خرافة أن الشيخ المفيد هو مؤسس المذهب الشيعي بدعم الدولة البويهية

Last Updated: 2024/04/14By

خرافة أن الشيخ المفيد هو مؤسس المذهب الشيعي بدعم الدولة البويهية

د. علي المؤمن

هناك فرق جوهري بين التدوين والتأسيس؛ فالمفيد والكليني والصدوق والمرتضى والطوسي، كان لهم الدور الريادي في حفظ روايات الشيعة وتدوين عقائد التشيع وقواعده الحديثية والفقهية، بناء على أحاديث الرسول والأئمة في التفسير والعقيدة والفقه والسنن، وليس بناء على آرائهم واجتهاداتهم؛ فهؤلاء العلماء لم يجتهدوا في الثوابت التأسيسية التي قررها القرآن وسنة الرسول وأهل بيته، بل اجتهدوا في الموضوعات الجديدة التي لم يكن فيها حكم سابق، كما دوّنوا الكتب الحديثية الأربعة التي نسميها مجازاً (صحاح الشيعة)، وهي “الكافي” و”التهذيب” و”الاستبصار” و”من لا يحضره الفقيه”، وهي عبارة عن كتب حديث عن الرسول والأئمة.

أما ما دوّنه مرجع الشيعة الشيخ المفيد من كتب ورسائل في العقيدة والحديث والفقه وأصوله، تجاوزت المائتي رسالة وكتاب؛ فهي ليست اجتهاداته الشخصية، إلّا في الموضوعات التي ليس فيها حكم من القرآن والسنة، أو لا تتعارض معهما، بل أن ما دوّنه في العقيدة والفقه استند فيه الى مصدري التشريع: القرآن والسنة، وكذلك الى المدونات الحديثية والعقدية والفقهية الشيعية الكثيرة التي سبقته بأكثر من مائة عام، ولاسيما مدونات تلاميذ الإمام الصادق، كالمفضل وهشام وزرارة وأبان، وكذلك الأصول الأربعمائة التي كتبها (400) محدث وراو ومدون، وكلها عن أئمة آل البيت. وكلهم سبقوا المفيد بعشرات السنين، بل أن أستاذيه الصدوق وابن الجنيد كتبا قبله عشرات الرسائل والكتب العقدية والفقهية، وهي التي تتلمذ المفيد عليها وعلى غيرها، وأخذ منها.

وبالتالي؛ فإن قواعد المذهب الشيعي، الذي يمثل مدرسة آل البيت، تأسست في عهد الرسول والأئمة بالتدريج، ولكن كان للإمام جعفر الصادق الدور الأهم في إظهار هذه القواعد ونشرها على أوسع نطاق، بسبب الظرف السياسي المؤاتي حينها. كما أن تدوين السنة والحديث تبلور في عهده وبإشرافه، وذلك على يد تلامذته، ولذلك عرف مذهب آل البيت بالمذهب الجعفري، نسبة الى الإمام جعفر الصادق.

ربما تنطبق قاعدة تأسيس الفقهاء للفرق والمذاهب على غير مدرسة آل البيت، كالأشعرية والمعتزلية والسلفية والإباضية والظاهرية والمالكية والحنفية والشافعية والحنبلية وغيرها، باعتبارها فرقاً ومذاهب أسسها المتكلمون والفقهاء، بينما لا تنطبق هذه القاعدة على المذهب الشيعي الإثني عشري إطلاقاً، لأنه تأسس في جانبه الحديثي والتفسيري والعقدي والفقهي، وجانبه الاجتماعي الديني، على يد أئمة آل البيت.

تجدر الإشارة الى أنني ذكرت في كتاب “الاجتماع الديني الشيعي” الأدوار الريادية للعلماء الشيعة الثمانية، وهم: سفراء الإمام المهدي الأربعة، وخاصة السفير الأول عثمان بن سعيد، والمحدثين والفقهاء الأربعة: الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي، وأطلقت عليهم مصطلح (المؤسسون الثمانية)، إلّا أن هذا المصطلح مقيد بالزمان والموضوع، فالزمان اقصد به عصر غيبة الإمام المهدي، والموضوع هو “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”، أي أنني قصدت أنهم المؤسسون الثمانية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، وليسوا مؤسسي المذهب الشيعي الإثني عشري. وهذا التأسيس للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وبلورة الهوية الاجتماعية الدينية الشيعية العالمية، كان عملاً عقلائياً تدبيرياً تنظيمياً مصيرياً، ولم يكن تأسيساً لمذهب أو فرقة أو مدرسة جديدة.

ثم إن الحاجات التي يفرضها الزمان، وتراكم الموضوعات الجديدة بسبب الابتعاد عن زمن التشريع، أدى الى الأخذ بأدوات معرفية جديدة للكشف عن موقف الشريعة، وخاصة علم الدراية وعلم الرجال وعلم أصول الفقه، وهذا لا يعني أيضاً تأسيساّ من قبل العلماء المتأخرين، بل هو استخدام آليات وقواعد عقلية من جنس الثوابت أو لا تتعارض معها، وفي الوقت نفسه تنسجم مع متطلبات الزمان.

ولعل المطلعين يعرفون المعارك العلمية التي كانت تدور رحاها في كربلاء والنجف وغيرهما من الحواضر العلمية الشيعية، بين المدرسة الأخبارية التي ترفض الاجتهاد وترفض علم أصول الفقه، وتأخذ بالأحاديث من الكتب الأربعة وغيرها كمسلمات دون تمحيص، وبين المدرسة الأصولية التي أخذت بالاجتهاد، واستخدمت أصول الفقه لهذا الغرض، وأخضعت كل المدونات الدينية الشيعية للتمحيص والغربلة عبر علمي الدراية والرجال، ونتج عن هذه المعارك اكتساح المدرسة الأصولية لأغلب الوسط العلمي الشيعي وحواضره. وقد عدّ العلماء الأخباريون هذا العمل تأسيساً لمذهب جديد وخروجاً على قواعد المحدثين السلف، كالكليني والصدوق، وهو في الواقع ليس تأسيساً جديداً، وإنما استجابة الى ضرورات تطوير المعرفة الدينية، من خلال عملية الاجتهاد وآلياته المتجددة.

أما الدولة البويهية؛ فلم تكن شيعية إثني عشرية، بل كانت على المذهب الزيدي، ولم تدعم المذهب الشيعي الإثني عشري ولا أي مذهب آخر غير مذهب حكامها، إنما كانت تعطي الحرية لفقهاء ومحدثي المذاهب، بما فيها المذاهب السنية، وهو ما أتاح الفرصة لفقهاء الشيعة ومحدثيهم للتحرك العلمي والميداني بحرية، فضلاً عن أن الدولة البويهية كانت متعاطفة مع الشيعة عموما، وتمنع التعرض لهم، على العكس مما كانوا يعانون منه من قبل، وهو ما جعلهم يتنفسون الحرية لأول مرة منذ تأسيس الدولة الأموية. لكن هذا التعاطف لا يصل الى مستوى تبني المذهب الشيعي الإثني عشري، بل كانت تتعامل تعاملاً سلبياً أحيانا مع الشيخ المفيد؛ إذ نفته مرتين عن بغداد، بمسوغ إخماد الفتنة الطائفية. وبالتالي؛ فزعم تبني الدولة البويهية للشيخ المفيد من أجل تأسيس المذهب الشيعي الإثني عشري، هو خرافة، أكثر من كونه فكرة تستحق البحث.

والخلاصة؛ إن ما قام به العلماء المدونون والمجددون، كالكليني والمفيد والطوسي، ثم ابن إدريس والعلامة الحلي، ثم الوحيد البهبهاني والمقدس الأردبيلي، ثم كاشف الغطاء والجواهري والأنصاري، وصولاً الى الخوئي والصدر والخميني، إنما هو تدوين للثوابت واجتهاد في الثوابت، وليس تأسيساً لعقائد الشيعة وفقههم. ومن يقول بأن المذهب الشيعي أسسه المحدِّثون والفقهاء الشيعة الأُوَل؛ فهو بعيد كل البعد عن المنهج العلمي في البحث، وينطوي مشروعه على أهداف خاصة لضرب المذهب.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment