خطاب الاستشراق ودوره في تشكيل وعي الغرب بالإسلام

Last Updated: 2024/04/14By

خطاب الاستشراق ودوره في تشكيل وعي الغرب بالإسلام

د. علي المؤمن

شكّلت الخلفية الاستشراقية الفكرية عنصراً مهماً في تشكيل وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين. ورغم أن ظاهر الخطاب الاستشراقي ودوافعه، ظل يتمحور حول محاولة فهم الإسلام واتجاهاته الفكرية والمذهبية، وانعكاسات ذلك في حركة الواقع، إلّا أنه كان ولايزال يعطي للدول الغربية والمجتمعات الغربية فهماً شبه دقيق لواقع المسلمين وطرائق تفكيرهم وأساليب اختراقهم والسيطرة عليهم، كما يحدد – بأسلوب مباشر أو غير مباشر – النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينبغي على البلدان الإسلامية أن تطبقها، أي أن الخطاب الاستشراقي تقدم فهماً لما يحتاجه الغرب في كل مرحلة. وكان ملفتاً أن الخطاب الاستشراقي عمل بكل ثقله بعد العام 1979 على الدخول إلى عمق البنية الإسلامية لفهم ما تستبطنه من تعاليم وأصول تشكّل الدوافع والدعائم لحراك الاستقلال الشامل والصحوة والنهوض، واستشراف مستقبل هذا الحراك واكتشاف احتمالاته، ومحاولة التحكّم ببدائله.

والاستشراق هو خطاب وبنية فكرية، وليس مجرّد أعمال وبحوث وتقارير أكاديمية، وإن كانت هذه الأعمال هي التعبير الخارجي عن ذلك الخطاب؛ إذ يعرفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بقوله: ((الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه (إعادة تشكيله)، وامتلاك السيادة عليه. أي إعادة إنتاج الشرق سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً وتخيلياً في مرحلة ما بعد النهضة))، ما يعني أن الاستشراق ـــ غالباً ـــ يمثّل سلطة فكرية علوية أو أداة فكرية استعمارية، هدفها السيطرة وإعادة البناء، ولذلك؛ كانت قوى الاستعمار القديم والحديث، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وراء تشكيل حقل الدراسات الاستشراقية الغربية، كامتداد للوعي الكنيسي بالإسلام والمسلمين.

وتتميز أغلب الدراسات الاستشراقية الأولى بالهجوم المباشر على الإسلام وعقيدته ورموزه من منطلق ديني ينسجم مع قواعد لاهوت السلطة. أما الدراسات التي تلتها، ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والعقود الأولى من القرن الماضي؛ فكانت تمارس الدور نفسه، ولكن تحت غطاء أكاديمي وعلمي. وهذه الدراسات – بالخصوص – هي التي شكًلت الوعي الغربي بالشرق والإسلام والمسلمين. وتذكر بعض الإحصاءات أن الفترة بين عاميْ 1800 – 1950 م، أي خلال قرن ونصف القرن، أفرزت (60) ألف كتاب ودراسة في الغرب، عن الشرق، بما فيه المنطقة الإسلامية. وهذا ما يشير بوضوح إلى هيمنة العقل الاستشراقي في الغرب وقوته وسعته، وفي الوقت نفسه، تؤكد أهمية الشرق للغرب كـ«مَعْجَبة»، كما يصطلح عليه الروائي الفرنسي «فلوبير».

وكما هو واضح من النتاجات الحديثة؛ فإن الكاتب الغربي أو المستشرق الجديد، يفكر – عادة – بعقلية استشراقية ذات بنية جاهزة، أسسها المستشرقون السلف الأكثر تأثيراً في خطاب الاستشراق أمثال: الإنجليزي «وليم لين». والفرنسيين «دي ساسي»، و«راينهارت دوزي» و«ارنست رينان» خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلى مساهمة الروائيين الفرنسيين «فلوبير» و«دو لامارتين»، وكذلك من جاء بعدهم من المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم، والذين شكّلوا بنية خطاب الاستشراق الغربي الحديث، خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأبرزهم: «هاملتون جيب»، «لويس ماسينيون»، «فلهاوزن»، «غولد سهير» و«دنكن مكدونالد»، و«مرجليوث». كما كان لجهود بعض السياسيين الغربيين كـ«بنيامين دزرائيلي» و«كرومر» و«جيمس بلفور» و«لورانس» أثر بارز في هذا المجال.

وفي النتيجة؛ فإن الخطاب الاستشراقي ساهم مساهمة أساسية في تشكيل الوعي الغربي الثابت بالشرق وبالإسلام، وقلّما تمكّن كاتب غربي معاصر من الإفلات منه؛ لأنه يمثّل جزءاً من وعي الذات الغربية، رغم أن بعضهم يدّعي منهجاً جديداً في الدراسات الإنسانية ينسجم مع الفكر الليبرالي الحديث، في مقابل الفكر الأصولي الغربي الحديث، إلا أن الدراسات الأكاديمية الاستشراقية غالباً ما تكون أصولية، أي إنها تعيد إنتاج البنى والأفكار نفسها، وفقاً لمتغيرات وأحداث المرحلة الجديدة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment