خطاب التغيير في العراق

Last Updated: 2024/04/14By

خطاب التغيير في العراق: من الطائفية إلى الطائفية

د. علي المؤمن

(جريدة السفير، بيروت، 3/1/2005)

بعد سقوط نظام صدام حسين، برزت قضية الدولة والحكم والسلطة في العراق كأكثر القضايا الإشكالية خطورة وحساسية، إلى المستوى الذي عدّها كثير من العراقيين أهم وأخطر من قضية الاحتلال، على اعتبار أن قضية الاحتلال طارئة وستنتهي آجلاً أم عاجلاً مع آثارها وتبعاتها، سواء تمّ ذلك بالقوة أو بالطرق السلمية، أما قضية الدولة وإيديولوجيتها ومركبها الحاكم فهي متجذّرة في التاريخ والحاضر العراقي. ومن هنا انطلق خطاب القوى السياسية العائدة التي كانت تتهيأ لحكم العراق الجديد ليعلن قراره بتغيير معادلة القدرة التي ظلت تحكم العراق أكثر من ثمانين عاماً. والمتمثلة كما يقول بأكثرية تزيد نسبتها على 81% من الشعب العراقي (الشيعة والأكراد السنة) محكومة ومهمّشة سياسياً، بينما تحتكر الدولة والسلطة والثروة نخبة سياسية تنتمي إلى أقلية نسبتها 16% من عدد السكان (السنة العرب). وبرغم أن العراقيين ظلوا يكتوون بنارها، إلا أن العالم الذي صدمته المعادلة لم يكن يعيّن حقيقتها أو يقدر خطورتها قبل سقوط نظام صدام، حتى شاءت الولايات المتحدة الأميركية أن تنساق مع مصالحها ونظرتها الكونية الجديدة، لتفرض التغيير في العراق.

وخضعت القضية (المعادلة) لمزيد من البحوث النظرية التخصصية والدراسات العامة، وكذلك الدراسات الميدانية التي تهدف إلى استيعابها ومعالجتها وإيجاد حلول لها. وبرغم المساعي التي بذلتها مختلف الأطراف العراقية، إلا أن الخطوات التي تمّ اتخاذها بعد سقوط نظام صدام لم تكن سوى مهدئات موضعية، فالدولة العراقية التي أفرزها الواقع الجديد، ظلت تعيش أربعة أنواع من الضغوط التي تعيق عملية التغيير باتجاه تمكين الأكثرية السكانية (تحديداً الشيعة 65% من عدد السكان) من أخذ موقعهم الطبيعي في معادلة القدرة، وبالتالي وضع الدولة على المسار الصحيح:

1 ـ الاحتلال الأميركي الذي يهدف إلى تنفيذ مشروعه وتحقيق مصالحه عراقياً وإقليمياً على حساب مصالح الشعب العراقي.

2 ـ الوضع الداخلي المتفجّر، الذي يتقاسمه واقعان، أحدهما يقاتل من أجل التغيير، بذريعة إحقاق الحقوق، والآخر يقاتل لمنع التغيير، بذريعة الاحتفاظ بالمكاسب التاريخية.

3 ـ المحيط الإقليمي الرافض للتغيير، بذريعة خطورة ذلك على ظواهر الاجتماع السياسي ومعادلات القدرة في البلدان المجاورة والمنطقة العربية برمّتها.

4 ـ الإيديولوجيا المركبة (الطائفية القومية) التي تشرّبت بها الدولة العراقية سنين طويلة، ولا تزال متجذرة وراسخة في منطق الدولة ومسارب تفكيرها وأساليب حركتها.

والحقيقة أن الحديث عما يسميّه شيعة العراق بالتمييز، الذي يعانونه منذ تأسيس ما عُرف بالدولة العراقية الحديثة في عام 1921، وما ترتّب عليه من تقنين لحكم المركّب الطائفي القومي للعراق، بدأ بعد تأسيس هذه الدولة يأخذ طابع الاعتراض والاستنكار، ولكنه استنكار مشوب بالحذر والتردد، لأن من يعترض على هذا الواقع كان يواجه سيلاً من التهم الجاهزة، أبرزها أنه طائفي وشعوبي، كاستمرار للحالة التي سيطرت على الواقع العراقي خلال الحكم العثماني التركي، مع فارق واضح تمثل في حيز الحرية النسبية التي منحتها الدولة العراقية الملكية للشيعة، الأمر الذي جعلهم يفكرون بصوت عالٍ. إلا أن الاعتراض والتنديد لم يكن يجد آذاناً صاغية لدى النخب السياسية الحاكمة (رؤساء الوزراء والوزراء) ولدى رأس الدولة (الملك وبلاطه) ولدى الدولة المنتدبَة (بريطانيا)، لأن هذه المكوّنات الثلاثة للدولة هي التي كانت تشرّع للتمييز الشامل ضد الشيعة. فضلاً عن أن هذه الاعتراضات التي كانت تصدر من علماء الدين ومثقفي الشيعة لم تكن تخوض في عمق القضية، التي هي قضية العراق بأكمله وقضية شعبه وأمنه واستقراره، بل كانت تمثل خطاباً عاماً يلامس سطح القضية فقط، الأمر الذي تسبّب في استمرار الواقع على ما هو عليه، بل وفي تجذر المشقة وتكريسها أكثر فأكثر، بعد أن حوّلتها القوانين العرفية (غير المدوّنة) إلى أمر واقع يذعن له الجميع، بل وترفض الدولة والسلطات والحكومات المتعاقبة أن تعدّها مشكلة أو قضية.

إن ما يُعرف بالدولة العراقية الحديثة التي تأسست عام 1921، لم تكن دولة حديثة بالمعنى الدستوري، بل مثلت خلاصة لسلطة نخبة الأقلية الطائفية الموروثة من العهد العثماني التركي، فكانت تعني دولة الـ 16% من عدد السكان، ولم تكن دولة كل العراقيين، من ناحية المساواة الكاملة في حقوق المواطنة. ولا أقصد هنا الوطن بل الدولة، فضلاً عن الحكومة، دون الخلط بين مفهومي الدولة والحكومة. أما النظام السياسي الطائفي القومي للدولة فتمثل في حكم النخبة السياسية التي تنتمي إلى الأقلية السنية العربية. وليس القصد هنا السنة العرب أنفسهم، لأن السنة العرب عراقيون لهم ما للعراقيين من حقوق وحريات سياسية واجتماعية، كما ليس القصد المذاهب السنية الفقهية، أو العرب كشعب، أو العروبة كانتماء قومي، بل المراد هو النخبة السياسية الحاكمة التي تنتمي إلى السنة العرب، هذه النخبة التي لم توفر السنة العرب أنفسهم من ممارساتها، ولا سيما ما حدث في عهد البكر صدام.

وخلال العقود الأربعة الأخيرة، وتحديداً بعد انقلاب البعث في عام 1968 حيث وصلت قضية الشيعة ذروة تعقيداتها، يمكن القول إن الخطاب الشيعي تغيّر إلى حد كبير في طرح القضية، بعد أن ظلّ متردداً سنين طويلة. وبرغم ذلك ظل هذا الخطاب يطرحها طرحاً غير مباشر غالباً، سواء من خلال إثارتها كقضية إنسانية (الإعدامات والاعتقالات والملاحقات والتهجير) أو من خلال المطالبة بإقامة نظام سياسي عادل في العراق يحترم الإنسان وحقوقه. أي أن هذا الخطاب ظل يتحاشى أن يُتّهم بالطائفية والشعوبية، الأمر الذي كان يحول دون طرح قضية الشيعة في إطارها القانوني والسياسي والإداري والاجتماعي، كما يحول دون استخدام مناهج البحث العلمي الذي يضمن معالجة القضية بمزيد من العمق والاستيعاب والصراحة. بيد أن خطاب القسم من الشيعة العراقيين تغيّر عشية سقوط نظام صدام، وأخذ يطرح القضية بما تستحقه من عمق واستيعاب. ووفقاً لذلك فإن المدخل الموضوعي الأفضل الذي ينسجم مع طبيعة قضية الشيعة في العراق هو المدخل السسيولوجي، وبالتالي تكون النظرة إلى الشيعة نظرة سسيولوجية وليست عقيدية وفقهية، لأن قضية شيعة العراق ومشكلتهم مع الدولة والحكومات المتعاقبة ليست فقهية ولا عقائدية بل هي مشكلة اجتماعية سياسية، وحقلها العلمي هو الاجتماع السياسي.

والحقيقة أن تقسيم الأمة والوطن اجتماعياً وسياسياً على أساس طائفي ظل أحد أهم عوامل تمزق الأمة وتخلّفها. صحيح أن التمذهب أمر طبيعي، وأن يكون المسلم سنياً أو شيعياً، وأن يبقى هذا التمذهب في إطاره العقيدي والفقهي هو أمر طبيعي، إما أن يتحول إلى طائفية سياسية واجتماعية فهو مقتل الأمة، الذي ظل يأكل أبناءها ويهدّد وجودها منذ مئات السنين. وعلى هذا الأساس فإن الهوية المذهبية لا تعني إلغاء الآخر في العقل والوجدان، فحضور هذا الآخر في قناعات الإنسان يجعله يتمسك بمعتقداته أولاً ويعترف بحق الآخر في البقاء ثانياً وفي التحاور معه ثالثاً وصولاً إلى الدخول معه في أية مساحات مشتركة تعبّر عن الانتماء الإسلامي العام في قبالة الاصطفاف المغاير دينياً وحضارياً وثقافياً وسياسياً رابعاً.

ولكن موضوعية التحليل تفرض استخدام المفاتيح الأساسية للقضية، لأن إدارة الظهر للعناصر الأساسية للقضية لن تؤدي إلى نتائج موضوعية، برغم ما قد يبدو من منهجية طائفية خلال طرح هذه العناصر. ثم إن طرح القضية في إطار منهج علمي واضح يستهدف اجتناب الفتنة واقتلاع الطائفية من جذورها، وعدم تجاوزها والعبور عليها، ثم رفض استبدال الواقع الطائفي القومي للدولة بواقع طائفي قومي آخر. وبالتالي فإن الحديث عن الوحدة الوطنية في العراق والتعاضد السني الشيعي أو العربي الكردي، يبقى حديثاً سطحياً إذا عبّر على الحقائق ولم يحدّد عناصر التفرقة وأسباب الصراع. وقد يساهم هذا المنهج أيضاً في التقريب بين الخطابين العراقي (الشيعي) والعربي (السني)، إذ شهدت المرحلة التي سبقت سقوط نظام صدام وما تلاها، شبه قطيعة في الفهم بين الخطابين، بسبب الشكوك والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، كما شهدت لوناً من الانكفاء الشيعي على النفس، بسبب إحساس الشيعة العراقيين بتصاعد وتيرة التآمر ضدهم، وبأنهم ضحايا أبداً. وأخذ هذا الإحساس يتكرّس لديهم بمرور الأيام وباشتداد الأزمة التي نتج عنها سقوط عدد من قادتهم، وفي مقدمتهم السيد محمد باقر الحكيم، والعشرات من كوادرهم، والمئات من الناس العاديين، ضحايا للتفجيرات والاغتيالات والسيارات المفخخة، فضلاً عن استهداف مساجدهم ومراقد أئمتهم، والعمل على تمزيق نسيجهم الاجتماعي ومؤسستهم الدينية. وبكلمة واحدة فإن شيعة العراق يشعرون بأنهم أخذوا يتعرّضون بعد سقوط نظام صدام إلى غزو طائفي شامل وكبير يهدف إلى المحافظة على الإرث الطائفي القومي للدولة العراقية من جهة، وتمرير المشروع الأميركي في العراق من جهة أخرى، وضمان مصالح بعض الأنظمة الطائفية من جهة ثانية.

إن النظام العراقي الجديد، الذي يُنتظر منه أن يتحوّل إلى التعبير الحقيقي عن دولة عراقية جديدة ينتمي إليها كل العراقيين دون أي تمييز قومي أو طائفي، هو النظام الذي يتناقض شكلاً ومضموناً مع نظام صدام حسين الذي كان تعبيراً عن حقيقة ما عُرف بالدولة العراقية الحديثة، لأن الدولة العراقية الجديدة تبشر بأنها تقوم على أساس الاستقلال ورفض كل أشكال الاستعمار والتبعية والهيمنة، والحرية ورفض كل أشكال الطغيان والتمييز والاستبداد، وتطبيق العدالة وآليات الديمقراطية وأحكام الشريعة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment