حوار اللَّه والخلق
حوار اللَّه والخلق
د. علي المؤمن
يكشف القرآن الكريم ثلاثة مجالات للحوار بين الله ومخلوقاته:
1ـ حوار اللَّه والملائكة:
«المادة الأولى» التي يطرحها القرآن الكريم في هذا المجال تتمثل في الحوار الذي جرى حين شاء اللَّه تعالى أن يجعل في الأرض خليفة: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباءهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (البقرة: 30) فاللَّه تعالى صاحب القدرة المطلقة في الكون وعالم الغيب، والشهادة، وخالق الملائكة، ولكنه يحاججهم ويبرهن لهم ويتبادل معهم أطراف الحوار، في هذا المشهد الطويل الذي يعرضه القرآن. وهناك نماذج كثيرة للحوار، من بينها الحوار مع إبليس.
2ـ حوار اللَّه والطبيعة:
ويتمثل في تسبيحها للَّه تعالى ــ ككل الخلق ــ وانصياعها لقوانينه وأوامره وسنته: «وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» (الإسراء: 44)، «تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن» (الإسراء: 44). وهناك أشكال للحوار بين اللَّه ومخلوقاته ـ الحيوانات مثلاً ـ في غاية الدهشة، مثل قوله تعالى: «وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً» (النحل: 68)، وهي تستدعي المزيد من التأمل المعمق في كلمات رب العزة (جلّ وعلى).
3ـ حوار اللَّه والإنسان:
أولى القرآن الكريم هذا المجال من الحوار الاهتمام الكبر، لأن الإنسان هو محور حركة الحوار على الأرض، وهو المعني المباشر بالخطاب الإلهي في القرآن الكريم. وأعطى القرآن الكريم الحوار بين اللَّه والأنبياء خصوصية تميزه عن حوار اللَّه وعامة الناس، لخصوصية الأنبياء أنفسهم. فهم رسل اللَّه والمبشرين والمنذرين باسمه، وهم كلمته إلى البشرية وحجته عليهم، أي أنه الحلقة الأساسية للحوار بين اللَّه والإنسان «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللَّه حجة بعد الرسل» (النساء: 165). ومن النماذج المهمة لحوار اللَّه والأنبياء، الحوار مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(ع) ومحمد(ص) وهي نماذج من الصعب استيعاب عبرها ودروسها جميعاً ويضم حوار اللَّه والأنبياء في مضامينه الأمر والطاعة، البلاغ والتنفيذ والشكوى والعتاب وغيرها من المضامين. يقول تعالى مخاطباً إبراهيم(ع): «فلما ذهب عن إبراهيم الروح وجاءته البشرى يجادلنا في قوم طه» (هود: 74)، ويبدو أن الخطاب الإلهي هنا ليس إخبارياً بل إنشائياً؛ ففيه لون خفي من العتاب.
وهو ما نراه أيضاً في بعض حوارات اللَّه تعالى مع موسى(ع) الذي كلّم اللَّه تكليماً، وأشهرها الحوار الذي بدأه بسؤال فيه طبيعة موسى وحده، والتي ربما تتميز في حوارها مع اللَّه عن باقي الأنبياء: «قال رب أرني أنظر إليك قال تراني ولكن انظر إلى الجبل» (الأعراف: 143). ولعل هذا الطلب جاء رد فعل من موسى على حواره مع قومه: «فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللَّه جهرة» (النساء: 153). وهذا الطلب التعجيزي يعني رفضاً للحوار أو أنه شرط مسبق للحوار، وهو أمر عرف به بنو إسرائيل منذ تبلور عصبيتهم التاريخية وتكوينهم الاجتماعي، كقولهم: «إن اللَّه عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار» (آل عمران: 183). فوضع الشروط المسبقة يعمي مَثَلَ لموضوعية الحوار، ودخول في مرحلة الصراع السلبي، وصولاً إلى العنف والعدوان، ومارس بنو إسرائيل ذلك طيلة تاريخهم.
وفي الخط العام لحوار اللَّه والإنسان، يبرز الدعاء كأحد مضامين الحوار. والدعاء ليس فيه طرف واحد كما قد يبدو، بل هناك داعٍ ومستجيب، وبين الدعوة والاستجابة يكمن الحوار. يقول تعالى: «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان» (البقرة: 186). فالعبد يدعو واللَّه يجيب ويكشف السوء: «أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء» (النمل: 62). كما أن الإنسان يذكر الله، فينزل اللَّه الطمأنينة على الإنسان، ويسقط الإنسان الطمأنينة على نفسه: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب» (الرعد: 28). وفي آيات أخرى نرى أن العبد يستغفر واللَّه يتوب عليه: «فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً» (النصر: 3).
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua