حرية التفكير وحرية التعبير

Last Updated: 2024/04/14By

حرية التفكير وحرية التعبير

د. علي المؤمن

ينقسم موضوع حرية الفكر والاعتقاد الى شقين، يتمثل الأول في إرادة الفكر والمقدرة الذاتية على اختيار الفكرة والمعتقد، والثاني هو التعبير عما يعتقد به أو يبشر بما يعتقد به بالوسائل العامة والخاصة.

1- حرية التفكير:  

إرادة التفكير هي إرادة حرة مطلقة تعبر عن إمكانية حركة العقل التي لا تقف عند حدود، إلا فيما يتعلق بأسرار الغيب ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم))، لأنها أسرار مغيبة ــ أساساً ــ عن عقل الإنسان، وعند محاولة فك هذه الأسرار ستحصل للإنسان شبهات يعجز عن حلها، بسبب افتقاده أدوات المعرفة الموصلة لها، باستثناء آثارها المحسوسة. وهذه الإرادة المطلقة على التفكير، تصاحبها ضوابط تتعلق بالمسؤولية والجزاء الأُخروي ((إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)).

وهناك قيد آخر يتعلق بعدم إمكانية التحرر والتجرد من كل الأفكار والضوابط على النحو المطلق، ومنها – مثلاً – القواعد المنطقية التي تقود الى «التفكير الصحيح» أو «التفكير المنطقي» بدل «التفكير الحر المطلق». والتفكير الصحيح هو نتاج الحرية الفكرية الإيجابية، بينما تؤدي الحرية الفكرية السلبية الى أن يضع الإنسان لنفسه نماذج فكرية معينة، يخيِّر نفسه بينها، أو يفرض على نفسه أنموذجاً خاصاً. وهذا جزء من الإرهاب الفكري الذي يمارسه الإنسان ضد نفسه وضد الآخرين، كما في الأفكار (الصنمية) النمطية التي بلورت وأنتجت العقلية الغربية عبر الزمن وكبّلتها بهذه القيود، سواء فيما يتعلق بالذات أو الآخر أو باقي موضوعات الحياة.

ويؤكد القرآن الكريم في الكثير من الآيات على إرادة الإنسان الحرة في اختيار الفكرة والعقيدة التي ينسجم معها، والتي يتحمل مسؤوليتها – وحده – في الدنيا والآخرة: ((لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي))، وفي آيات أخرى: ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين))، ((فذكّر إنما أنت مذّكر * لست عليهم بمصيطر))، ((من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)). ويُستفاد من هذه الآيات في مجال التعايش والتفاهم مع أتباع الديانات الأخرى، وعدم إلغاء العقائد الأخرى، وعدم التعرّض لحرية أتباعها، لكنها تحملهم مسؤولية عدم ممارسة أي خطاب أو سلوك من شأنهما المساس بوحدة مجتمع المسلمين وأمنه.

ويبقى أن إرادة الإنسان وحريته الذاتية المطلقة في الاختيار، وفي اتباع ما يختار من أفكار ومعتقدات، لا تعني – وفق التصور الإسلامي – أن هذه المعتقدات مجزية أمام الله، وإن كان المسلمون (أفراداً وجماعات ونظم) لا يحاسبون معتنقيها على ما يعتقدون به، إلا إذا أدّت إلى مَفسَدة اجتماعية، أي أن الله هو الذي يحاسب الإنسان على معتقداته حصراً، بعد أن أعطاه العقل وجعله حجة عليه، وبعث الأنبياء والرسل ليتبعهم الناس ((ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً))، بل أن الله لا يحاسب ولا يعذب قبل أن يلقي الحجة على الإنسان ويذكره وينذره ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)).

    2- حرية التعبير:

إذا كانت حرية التفكير والاعتقاد فطرية كما أسلفنا؛ فإن التعبير عن الفكر والمعتقد ليس أمراً فطرياً، وهما بذلك يشبهان الحب والبغض، فهما فطريان بذاتهما، ولكن التعبير والإعلان عنهما يرتبطان بالعلاقة مع الآخرين والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً. وعند هذه النقطة نصل إلى الشق الثاني من موضوع الحرية الفكرية، والمتمثل في حرية التعبير عن الفكر.

إن مديات حركة التفكير وحدودها تتوقف على طبيعة الأساليب المستخدمة فيها؛ فهناك ثوابت عقلية في هذا المجال، يمكن أن تشكّل قاسماً مشتركاً ((كلمة سواء)) بين المدارس الفكرية التي تدعو لحرية الرأي والكلمة، بما فيها المدرسة الإسلامية. ومن أبرز هذه الثوابت، أن تكون أساليب التعبير عن الفكر أو الشك أو الرأي، أساليب موضوعية، وسليمة، وغير عدوانية، ولا تهدف أو تنتهي إلى إثارة فتنة أو بلبلة اجتماعية. وما تختص به المدرسة الإسلامية، هو الانطلاق في ممارسة حرية التعبير وفي تحديد الموقف منه، من موقع المسؤولية المناطة بالإنسان على الأرض. أي موقع الخلافة الربانية، ومسؤولية الكلمة في الحياة الدنيا أمام الأمة والنظام الاجتماعي وفي الآخرة أمام الله ((وقفوهم إنهم مسؤولون)).

أما وسائل التعبير فتشتمل على الإعلان العام والخاص والحوار عبر وسائل الاتصال المباشر وغير المباشر. وللتعبير أيضاً مرتبتان، الأولى تتمثل في توضيح الفكر والمعتقد والدفاع عن الموقف الفكري والعقدي، والثانية في التبشير بالفكر ودعوة الآخرين اليها بالوسائل العامة والخاصة. ويحدثنا القرآن الكريم عن مستوى الحرية الذي كان رسول الله يمنحه لمحاوريه خلال الحوارات العقيدية التي كانت تدور بينه وبين المشركين والنصارى واليهود: ((يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم))، وكذلك الحوارات الفكرية والسياسية بين الإمام علي وخصومه من الناكثين والخوارج وغيرهم، والحوارات العقائدية والفقهية الحرة التي كانت تعقد بين الإمام الصادق وأصحاب مختلف المدارس الكلامية والفقهية السائدة في بدايات العصر العباسي، وحتى رموز الزندقة.

وفي العصر الحاضر، حيث بلغت وسائل الاتصال غير المباشر (الإعلام المقروء والمسموع والمرئي) إحدى أرقى درجات سلّم التقدم التكنولوجي، أصبحت حرية التعبير مساوقة – غالباً – لحرية الدعوة للفكر، ومنه الفكر غير المسؤول أو المنحرف أو الكافر، وما يترتب على ذلك من سلبيات ومفاسد فكرية واجتماعية لا حصر لها. والنتيجة: الضلال، بمختلف أنواعه ومراتبه. وربما هناك ثمة ضرورة في إعطاء الفكر الآخر (الوضعي والمنحرف) فرصته وحريته في تأكيد طروحاته، كما يقول أحد الفقهاء، وذلك لسببين:

الأول: سيكتشف الناس، من خلال المقارنة بين الفكر الآخر والفكر الإسلامي، نقاط الضعف التي يختزنها الفكر الآخر، مما يمكن أن نطلق عليه الباطل، في مقابل نقاط القوة التي يمتلكها الفكر الإسلامي. وبذلك فإن حرية الفكر لن تؤدي هنا إلى الضلال، بل إلى نصرة الحق.

الثاني: الحيلولة دون حصول الفكر الآخر على العطف في الوسط الفكري والثقافي الشعبي، فقمع الفكر الآخر سيوحي للناس بأنه فكر مضطهد، وأنه يملك القوة الذاتية التي يضطر الفكر الإسلامي وسلطته لقمعها، لحماية نفسيهما.

والمؤكد أن خيار منح الفكر الآخر فرصته وحريته في التعبير عن طروحاته سيكون منتجاً على النحو المطلوب، فيما لو تحققت فيه الثوابت التالية:

  • أن يمتلك الفكر الإسلامي وسائل تعبير متكافئة من الناحيتين الكمية والنوعية، مع ما يمتلكه الفكر الآخر؛ بغية تحقيق التوازن في إمكانات الطرح والإعلام والإعلان. أما وجود الفارق النوعي والكمي في إمكانات التعبير لدى الطرفين؛ سيؤدي الى غياب الحقيقة وإثارة الشكوك والبلبلة المجتمعية.
  • أن يعبّر الفكر الآخر عن نفسه، ضمن الثوابت الأسلوبية الموضوعية التي تحول دون تهديد الأمن الاجتماعي.
  • ألّا يمثّل الفكر الآخر في نفسه ارتداداً صريحاً عن الإسلام أو دعوة للارتداد والإلحاد.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment