حوار الحضارات ومناهج الدراسات المستقبلية

Last Updated: 2024/04/14By

حوار الحضارات ومناهج الدراسات المستقبلية

د. علي المؤمن

يتميّز مشروع حوار الحضارات بنزعته المستقبلية؛ من خلال توظيف غاياته لبناء مستقبل أفضل للإنسانية، فهو مشروع للمستقبل أكثر من كونه مشروعاً للحاضر، ككل المشروعات الأساسية الكبرى التي تسعى للتغيير بعيد المدى. ومستقبلية المشروع تعبير عن واقعيته وجديته، إذ إنّ سرعة التطورات التي يشهدها الواقع الإنساني جعلت الحاضر لحظة عابرة يصعب الإمساك بها، ودفعت البشرية لتعيش المستقبل بكثير من تفاصيله.

في هذا الإطار، تتبلور فلسفة حوار الحضارات، والمتمثلة في إيجاد مساحات مشتركة للقاء والتفاهم والتكامل بين مستقبَلات المجموعات السكانية ذات الهوية الحضارية المستقلة، والعمل على التقريب بين هذه المستقبَلات للخروج بمشهد (سيناريو) ينطوي على وحدة المصير الذي تواجهه البشرية. ومن المهم جدّاً إخضاع مستقبل مشروع حوار الحضارات لمناهج الدراسات المستقبلية الحديثة، لما تمثله من رهان علمي تعتمده معظم المجتمعات المتقدمة علمياً وتكنولوجياً. لعل الباحث المستقبلي “دي جوفينيل” هو أول من أطلق مصطلح (المستقبَلات = Futures) في مشروعه العالمي الذي أسسه عام 1960 بأموال الملياردير الأمريكي “فورد”، وعمل فيه مئات العلماء والباحثين من مختلف الاختصاصات، وعُرف بمشروع (المستقبَلات الصالحات). كما أنّ (جمعية مستقبل العالم) أقرّت عام 1975 مصطلح (Future reserch) أي (بحث المستقبَلات) كأحد المصطلحات الخاصة بحقل الدراسات المستقبلية (Future studies) أو علم المستقبل (Futurology) أو المستقبلية (Futurism). والمستقبَلات (جمع مستقبل) يقصد بها مشاهد المستقبل، وهي لا تعني الزمن العضوي القادم، بل المشاهد أو الصور التي سيكون عليها المستقبل، وهي مشاهد متنوعة ومختلفة.

والحقيقة، أنّ استشراف المستقبل وتوفير شروط البناء الحضاري المستقبلي لهما علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لا نتحدث عن دراسات فنية أو تقنية فقط، رغم ضرورة هذا اللون من الدراسات، بل نتحدث عن التخطيط الشامل الذي ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، الذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وليس أمام المسلمين سوى إنتاج بديلهم الحضاري هذا بأديهم، فهو البديل الذي يريدونه، وليس الذي يريده الآخرون. ومن خلال هذا الخيار سيمكنهم التحاور والتعامل مع الوجودات الحضارية الأُخر من موقع التناظر والتكافؤ.

وقد طرحنا من خلال منهجية (المستقبلية الإسلامية) مجموعة من الرؤى التأصلية لحقل الدراسات المستقبلية، بالصورة التي يمكن من خلالها التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي المطلوب، وهي منهجية تختلف جذرياً في بناها النظرية، العقائدية والفلسفية، عن اتجاهات المستقبليات الوضعية، إذ إنّها ترتكز في مبادئها على الرؤية الكونية التوحيدية، واستخلاف الإنسان وعلاقة العمل الدنيوي بالجزاء الأُخروي، وتعتمد القرآن الكريم والسنة الشريفة والفكر الإسلامي والخبرة الإنسانية مصادر نظريةً لها، فضلاً عن إحاطتها في الجانب المنهجي الفني بقضايا السنن والوعود الإلهية، والتفسير الإسلامي للتاريخ، وعلم اجتماع الحضارات الإسلامي، وآليات الدراسات المستقبلية الحديثة.

ومن هنا، فهي منهجية شاملة لكل حقول المعرفة، وليست (أحادية) في موضوعها ومجالات تطبيقها، ونرى أنها أكثر انسجاماً مع طبيعة مشروع حوار الحضارات بالصيغة التي طرحها مؤسسوه ومنظروه؛ لأن حوار الحضارات مشروع تأصيلي ينطلق من عقلية إسلامية منفتحة على العصر وحاجاته، ويتميز بأُفقه العالمي، وتطلعاته التغييرية الدولية.

إنَّ من شأن الدراسات المستقبلية استشراف نوعية التحديات المشتركة التي تعرِّض مستقبل البشرية إلى الخطر وتقضي على الأمل الذي يقدِّمه مشروع حوار الحضارات بمستقبل أفضل للبشرية، كما تحاول إيجاد الحلول التي تدفع مهمة التصدي لهذه التحديات نحو النجاح. وهنا يكمن بُعد آخر للواقعية التي نطمح أن تطبع مشروع حوار الحضارات، فدون هذه الواقعية لا يستطيع المشروع مواصلة حركته بالمضمون الذي يمكنه من أن يكون مؤثراً في الواقع الدولي، وليس متأثراً وحسب. كما لا أعتقد أنّ استمرار المشروع هدف بذاته، وإن كان هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية، ولكن الهدف الحقيقي هو أن يتحول المشروع إلى إحدى المعادلات الأساسية التي تنظّم حركة اللاعبين الدوليين، سواء الذين يمثلون الحضارات أو الدول أو المجتمعات.

وقد يكون المفكر الفرنسي المسلم “روجيه غارودي” من الرواد الذين ربطوا بين حوار الحضارات والدراسات المستقبلية وبناء البدائل الحضارية والمشروع العالمي المستقبلي الذي تساهم البشرية جمعاء في بنائه، بهدف الحصول على مستقبلٍ أفضل يضمن للجميع الحياة الإنسانية الكريمة، إذ يقول: ((إنّ الحوار بين الحضارات هو وحده الذي يمكن أن يولِّد مشروعاً كونياً يتّسق مع اختراع المستقبل، وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع)). ويؤكد ضرورة استثمار نزعة (المستقبلية) في هذا المجال؛ لتصور المستقبل والتفكير بغايات البشرية، ومعرفة ما للتاريخ من أهمية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment