حزب الدعوة الإسلامية.. بداية التغيير في العراق

Last Updated: 2024/04/14By

حزب الدعوة الإسلامية.. بداية التغيير في العراق

د. علي المؤمن

لقد نشأ حزب الدعوة الإسلامية على أسس إيجاد تغيير جذري في الواقع الشيعي العراقي والإقليمي والعالمي. فهو حزب إسلامي شيعي حضاري؛ قائم على قواعد فقه مذهب الإمام جعفر الصادق؛ على الرغم من حمله مبادئ الوحدة الإسلامية والتلاحم الوطني، ورغم استقطابه أعضاء سنة عرب من لبنان والأردن والعراق وغيرها في فترة سبعينات القرن الماضي. وهذه العناصر تعضد فلسفته في التغيير، وبنيته العقدية والفقهية والسياسية القائمة على أساس وصوله إلى السلطة وتأسيس حكم إسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية.

وبصرف النظر عن الماهية الفقهية للنظام الذي يطمح الحزب إلى تأسيسه؛ فإن مجرد وصول أعضاء حزب الدعوة إلى الحكم في العراق؛ يعني تغيير هوية الدولة العراقية تلقائياً لمصلحة الشيعة؛ أياً كانت شعارات الحزب في مرحلة الدولة، وكيفما كانت ممارساته. وبالتالي؛ فهو انقلاب تاريخي في البنية المذهبية القومية للسلطة العراقية؛ التي يبلغ عمرها 1350 عاماً. فأعضاء حزب الدعوة الشيعة؛ فيهم عرب وكرد وتركمان وفرس وشبك، وبإمكان أي عضو أن يكون رئيساً للجمهورية أو الحكومة. وهذا هو نوع الصدمة التاريخية الذي صنع جذورها حزب الدعوة؛ منذ البدء بالتفكير بتشكيله في العام 1956؛ وحتى تبلور فلسفته وايديولوجيته الانقلابية التغييرية على يد المنظرين الأوائل؛ وفي مقدمهم السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ثم عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي، وصولاً إلى السيد محمد حسين فضل الله والسيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي، ثم دخوله معترك العمل الحكومي على يد السيد إبراهيم الجعفري وعز الدين سليم والسيد هاشم الموسوي ونوري المالكي وعلي الأديب وخضير الخزاعي وحيدر العبادي والشيخ عبد الحليم الزهيري وطارق نجم.

إن أصول التغيير الجذري الانقلابي في الواقع الطائفي العنصري للدولة العراقية، تعود إلى تأسيس نظرية حزب الدعوة وانتشارها وتنفيذ مشروعها. فقد كان منظرو الدعوة يرون أن التغيير الحقيقي في العراق واستقراره هو بتأسيس الحكم الإسلامي الإنساني العادل الذي يحترم القوميات والمذاهب والأديان المكونة للعراق، ويتعامل معها على وفق القواعد المتوازنة التي تعطي لجميع المكونات حقوقها الإنسانية الطبيعية وتكفل لها حريتها. وهذا اللون من التغيير الجذري الهادف إلى التأسيس لدولة العدل والحقوق والحريات والإنسان والقانون؛ يتعارض كلياً مع البنية الايديولوجية للسلطة العراقية التقليدية ومساراتها التاريخية وسلوكياتها منذ مئات السنين. ومن هنا كانت نظرية حزب الدعوة تمثل خطراً كبيراً على هذه السلطة؛ فكان القمع الدموي الرهيب الذي تعرض له حزب الدعوة منذ وصول حزب البعث إلى السلطة وحتى سقوطه؛ لا يهدف إلى القضاء على جماعة سياسية معارضة؛ بل يهدف إلى تدمير نظرية «الدعوة» التي تهدد بنية السلطة العراقية التاريخية، وقاعدتها الطائفية العنصرية.

في مرحلة البناء الفكري والتنظيمي التي عاشها حزب الدعوة بسرية طيلة 22 عاماً؛ نظّر كثيراً للحكم العقائدي العادل الذي ينشد تطبيقه، وكان تنظيراً مثالياً تنقصه التجربة. ولكن مرحلة المعارضة العلنية والصراع مع حكم البعث الذي استمر من العام 1979 وحتى العام 2003؛ ومعايشة الحزب لنشوء الدولة الإسلامية الإيرانية ومساراتها، ثم معايشته القريبة لتجربة حزب الله المنفتحة في لبنان، وكذا تعرف الدعاة عن قرب على واقع الديمقراطيات التقليدية في أوروبا، وتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا؛ دفعت حزب الدعوة إلى تنظيرات جديدة؛ أسدلت الستار على كثير من أفكار ما قبل العام 1979. وكان هذا التنظير أكثر قرباً إلى الواقع، ويتلمس تجارب التطبيق في أكثر من بلد.

وحين دخل حزب الدعوة الإسلامية معترك المشاركة في حكم العراق دخولاً مباشراً ومفاجئاً؛ دون تحضيرات فكرية وفقهية كافية، ودون استعدادات سياسية وتنظيمية؛ فإن مشاكل تثبيت السلطة، وأزمات إدارة الحكومة والدولة، ومقاومة المد الإرهابي المضاد؛ أخذته بعيداً عن التنظير لحل أزمات العراق حلاً علمياً حقيقياً؛ مستمداً من نظريته الإسلامية؛ وصولاً إلى بناء الدولة الإنسانية المؤمنة العادلة، التي نادى بها منظرو الدعوة الكبار: السيد محمد باقر الصدر وعبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي ومحمد مهدي الآصفي. وبقي «الدعاة» منذ وصول السيد إبراهيم الجعفري وعز الدين سليم في العام 2004 إلى رئاسة مجلس الحكم الانتقالي، ثم قيادة نوري المالكي البلاد خلال دورتين حكوميتين؛ من العام 2006 وحتى تشكيل حيدر العبادي حكومته في العام 2014؛ منشغلين بالواقع اليومي الصعب والمأزوم.

والحقيقة أن تجاوز «الدعاة» لأوجاع تنازل نوري المالكي عن رئاسة الحكومة العراقية، ومخاضات تشكيل حيدر العبادي حكومته، وما كشفه الحدثان من صور ومشاهد؛ فرضت عليهم التأمل والتفكير العميق في سلوكياتهم السياسية، والمراجعة الحقيقية لفكر حزب الدعوة ونظريته وواقعه، والعلاقات بين أجنحته، والتنظير لمبادئ الحكم والدولة؛ كما تراها نظرية «الدعوة»، وكما يفرضه الواقع العراقي الجديد وتنوعه الفكري والمذهبي والقومي، وإيجاد مقاييس ومعايير للتوازن بين ممارسة الدعوة الدينية الإسلامية، وممارسة السلطة السياسية؛ أي بين الدعوة كمنظومة دعوية تبليغية دينية، وبين الدعوة كحزب سياسي يمارس السلطة العامة؛ كيلا يرتفع منسوب السياسة وينخفض منسوب الدعوة. ويخرج هذا الجهد بصورة بحوث ذات تخصص دقيق في نظرية الدعوة وفكرها، وفي العقيدة والفقه السياسي الإسلامي والأخلاق، وفي علوم الاجتماع والقانون والسياسة والاقتصاد والإعلام. ولعل المبادرة الفكرية الجادة الوحيدة في هذا المجال؛ هي التي طرحها أمين عام حزب الدعوة نوري المالكي عبر دراساته الثلاث التي نشرها خلال العام 2015: «حزب الدعوة الإسلامية والقدرة على المراجعة المستمرة» و«العودة إلى الدعوة» و«الحركات الإسلامية وتجربة المشاركة في الحكم».

خصوم «الدعوة» وفهم منهجها

لسنا هنا بصدد شرح تفاصيل المنظومة الايديولوجية والمنهجية والسلوكية لحزب الدعوة الإسلامية؛ والتي تجعله سباقاً إلى تحقيق أهدافه، ودقيقاً في معالجة العقبات ومواجهة التحديات. ولسنا أيضاً بصدد شرح طريقة تفكير الدعاة كما تفرضها تلك المنهجية؛ ولكن نوضح باختصار طبيعة هذه المنهجية وقواعد تكوينها وكيفية التعامل معها. وهذا الجانب المعرفي مهم جداً في فهم الفرقاء السياسيين لحزب الدعوة؛ سواء كانوا متحالفين معه أو خصوماً له؛ لأن سوء تنظيم العلاقة بين حزب الدعوة والآخرين؛ يؤدي دائماً إلى أزمات ومشاكل مستعصية. وقد لاحظنا بعد العام 2003 أن معظم الجهات السياسية تعاملت تعاملاً انفعالياً وارتجالياً مع الدعاة. وظل هذا النوع من التعامل يزيد من أسهم حزب الدعوة ويساعده في الوصول لأهدافه بأسرع وقت؛ مما يزيد من غضب هذه الجهات وتشنجها، ولاسيما الجماعات التي تنتمي إلى المكون الواحد نفسه، وتواجه تحديات مشتركة كبرى.

باختصار وبمنهج توصيفي؛ إن حزب الدعوة هو أول حزب إسلامي شيعي عالمي، يمتلك ايديولوجيا شاملة في العقيدة والفكر والثقافة والسياسة والتنظيم والسلوك الجمعي والفردي، ويمتلك منهجا في إدارة المجتمع واستلام السلطة وقيادة العمل السياسي. وقد بلغ عمر حزب الدعوة أكثر من (65) سنة. وهذا العمر مليء بالتحديات والصراعات والتضحيات؛ منذ اليوم الأول لتأسيسه؛ بدءاً بالصراعات والتنافس والتجاذب داخل الحوزات العلمية وعلى تسميات المرجعيات وعلى استقطاب علماء الدين والمثقفين الشيعة من كل دول العالم؛ مروراً بالصراعات مع الأحزاب الشيوعية والقومية والبعثية، وانتهاء بالصراعات المصيرية الوجودية مع السلطات في العراق وإيران ولبنان والبحرين والكويت وغيرها. أي أن الدعاة بطبيعتهم يولدون من رحم الصراعات الفكرية والثقافية والسياسية والمسلحة، والجدل الايديولوجي، والخطر الدائم الداهم، والمعاناة اليومية؛ فكان عنوان «عضو في حزب الدعوة» يعني الإعدام والقتل لدى السلطة العراقية قبل العام 2003، ويعني الانحراف الفكري والعقدي لدى بعض الجماعات الدينية والسياسية الشيعية، ويعني الطائفية والصفوية والمجوسية لدى بعض الجماعات السنية. وظلت استقلالية حزب الدعوة في منهجه وفكره سبباً في معظم انشقاقاته وكثير من مشاكله الداخلية والخارجية؛ وإن ظلت بعض سلوكياته وسلوكيات أعضائه توحي بالتولي لإحدى المرجعيات الدينية النجفية أو القمية أو البيروتية أو الطهرانية، أو للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وبالتالي؛ فهو يعتبر نفسه منذ أن تأسس وحتى الآن؛ كياناً سياسيا دينياً مستقلاً قائماً بذاته.

وقد خلقت الأجواء الصعبة المتفاعلة المتخمة بالغليان الفكري والسياسي طوال 58 عاماً من عمر حزب الدعوة؛ وفي أكثر من بلد؛ خبرة تراكمية سياسية وفكرية كبيرة، وقدرة هائلة على الجدل والفعل لدى «الدعوة» و«الدعاة». وهذه الخبرة التراكمية التي يمتلكها حزب الدعوة ليست خبرة عراقية وحسب؛ بل خبرة مزيجة فريدة لا تشبه أي من التنظيمات السياسية العراقية أو الشيعية؛ بالنظر لانتماء مؤسسيه وكوادره إلى عدة بلدان؛ ولاسيما العراق ولبنان وإيران؛ وهو المثلث الشيعي الأكثر خبرة ونضوجاً سياسياً.

أما مشكلة الفرقاء السياسيين المنافسين لحزب الدعوة؛ فتكمن في أنهم لا يرون في الدعاة وأجنحة «الدعوة» إلّا المظاهر والظاهر، ولا يعرفون بعمق حقائق حزب الدعوة ومنهجه وسلوكياته، وطريقة تفكير «الدعاة». وبالتالي يتعاملون مع حزب الدعوة من منطلق التحدي والمواجهة العشوائية والعناد، فضلاً عن الرهان على إسقاطه وتشقيقه وتفتيته. والحال أن الدخول مع حزب الدعوة في خصومة وتنافس خاضع لأساليب التحدي والتهديد بالعدّة والعدد، أو الاحتراب الإعلامي والسياسي والمسلح، أو الاتهام العقيدي والايديولوجي؛ لا ينفع الخصم مطلقاً؛ بل إنه يضر بالخصم وبالساحة المشتركة التي تجمعهما وبالمجتمع الواحد الذي ينتميان إليه. صحيح أن التنافس مع حزب الدعوة أمر مشروع وطبيعي من قبل الفرقاء السياسيين أو الأضداد النوعيين؛ ولكن لهذا التنافس شروط موضوعية؛ تراعي سمعة حزب الدعوة التاريخية في الوعي الشعبي الشيعي، وسمعة مؤسسيه ورواده، ومستوياتهم ومواقعهم العلمية والدينية والفكرية، ومسيرته الطويلة المتخمة بالصراعات والتحديات والتضحيات والكفاح، وخبرته التراكمية الممتدة، وقدراته التوالدية الذاتية، ومنهجه الايديولوجي المتقن الشامل، وامتداداته التنظيمية والمنهجية في البلدان الأخرى، ولوبيات التأثير المعمِّرة التي تدعمه في الوسط السياسي الشيعي خارج العراق.

هذه الحقائق؛ تجعل حزب الدعوة يرى في نفسه أنه الأحق موضوعياً في تصدر المشهد السياسي الشيعي بشكل خاص والعراقي بشكل عام، وفي الحصول على المساحة الأوسع من مواقع القرار، وأنه الأقدر ذاتياً على الوصول إليها؛ إذ يرى أن بينه وبين الآخرين فوارق كبيرة في المسيرة التاريخية، وفي حجم الهيمنة التقليدية على الساحة الشيعية، وسنين طويلة من الخبرة التراكمية الشاملة.

ولا نتحدث هنا بمنهجية معيارية؛ لكيلا نذهب بالبحث نحو إيجابيات حزب الدعوة وإنجازاته، أو سلبياته وأخطائه؛ فهذه ليست مهمة الباحث ومنهجه الوصفي التحليلي. بل ما نريد قوله هو أن حزب الدعوة؛ سواء أحبه الحلفاء أو كرهه الخصوم؛ فإنه قدر موجود وراسخ وكبير في الساحة العراقية والشيعية العالمية، وهو الحركة الأم في الساحة السياسية الشيعية العراقية والعربية؛ ولا يمكن التعامل معه إلّا بمقدار حجمه ونوعه وقدراته وتاريخه؛ حاله حال كل التيارات والوجودات الأخرى الراسخة في الساحة العراقية؛ كالحزب الديمقراطي الكردستاني؛ الحركة الأم للساحة السياسية والاجتماعية الكردية في العراق وخارجه، والحزب الشيوعي العراقي؛ الحزب الأم للحركة الماركسية العراقية؛ وصولاً إلى المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري وغيرهما. وهذه التيارات هي أيضاً قدر لا يمكن تجاوزه؛ لأنها ليست تيارات سياسية وحسب؛ وإنما وجودات ايديولوجية واجتماعية كبيرة؛ وما ينجم عن الصراعات السياسية فيما بينها؛ صراعات مجتمعية خطيرة. وعدم التعامل الموضوعي الواقعي الذي ينسجم مع حقائق كل منها؛ أدى خلال سنوات ما بعد تأسيس العراق الجديد إلى نتائج سلبية تعود على الطرف الذي يجهل أو يتجاهل قدرة خصمه وحجمه المعنوي وغير المحسوس.

ولذلك يبدو أن معظم الفرقاء السياسيين لا يدركون حقيقة القدرة المعنوية وغير المحسوسة التي يمتلكها حزب الدعوة والدعاة. ولهذا أخذ هؤلاء الفرقاء يستخدمون منذ العام 2003 أساليب الخصومة التي لا تراعي المعايير المذكورة؛ مما جعلهم يخسرون دائماً جولات التنافس مع «الدعوة». وبلغ الأمر ببعضهم إلى الاستخفاف بعدد الدعاة وعدّتهم؛ وبأنهم لا يمتلكون من العدد ما يوازي أصغر جماعة شيعية في العراق. وهذه النظرة إلى حزب الدعوة هي نظرة خاسرة؛ فليس المعيار في اختبار قدرة «الدعوة» هو العدد؛ بل النوع والقدرة غير المحسوسة؛ إذ إن لدى الدعاة خبرة تراكمية هائلة تستطيع تغيير كل الموازين خلال فترة قصيرة؛ فيما لو تحركوا تحركاً جماعياً. مثلاً؛ كان معظم المنافسين والخصوم السياسيين خلال سنوات السقوط الأولى؛ يقول: لم يعد لحزب الدعوة وجود؛ بل هناك دعاة أفراد وتنظيمات صغيرة متناحرة تنتسب إلى «الدعوة»، وهي لا حول لها ولا قوة. كما كان بعضهم يراهن على اضمحلال «الدعوة» في غضون سنوات قليلة. وهذا المنهج غير الواقعي في النظرة إلى خصم ومنافس مثل حزب الدعوة؛ مكًن الأخير من الإمساك برئاسة الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة منذ العام 2006 وحتى كتابة هذه السطور؛ دون أن يستخدم العنف والسلاح؛ بل من خلال الممكن السياسي وفن بناء المعادلات واستثمار العلاقات والفهم الحقيقي لقدرة الفرقاء السياسيين، وصولاً إلى استثمار أخطاء الخصوم بحقه وانفعالاتهم معه.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment