملات.
وكان من لوازم تمسك المجتمع الشيعي بزعامة نائب الإمام؛ وجود قواعد تشريعية تشد القاعدة بالقمة، وكان في مقدمة هذه القواعد رجوع عامة الشيعة إلى المحدث أو الفقيه في مسائلهم الشرعية وشؤونهم الزمنية، وهنا برز اصطلاح «التقليد» الى جانب الولاية أو نيابة الإمام، استناداً الى أحاديث الإمام علي والإمام الصادق والإمام الحسن العسكري، ومنها: «العلماء حكّام على الناس»، و«من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، و«فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»، وهي في مجملها تدل على صلاحية الولاية الدينية والقيادة الاجتماعية الشاملة للفقيه، والحجيـة في الفتـوى والقضاء والحسبـة والمال الشـرعي والحكم. ويجمع الفقهاء على ولايات الفقيه الأربعة على الإفتاء والقضاء والمال الشرعي والأمور الحسبية، ولكنهم يختلفون على الوظيفة الخامسة المتمثلة في صلاحية إقامة الدولة الإسلامية وقيادتها.
وقد بحث المحدثون والفقهاء موضوع ولاية الفقيه في كتب الحديث والفقه منذ عصر الشيخ المفيد. إلّا أنّ بحوث الشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي المعروف بالشهيد الأول، كانت علامة فارقة في هذا المجال، ثم جاء الشيخ علي الكركي العاملي ليكمل صياغة مفهوم «نيابة الإمام» الحصرية، والمفضية الى مبدأ ولاية الفقيه، وتبعه الشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ أحمد النراقي والشيخ محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر والشيخ مرتضى الأنصاري والسيد محمد بحر والشيخ الميرزا محمد حسين النائيني.
إلّا أنّ ظهور الآراء الفقهية للإمام الخميني، شكّل البداية الحقيقية للنهضة المنهجية في بحوث ولاية الفقيه؛ فكانت المرة الأُولى في تاريخ الفقه الشيعي التي يؤسس فيها أحد الفقهاء لأُطروحة فقهية متكاملة في شمول ولاية الفقيه على وظيفة الحكم، ويدعو صراحة إلى تطبيقها. ثم رافقت ثورة الإمام الخميني ودولته؛ نهضةً بحثية علمية متفردة في موضوعات ولاية الفقيه خاصة، والفقه السياسي الإسلامي الشيعي عامة، حتى إنّ المؤلفات والدراسات الفقهية في هذا المجال بلغت أرقاماً قياسية كمّاً ونوعاً؛ فمجموع ما صدر خلال العقود الأربعة الأخيرة كان أكثر بكثير مما كتب خلال ألف عام سبقتها، ومنها ما كتبه السيد الشهيد محمد باقر الصدر. وقد تأسست الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مبدأ ولاية الفقيه العامة أو مبدأ ولاية الفقيه على الحكم.
منهجية الجمع بين مبدأي الشورى وولاية الفقيه
بما أن الأصل التشريعي لمبدأ ولاية الفقيه يعطي الولاية لجميع الفقهاء جامعي شرائط الاجتهاد والعدالة وغيرهما؛ فقد كان من المهم وضع معايير ليكون الولي الفقيه المتصدي للشأن العام وتأسيس الدولة الإسلامية وقيادتها فقيهاً واحداً وليس كل الفقهاء. وهنا تأتي المقبولية العامة لتفرز الفقيه الحاكم من بين الفقهاء الأحياء الحائزين على شروط الولاية، ليكون الفقيه الحاكم ورئيس الدولة واحداً، سواء بالانتخاب المباشر أو غير المباشر. وهذا يعني أن الشريعة الإسلامية ترفض نظرية القوة والغلبة في تكوين الحكومة ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة، وتحصر الحكم الشرعي في المعصوم عند حضوره، والفقيه المقبول قبولاً عاماً عند غياب المعصوم.
ولعل أول من طرح شرط المقبولية العامة في المرجع المتصدّي أو الولي الفقيه هو السيد محمد باقر الصدر، الذي يعبِّر عن هذه المقبولية بتكامل ولاية الأُمّة وولاية الفقيه؛ إذ أطلق على الولاية الأُولى تسمية «خلافة الأُمّة»؛ باعتبار الخلافة الممنوحة للإنسان على الأرض، وأسمى الولاية الثانية «شهادة الفقيه»؛ باعتبار نيابة الفقيه العامة عن الإمام المعصوم. ومن خلال اختيار الأُمّة لفقيه بعينه سيلتقي خط الخلافة بخط الشهادة، ويكون هذا الفقيه حينها مجسّداً للخطين.
وهناك رأيان فقهيان أساسيين بشأن دور الأُمّة في منح الشرعية للفقيه:
يقول الأول بأنّ انتخاب الناس ليس له أثر في تعيين الفقيه للقيادة، ولا علاقة لجمهور المؤمنين بإنشاء هذه الولاية بالأصل، وينحصر دور الأُمّة في اختيار أحد هؤلاء الفقهاء، سواء اختياراً مباشراً أو عبر مجلس أهل الخبرة، دون أن يكون لهذا الدور أثر في منح الشرعية للفقيه المتصدّي أو الحاكم. وبذلك تكون المقبولية العامة مجرد أداة لتفعيل الولاية والقيادة وترجيح وتفاضل بين الفقهاء جامعي الشروط. ويطلق على هذه النظرية: ولاية الفقيه المنصوب.
الثاني: يعتقد بأنّ للأُمّة حق اختيار ولي أمرها ورئيسها وقائدها الشرعي من بين الفقهاء. وهنا لا يكون دور الأُمّة مجرد تفعيل للولاية، بل إنّها تشارك في منح الشرعية للفقيه المتصدّي. فشـرعية الولاية هنا مشتركة بين النص الشرعي الذي يمنح الولاية لكل الفقهاء وبين اختيار الأُمّة التي تمارس دورها في الخلافة، وتفوِّضه لواحد من هؤلاء الفقهاء. ويطلق على هذه النظرية اصطلاح ولاية الفقيه المنتخب، وهي نظرية حديثة تتوسط نظرية ولاية الفقيه، ونظرية الشورى؛ إذ إنها تشترط الفقاهة في ولي الأمر، ولكن اختياره يتم في إطار الشورى التي تمثلها الأمة.
والاختلاف بين نظرية ولاية الفقيه المنصوب، ونظرية ولاية الفقيه المنتخب أو ما يعرف بمنهج الجمع بين مبدأي ولاية الفقيه والشورى، لا يتجاوز الجانب النظري غالباً، ويكاد ينعدم في الجانب التطبيقي. ويمكن القول إنها النظرية الحاكمة في الواقع السياسي الإيراني القائم، على مستوى الدستور والتطبيق. ورغم أن أغلب فقهاء الجمهورية الإسلامية يذهبون الى تسميتها بالمطلقة، ولكنها على المستوى التطبيقي هي مقيّدة، بمعنى المقيدة بالدستور، وليس بمعنى الناقصة. وبالتالي؛ فإن النتائج التي تفرزها النظريتان تظل واحدة، ولا سيما فيما يتعلق بمساحة حاكمية الولي الفقيه وصلاحياته وهيكلية النظام السياسي.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua