حتمية الشراكة الإنسانية

Last Updated: 2024/04/13By

حتمية الشراكة الإنسانية

د. علي المؤمن

إنّ التشتت الكبير الذي تشهده المجتمعات الإنسانية والتناقضات الهائلة التي تعيشها، تجعل لكل مجتمع مستقبله ومشاهده المستقبلية الخاصة التي يسعى إليها بمعزل عن المجتمعات الأُخر؛ الأمر الذي سيفرز العديد من المستقبَلات المتناقضة والمتنافرة، وهو مصير في غاية الخطورة. ولا شك أنّ وعي حقيقة الشراكة المتكافئة بين البشر على الأرض، سيجعل الحضارات والمدنيات والمجتمعات القائمة تفكِّر بطريقة أُخرى تستبطن وعياً مختلفاً تجاه التحديات المشتركة التي تواجه البشرية والمصير المشترك الذي ينتظرها، فهي تعيش في عالم واحد يصغر يومياً، وتكاد تنعدم المسافات بين الوحدات التي تكوِّنه، مما يقتضي تخطيطاً مشتركاً لمستقبلٍ مبني على الحوار والتفاهم وتبادل الرأي والخبرة، من موقع التكافؤ بين المجموعات البشرية، والعدالة في توزيع الفرص وفي تحديد المسؤولية تجاه الأرض التي تحتضن الجميع، الأرض التي حَمَّل الله تعالى الإنسان أمانة الاستخلاف فيها، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها، فوصف الله تعالى الإنسان بأنّه ظلوم جهول؛ لأنّه استكبر على تعاليم الله وحرف مسؤولية إعمار الأرض إلى الإفساد فيها. فكان الإفساد والانحراف والظلم هي العوامل التي تسبّبت في تشتت البشرية وتناقضها.

إنّ التضاؤل المجازي لحجم العالم حقيقة نتلمسها جميعاً، وقد نتجت عن تكامل مجموعة من الثورات العملاقة، كالثورة التكنولوجية الشاملة، ولا سيما في مجال الاتصالات والمواصلات، والثورة الاقتصادية العابرة للقارات، والتي أفرزت عولمة رأس المال ـ ابتداءً ـ ثم الأشكال الأُخر للعولمة، حتى بدا أنّ تنبؤ عالم الاجتماع الكندي “ماك موهان” بتحوّل العالم إلى قرية، والذي أطلقه في الستينات من القرن العشرين، بدا وكأنه من مخلفات الماضي. فهذا الواقع سيتلاشى خلال العقود الثلاثة القادمة؛ لأنّ الشبكة المتلاحمة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية التي ستشد البشر بعضهم، ستنقلهم إلى خيار آخر هو (البيت العالمي) وليس (القرية العالمية).

وتحوّل الكرة الأرضية إلى بيت سيفرض على حضاراتها وشعوبها ومجتمعاتها أن تسكن في غرف وصالات ذات جدران منخفضة ومكشوفة على بعضها، وستكون هذه الغرف متباينة في حجمها وتأثيثها وإمكانياتها، إذ سيعيش الأقوياء (أصحاب رؤوس الأموال والتكنولوجيا) في صالات فارهة مجهزة بكل وسائل الراحة والسيطرة على سكان الغرف الأُخر؛ لأنهم أسياد هذا البيت بحكم سلطات سياسية اسمية.

أما الضعفاء، وهم معظم سكان البيت، فسيعيشون حالات متباينة، ولكنهم يشتركون في حقيقة واحدة تتمثل في عدم القدرة على تحريك رأس المال إلا بإرادة الأقوياء، وعدم القدرة على امتلاك التكنولوجيا المتطورة التي تجعلهم متساوين مع الأقوياء في القابلية على التأثير. ولا ريب أنّ هذا المشهد المرعب (مشهد البيت العالمي) هو واقع مأساوي وغير عادل، ولكنه الواقع الذي نستشرفه الآن، فيما لو استمرت المعادلات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية التي تحكم العالم على ما هي عليه.

والأهم من ذلك، أنّ سكان الأرض (أو البيت) سيعيشون الشراكة بكل صورها ومضامينها، وباعتباريها الزماني والمكاني (تداخل الأزمنة والأمكنة)؛ فكلما تضاءل حجم العالم ازداد حجم الشراكة بين سكانه؛ لأنّ نظام التأثير والتأثر لن يستثني أحداً، بما في ذلك التأثّر السلبي، ومن ثمَّ سيضم الجميع مصيرٌ واحد، فإذا تصدع البيت أو انهار أو احترق فإنّ الكارثة ستلحق بالجميع.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment