خطورة الخلط بين السنة والنواصب

Last Updated: 2024/04/14By

خطورة الخلط بين السنة والنواصب

د. علي المؤمن

في مرحلة استيلاء معاوية بن أبي سفيان على السلطة في الدولة الإسلامية؛ نجحت المنظومة الأموية في تنفيذ الجزء الأكبر من مخططها باختطاف الإسلام، وتأسيس عقيدة بديلة جديدة، تحمل في ظاهرها الطقوسي والعقدي اسم الإسلام، لكنها في حقيقتها عقيدة ونظام سياسي وسلوكيات مختلفة، متشبّهة بالنظام المسيحي الثيوقراطي الإمبراطوري الروماني الذي أسسه قسطنطين الأول. وقد تسنى ذلك لمعاوية وآل أمية عبر موجات الوضع في الحديث النبوي، وتأسيس الملكية الوراثية المطلقة، واستخدام سلوكيات الترغيب والترهيب ضد المسلمين، وبناء مجتمع أموي موالي في الشام، وقمع الأسرة النبوية المكلّفة بخلافة رسول الله، والعمل على تهميش دورها حتى في البعد الديني.

العملية الأساس الأولى التي مثّلت جدار الصد لعملية الاختطاف الأموي للإسلام؛ كانت نهضة الإمام الحسين بن علي، وما أعقبها من ثورات على خطاها، وأهمها ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورة زيد بن علي وثورات العلويين وأتباع آل البيت اللاحقة.

أما العملية الأساس الثانية فتمثلت في المواجهة العلمية والدينية والتبليغية التي قام به أئمة آل البيت لمخطط اختطاف الإسلام، والتي تألقت في عصر الإمامين الباقر والصادق، والذي شهد أيضاً ظهور محدّثين فقهاء كبار في المدينة والكوفة، ينتمون الى مدرسة الخلافة (السنية)؛ عملوا على الابتعاد عن المنهج الحديثي والعقدي والفقهي الأموي، وتأصيل فقه مدرسة الخلافة بما ينسجم مع الكليات العامة للإسلام، خاصة أن كثيراً منهم درس عند الإمامين الباقر والصادق. وقد تبلورت هذه المنظومة السنية عقدياً وفقهياً خلال القرن الأول من الحكم العباسي، والذي يمثل نفسه هذه المنظومة، إذ رفضت هذه المنظومة كثيراً من قواعد الايديولوجية الأموية وسلوكياتها، ومنها مناصبة آل البيت العداء، لكنها كانت تقمع البيت النبوي وآل البيت بشدة إذا ما أحسنت بأي تهديد، ولو كان وهمياً، وبالتالي، فهي كانت تمارس ضد آل البيت سلوكاً سياسياً تجاه ما تفترضه معارضة سياسية لحكمها، وليس سلوكاً عقدياً اجتثاثياً ناصبياً.

وقد كان نتاج مواجهة أئمة آل البيث لمؤامرة المنظومة الأموية؛ الحيلولة دون تمكينها من اختطاف الإسلام بشكل كامل. كما أدى وقوف آل البيت بوجه الانحراف العباسي وممارساته القمعية؛ الى الحيلولة دون سقوط المسلمين كافة في شرك الواقع العباسي. وبالتالي؛ أدى مسار الصراع السياسي والعقدي بين المنظومات الثلاث: النبوية والأموية والعباسية، الى تجذّر الانقسام بين المسلمين نظرياً وعملياً، وتبلوره نهائياً في ثلاث شرائح، لاتزال قائمة حتى الآن:

  • الشريحة الأولى: اختارت التمسك عقدياً وروحياً واجتماعياً وسياسياً بمدرسة آل البيت النبوي، و أخذت عنوان “التشيع”، وهي مدرسة “الإمامة” الشيعية، وكان يمثلها ويقودها رسمياً الأئمة الإثني عشر من آل البيت، وبات الإمام جعفر الصادق يمثل رمزيتها العقدية والفقهية والاجتماعية، ثم أصبح لها بالتدريج كياناتها العلمية الدينية، كالمدينة والكوفة وبغداد وقم والنجف، والاجتماعية، في أغلب البلدان الإسلامية، والسياسية، ممثلة بدولتي الإمام علي والإمام الحسن، ثم الدول التابعة والمنتسبة لهذه الشريحة في إيران والعراق والشام ومصر والمغرب العربي والهند. أما اليوم فتنتمي إليها دولة واحدة فقط هي إيران، إضافة الى أجزاء أساسية من أنظمة العراق ولبنان واليمن. كما تعد النجف وقم أبرز من يمثل هذه الشريحة من الناحية العلمية- الدينية.
  • الشريحة الثانية: اختارت الانخراط عقديا وسلوكياً وسياسياً بمدرسة آل أمية، وأخذت عنوان “النصب”، أي العداء للإسلام الأصيل المتمثل بآل البيت، وصولاً الى انبثاق العقيدة التكفيرية السلفية لأحمد بن تيمية، وكان وجودها السياسي التأسيسي متمثلاً بالدولة الأموية، ثم بعض الدول الفرعية للدولة العباسية، وتحديداً دولة صلاح الدين الأيوبي. أما أبرز مصاديقها اليوم؛ فهي الفرقة “الوهابية” ومؤسستها الدينية الحاكمة في الدولة السعودية، والتي كرّست عقيدة التكفير كوجه آخر لعقيدة النصب، وكيانها السياسي المتمثل بالدولة السعودية، إضافة الى الكيانات السياسية المؤقتة، كداعش وطالبان. كما يمثلها من الناحية الطائفية- السياسية حزب البعث العراقي، وتحديداً التيار الذي سيطر على الحزب بعد العام 1979.
  • الشريحة الثالثة: اختارت الحياد بين المنظومة الأموية ومدرسة آل البيت، وفضّلت التمسك بما أسمته سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة، أي أنها لم تأخذ بعقيدة الإمامة وفقه آل البيت ولا بعقيدة آل أمية ومنهج النصب والتكفير، وحملت عنوان “التسنن” بمرور الزمن، وهي مدرسة “الخلافة” أو “أهل السنة”، والتي عبًر عنها فقهاء ومتحدثون وعلماء كلام مؤسسون، كالأشعري والإمام مالك والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام الظاهري. ولعل أكثر الكيانات السياسية تعبيراً عنها هي الدولة العباسية ثم العثمانية، ثم البلدان الإسلامية وأنظمتها في الوقت الحاضر. وتعد مؤسسة الأزهر في مصر المؤسسة الدينية العلمية الأكثر تعبيراً عن عقيدة هذه الشريحة وفقهها.

ولكي نكون أكثر التصاقاً بالحقيقة؛ فإن مدرسة “أهل السنة” كانت ولا تزال منحازة لآل البيت عاطفياً، ولا تخفي حبّها لهم، لكنها عقدياً وفقهياً لا تتبعهم؛ بل تتبع فقهاء ومتكلمين آخرين من مدرسة “الخلافة”، كالأشعري والماتريدي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وهذا هو ما يميزها عن مدرسة “التشيع” ومدرسة “النصب” والتكفير. أي أنها مدرسة بين المدرستين. لكن هذه المدرسة – كما ذكرنا – لا تتردد عن ممارسة القمع ضد مدرسة آل البيت وأتباعها، عند الإحساس بأي تهديد عقدي وسياسي، وإن كان وهمياً، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا القمع لا يتم على خلفية عقيدة النصب والتكفير، بل على خلفية طائفية – سياسية غالباً.

وعندما نتحدث عن مدرسة النصب لآل البيت وتكفير من لم يعتقد بأفكارها؛ فإنما نقصد الجانب العقدي والسلوك العقدي لهذه المدرسة غالباً. صحيح أن جذور عقيدة هذه المدرسة وفقهها يعودان الى الإمام أحمد بن حنبل، الذي يعد مؤسس مذهب فقهي وكلامي، مستقل فقهياً عن المذاهب السنية التي سبقته، وعن الفرق الكلامية كالأشاعرة والماتريدية والظاهرية، وكانت فرقته تعرف آنذاك بـ “الأثرية”، وهي تتشبه بالفرقة “الحشوية”، ثم استقرت فيما بعد على اسم “السلفية”؛ بيد أن بعض شيوخ الفرقة الأثرية السلفية، انحرف بالتدريج عن عقيدة ابن حنبل في موقفها من آل البيت، حتى جاء ابن تيمية، وهو حنبلي أساساً، لكنه كان زعيماً لإحدى الجماعات المنحرفة المنسوبة الى الحنبلية السلفية؛ ليعيد الحياة لعقيدة آل أمية، ويعلن مذهب التكفير والنصب، ولا سيما عبر كتابه “منهاج السنة النبوية”، ثم عمّق هذا المعتقد محمد بن عبد الوهاب المتحالف مع محمد بن سعود، وبات سلطة فتّاكة بيد الدولة الوهابية السعودية لمحاربة آل البيت وتكفير أتباعهم.

ويمكن القول إن الشيخ أحمد ابن تيمية هو الذي بلور مدرسة النصب نظرياً، وأعطاها بعداً عقديا وفقهياً، بوصفها امتداداً للعقيدة الأُموية؛ فقد ذكر ابن حجر العسقلاني: ((أن ابن تيمية خطّأ أمير المؤمنين عليًّا كرّم الله وجهه في سبعة عشر موضعاً خالف فيها نص الكتاب، وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرّم الله وجهه، ولقوله أيضًا فيه: إنه كان مخذولاً، وإنه قاتل للرئاسة لا للديانة)). وقال العلوي بن طاهر الحداد بشأن نصب ابن تيمية: «وفي منهاجه، من السب والذم الموجّه المورد في قالب المعاريض ومقدمات الأدلة في أمير المؤمنين علي والزهراء البتول والحسنين وذريتهم، ما تقشعر منه الجلود وترجف له القلوب، ولا سبب لعكوف النواصب والخوارج على كتابه المذكور إلّا كونه يضرب على أوتارهم ويتردد على أطلالهم وآثارهم».

وقد دوّن ابن تيمية عدد من النصوص في هذا المجال: «وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا ولا تاركاً له، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأموراً به لا واجبًا ولا مستحبّاً». وكذلك: «وإن لم يكن علي مأموراً بقتالهم ولا كان فرضاً عليه قتالهم بمجرد امتناعهم عن طاعته مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام». كما يذكر أن قتال علي في صفّين والجمل كان بالرأي، ولم يكن علي مأموراً بذلك: «فلا رأي أعظم ذمّاً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عمّا كان وزاد الشر على ما كان»، ويقول: «وأما الإجماع فقد تخلَّف عن بيعته والقتال معه نصف الأمة أو أقل أو أكثر، والنصوص الثابتة عن النبي تقتضي أن ترك القتال كان خيراً للطائفتين، وأن القعود عن القتال كان خيراً من القيام فيه، وأن عليّاً مع كونه أولى بالحق من معاوية لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيراً». ويقول: «والمقصود هنا أن ما يُعتذر به عن علي فيما أُنكر عليه يُعتذر بأقوى منه في عثمان، فإن عليًّا قاتل على الولاية وقُتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير».

ويقول ابن تيمية: «ولم يكن كذلك علي فإن كثيرًا من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه». ويقول: «والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به، وأن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة، وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور أئمة الفقهاء»، ويقول: «ولهذا كان علماء الأمصار على أن القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده»، ويقول: «وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ولا قهر ونقص للكافرين».

وبشأن تشكيكه في إسلام الإمام علي يقول ما نصه: «وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتفاق المسلمين، وإذا أسلم قبل البلوغ على قولين للعلماء، بخلاف البالغ فإنه يصير مسلمًا باتفاق المسلمين، وكان إسلام الثلاثة مخرجًا لهم من الكفر باتفاق المسلمين، وأما إسلام علي فهل يكون مخرجًا له من الكفر على قولين مشهورين، ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر». وقال أيضًا في منهاجه ما نصه: ((وقد أنزل الله تعالى في علي: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ))، لما صلى فقرأ وخلط)).

ولعل جزءاً مهماً من خديعة الفرقة التيمية الوهابية؛ زعمها أنها تمثل مذهب أحمد بن حنبل وفرقته السلفية الأثرية، وأنها جماعة سنية مجدِّدة، وليست فرقة مستقلة عن أهل السنة، لكن هذا الزعم يخالف الواقع، ودليل ذلك تصنيف ابن تيمية نفسه، الذي يؤكد بأن مصطلح أهل السنة ينطبق على الفرقة السلفية حصراً، وليس على المذاهب الأخرى التي تدعي الانتساب لأهل السنة، كالمالكية والحنفية والشافعية؛ إذ يقول بأن المراد من لفظ أهل السنة معنيان: الأول: هو ما يقابل الشيعة (الرافضة)، وتدخل فيه كل طوائف المسلمين المعترفين بخلافة الخلفاء الثلاثة، كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والإباضية، وحتى الصوفية، والثاني: المعنى الخاص، ولا تدخل فيه الطوائف السابقة إنما هو خاص بالسلفية، ويعبِّر عنهم بـ (أهل الحديث).

لذلك؛ ينبغي أن يتنبه أتباع مدرسة آل البيت الى أهمية عدم الخلط بين مدرسة “السنة” والخلافة وبين مدرسة “النصب” والتكفير، لأنهما مدرستان مختلفتان، بل متعارضتان في كثير من المسائل العقدية، وفي النظرة لآل البيت وللشيعة، وفي المنهج التربوي والسلوك الاعتقادي، وفي تفسير التاريخ. كما ينبغي الحذر الشديد من أي كلام أو سلوك يدفعان أتباع المذاهب السنية الى الارتماء في أحضان مدرسة “النصب” والتكفير، لأن أهم هدف لهذه المدرسة هو تنصيب نفسها مدافِعاً عن أهل السنة وناطقاً باسمهم، واستقطاب أكبر عدد ممكن من أتباع المدرسة السنية، وتحويلهم الى أعداء للشيعة، وأدوات لتدمير الواقع الإسلامي برمته، عبر إقناعهم بالعقيدة الأموية التيمية الوهابية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment