حركة الوضع في السنة النبوية كمتلازمة للخلافات

Last Updated: 2024/04/14By

حركة الوضع في السنة النبوية كمتلازمة للخلافات المذهبية

د. علي المؤمن

من أهم القضايا التي جرّت البلاء على المسلمين، وعمّقت ما بينهم من فرقة وخلاف، هي حركة وضع الحديث والرواية، التي أصبحت عنصراً بارزاً من عناصر تحريف تعاليم الإسلام وأحكامه، ومن قواعد التعصب الطائفي. وقد بدأت على يد الراهب اليهودي كعب الأحبار، الذي أعلن إسلامه، لكنه استمر مع آخرين من اليهود والمنافقين، في الكيد بالإسلام، من خلال الوضع في الحديث ودس الروايات، وهو ما يعرف في علم الحديث بـــ “الإسرائيليات”.

واستمراراً لهذا النهج اليهودي، قام آل أُمية، بدءاً من ولاية معاوية، بأخطر مؤامرة لحرف عقائد الإسلام وأحكامه، عبر التأسيس لمدرستهم الخاصة للوضع في سنة رسول الله وتحريفها، واختلاق الأحاديث وتحريف الصحيح منها، وأخذت عملية التحريف والدس في الحديث والرواية والتاريخ تأخذ شكلاً منظماً، إذ انكبّ عدد من المحدّثين والمؤرخين على وضع عشرات الأحاديث الكاذبة عن الرسول وتحريف أخرى، الأمر الذي قلب الكثير من الموازين والأحداث، وعمّق الشقاق المجتمعي بين المسلمين. وكانت الأحاديث التي وضعت بحق معاوية نفسه، هي الأكثر إثارة للدهشة على حجم الجرأة التي تمتلكها ماكنة الدعاية الأموية.

من هذه الأحاديث، حديث الائتمان، المروي عن واثلة، عن الرسول: «إن الله ائتمن على وحيه جبرائيل وأنا ومعاوية، وكاد أن يبعث معاوية نبياً، من كثرة علمه وائتمانه على كلام ربي، يغفر الله لمعاوية ذنوبه ووقاه حسابه وعلّمه كتابه وجعله هادياً مهدياً وهدى به». ويروي المقدسي أنه كان يوماً بجامع واسط، فإذا برجل يروي عن رسول الله: «إن الله يدني معاوية يوم القيامة، فيجلسه إلى جنبه، ويغلفه بيده، ثم يجلوه على الناس كالعروس»، فقال له المقدسي: كذبت يا ضال!، فأشار الراوي على المقدسي قائلاً للناس: «خذوا هذا الرافضي»؛ فأقبل الناس عليه يريدون الفتك به؛ فعرفه بعض الكتبة ودفعوهم عنه. ويروي المقدسي أيضاً أن في أصفهان من كان يعتقد بأن معاوية مُرسل، وأنه خامس المرسلين بعد الخلفاء الأربعة. ويقول بأنه عندما قال لهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا خلفاء ومعاوية ملكاً، اعتبروا أنه أتاهم بمذهب جديد، حين رفض أن يكون معاوية رسولاً، واتهموه بأنه رافضي، وكادوا يبطشوا به لولا أنه هرب.

ولم تقتصر هذه الحركة الواسعة المتفشية على وضع الحديث عن الرسول، وتحريف ما جاء عنه من حديث صحيح، بل شملت إضافة إلى وضع الرواية واختلاقها أو تحريفها، اختلاق بعض الشخصيات التي ليس لها وجود خارجي ومنها ما نسب إلى الصحابة والتابعين، وكذلك تحريف الأحداث والوقائع التاريخية، وخاصة التي جرت على عهد الرسول والخلفاء الأربعة، واختلاق الكرامات والمعاجز لبعض الصحابة والتابعين والفقهاء وأئمة المذاهب وشخصيات أخرى. وكان ذلك يتم خدمة لأغراض شخصية بحتة أو لخدمة مذهب أو اتجاه فكري معين، أو جهلاً، حين يتصوّر بعضهم أنه يخدم الإسلام بوضعه الأحاديث والروايات التي تعضد الإسلام والقرآن وسنة الرسول. إضافة إلى أن قسماً من الوضاعين والمحرفين كانوا مندسّين في صفوف المسلمين، ويهدفون الكيد للإسلام، وبينهم يهود وزنادقة. وقد لا تهمنا نيات هؤلاء بقدر الآثار التي تركوها.

وفي رسالته لبعض الوضّاعين، فعل معاوية ما هو أخطر من ذلك، حين قال للوضاعين: «لا تتركوا جزءاً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب، إلاّ وأتوني مناقض له في الصحابة مفتعل، فإن هذا أحب إلىَّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة شيعة أبي تراب». فوُضِعت نتيجة ذلك أحاديث لا تحصى، منها ما روي عن رسول الله: أن جبرائيل نزل عليه وقال له: «يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض، فإني عنه راض». وكذلك الحديث المنسوب إلى رسول الله: «لو لم أبعث لبُعث عمر». وحديث آخر عن الرسول أيضاً: «ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب».

وفتح هذا المجال في جانب منه الباب لسنّة أخرى – سنّها معاوية – وهي شتم الإمام علي على المنابر، حيث يقول الجاحظ في كتاب «الرد على الإمامية» بأن معاوية كان يقول في آخر خطبه: «الّلهم إن أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً». فكان الخطباء في سائر البلاد الإسلامية يرددون هذه العبارة على المنابر ويزيدون، وخاصة في خطبتي صلاة الجمعة، حتى منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد أكثر من أربعين عاماً. وحاول الأمويون إعادتها بعد وفاته، لولا رفض هشام بن عبد الملك.

وكرد فعل على سب الإمام علي بن أبي طالب؛ برزت ظاهرة توجيه الإهانة لبعض الصحابة في أوساط بعض أتباع الإمام علي، برغم أن أئمة أهل البيت يكرهون لأتباعهم أن يكونوا سبّابين أصلاً، فحين سمع الإمام علي أن بعض أهل العراق يسبّون أهل الشام، قال: «إني أكره، لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».

واستمرت حركة الوضع والتحريف في السنة النبوية، ووجدت لها سوقاً رائجة ومربحة في فترة ظهور المذاهب، والفترة التي أعقبت رحيل الأئمة الأربعة (أي القرنين الثاني والثالث للهجرة)، حتى أصبحت الخبز اليومي لمعظم الوضّاعين والمحرِّفين.

وكان سيف بن عمرو التميمي (ت 170 هـ) من أبرز هؤلاء الوضّاعين، الذين شوّهوا الكثير من جوانب التأريخ الإسلامي، وتركوا أثراً بالغاً في ساحة الاختلاف والشقاق بين المسلمين، رغم ان مؤرخي ومحدثي السنة والشيعة المتقدمين، قالوا عنه بأنه كذاب وليس بثقة ومتروك الحديث، فالنسائي يذكر بأنه «ضعيف، متروك الحديث، ليس بثقة، ولا مأمون»، ويقول عنه أبو داود: «ليس بشيء، كذاب»، ويقول الحاكم بأنه «متروك، اتهم بالزندقة».

والغريب أن كل هذه الشهادات السلبية التي تنال من عدالة سيف والثقة به، وتؤكد كذب مروياته، لم تثن أو تؤخر عدداً من المؤرخين، وأبرزهم الطبري (في تأريخه)، عن نقل مختلقاته وأكاذيبه التي انفرد بها في كتابيه «الفتوح والردة» و«الجمل ومسير عائشة وعلي»، وأبرزها الأسطورة المعروفة بـ«السبئية»، والتي تتلخص في أن مؤسس التشيع هو رجل يهودي من أهل اليمن اسمه «عبد الله بن سبأ». وكان ابن سبأ – وفق أسطورة سيف – قد أظهر الإسلام وقصد مكة في خلافة عثمان، وأخذ يبشّر بأفكار جديدة حاول دسها في صفوف المسلمين، كيداً للإسلام. وكان محور أفكار ابن سبأ يدور حول أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة، وأنه وصي رسول الله. وادّعى سيف أن ابن سبأ تحرك على بعض الصحابة والتابعين، وتمكن من استقطاب بعضهم إلى مذهبه، كأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومالك بن الأشتر، واستمر يوسع دائرة نشاطه، حتى تم له إعمال الفتنة ضد عثمان، والتي انتهت بمقتله. كما كان «السبئيون» السبب في اندلاع حرب الجمل ومادتها الأساس.

وإذا تجاوزنا سيف وأساطيره، نجد أن التاريخ الإسلامي، يحفل بالمئات من أمثاله. فهناك أكثر من (700) محدِّث وراوية، يمكن الإشارة إليهم بالأسماء، كلهم وضّاعون وكذابون، كانوا يضعون الحديث عن رسول الله(ص) أو يحرفون الصحيح منه، ويضعونه أيضاً على ألسنة أئمة المذاهب الأربعة. ومن هؤلاء أبان بن فيروز بن عياش، الذي نقل أكثر من ألف وخمسمائة حديث ليس لأكثرها أصل، ويقول عنها الإمام ابن حنبل: «إن أبان كذّاب»، ويقول: «لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان».

كما وضع أحمد بن عبد الله الشيباني الجويباري، مع محمد بن تميم ومحمد بن عكاشة عشرة آلاف حديث حديث، ويقول عنه البيهقي: «وضع أكثر من ألف حديث، وسمعت الحاكم يقول: هذا كذاب خبيث، وضع الكثير من فضائل الأعمال، لا تحل رواية حديثه بوجه. وقال السيوطي: وضع ألوف الأحاديث الكراميّة». ووضع عثمان بن مقسم البري الكندي أو حرّف، ما يقرب من خمسة وعشرين ألف حديث، ويقول فيه أبو داود: «في صدري عشرة آلاف حديث عن عثمان وما حدّثت به». ومنهم علي بن الجهم، الذي يقول عنه الشيخ الأميني بأنه «أكذب خلق الله»، كان يلعن أباه لأنه سماه علياً، لشدة كرهه علي بن أبي طالب.

ويقول الجزري عن وضّاع ومحرف آخر اسمه محمد بن حميد الرازي: «ما رأيت أجرأ على الله منه، وقال: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث ولا أحدث عنه بحرف». ومن هؤلاء أيضاً عبد الكريم ابن أبي العوجاء، وهو أحد مشاهير الزنادقة في العصر العباسي، والذي رفض العدول عن ردته، وقال ساعة قتله بأنه ((وضع أربعة آلاف حديث، حلل بها الحرام وحرم الحلال)).

ومن أمثلة الاستخفاف الغريب في مجال وضع الحديث، ما فعله الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (والد الرشيد)، حيث دفع عشرة آلاف دينار لغياث بن ابراهيم النخعي، وهو أحد محدثي عصره، بعد أن وضع حديثاً عن الرسول، كدليل من السنة النبوية لتسويغ حب الخليفة اللعب بالحمام، فقال غياث، عن الرسول: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح»، وهنا أضاف «جناح» إلى نص الحديث الصحيح. وحين قام غياث قال المهدي: «أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله جناح، ولكنه أراد أن يتقرب إلي».

ومن مجموعة السبعمائة وضّاع، خمسة وثلاثون فقط وضعوا وقلبوا نحو مائة ألف حديث. وبإضافة المتروكات لستة آخرين منهم، فإن عدد الأحاديث الموضوعة والمحرفة تصل إلى أكثر من أربعمائة ألف حديث. وهو رقم مخيف يستحق الكثير من التأمل.

والسؤال هنا: أين ذهبت تلك الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات الموضوعة والمحرفة؟! وفي أي كتب دست؟!

 

 

 

 

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment