حاكمية الشعب في القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية
حاكمية الشعب في القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية
د. علي المؤمن
تتجسد حاكمية الشعب وسيادته في القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية في ثلاث ركائز أساسية: شكل الدولة (الجمهورية) وقاعدة الحكم (الشورى) والحقوق والحريات العامة والسياسية، وفيما يلي بيان لكل ركيزة:
النظام السياسي في إيران هو نظام جمهوري؛ أي أنّه يعتمد الشعب أساساً لمشروعية الدولة وسلطاتها. ولكي تنسجم (الجمهورية) مع إسلامية الدولة؛ فقد تم تقييدها بمفردة (الإسلامية). وهذا القيد العقدي يعبر هو الآخر عن إرادة الجمهور (الشعب الإيراني) الذي صوّت في الاستفتاء العام على إسلامية جمهوريته، ثم تحوّل مفهوم نظام الجمهورية الإسلامية إلى نص دستوري؛ لتأكيد إسلامية الدولة وأصالتها؛ فضلاً عن طبيعة دور الشعب (الجمهور) فيها. وفي هذا الصدد يقول المفكر الإسلامي الإيراني مرتضى المطهري (ت 1979): ((إنّ كلمة الجمهورية توضح شكل الدولة، وكلمة الإسلامية توضح مضمونها؛ فالجمهورية الإسلامية تعني: الدولة التي يتمثل شكلها بانتخاب عامة الناس لرئيس الحكومة (الجمهورية) مدة مؤقتة، ومحتواها هو أنّها إسلامية)).
والجمهورية الإسلامية التي تأسست في إيران في العام 1979؛ بناءً على إرادة الجمهور؛ هي جمهوريةٌ إسلامية وليست جمهورية المسلمين؛ أي أنّ إسلامية الجمهورية تجسيد لانتماء الدولة عقائدياً إلى الإسلام، وإلى شريعته التي تتحكم في بنائها وفي حركتها. أمّا جمهورية المسلمين فتعني: انتماء الدولة إلى المسلمين؛ بصرف النظر عن قوانينها ونظامها السياسي، وعن الانتماءات العقدية والفكرية لحكامها. وهذا النوع من الجمهورية شبيه بالجمهوريات التي يكون غالبية مواطنيها من المسلمين وتسمى مجازاً (الدول الإسلامية)، أو هي شبيهة في جوهرها بدول المسلمين السلطانية.
كما أنّ الدولة التي أسس لها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي دولة دينية ـ مدنية؛ إذ يكون الانتماء إليها سياسياً؛ أي أنّها دولة المواطنة التي تراعي خصوصيات البلد وتنوعه الديني والمذهبي والفكري والقومي؛ ما يعني أنّ من ينتمي إلى الدولة بالمواطنة؛ ربما لا ينتمي إلى دينها ومذهبها وعقيدتها الفقهية السياسية الرسمية، وربما لا يكون ملتزماً دينياً، ولا يؤمن بدستور الدولة ونظامها السياسي أساساً، ولكنه يتمتع ـ وفق محددات القانون ـ بحقوق المواطنة نفسها التي يتمتع بها الذي ينتمي لكل تفاصيل النظام السياسي للدولة، وما يجمع بين الاثنين هو إطار (الإيرانية) التي ضمنها لهما مفهوم (الجمهورية).
وربما تتشكل في إطار ثنائية (الجمهورية) و(الإسلامية) أو ثنائية (المدنية) و(الدينية)؛ إشكالية حقوقية عنوانها (حكم رجال الدين)، وهي تعني التمييز في الحقوق والحريات بين رجال الدين وغيرهم من سائر المواطنين. والحال أنّ واقع النظام السياسي الإيراني لا يدل على كونه حكم رجال الدين؛ بل هو حكم مدني يستند إلى الشريعة الإسلامية.
ولم يشر دستور الجمهورية الإسلامية وتطبيقاته إلى أيّ تمييز بين رجل الدين وأيّ مواطن آخر أمام القانون أو في شغل أيّ منصب من مناصب الدولة؛ ابتداءً برئاسة الجمهورية وانتهاءً بالدوائر البسيطة. إلّا أنّ ثوابت الشريعة الإسلامية ومبادئ النظام الإسلامي وشرعية حكمه وطبيعة قوانينه؛ تشترط أن يكون بعض المناصب خاص بالفقهاء دون غيرهم؛ أي المجتهدين العدول وليس مطلق علماء الدين، وهي ستة مناصب فقط: القائد (رئيس الدولة)، رئيس السلطة القضائية، المدّعي العام للبلاد، وزير المخابرات، نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور، وأعضاء مجلس خبراء القيادة. ومعيار تسنّم هذه المناصب هو أن يكون من يشغلها فقيهاً عادلاً كفوءاً؛ لأنّ لهذه المناصب أبعاداً دينية أو جوانب ترتبط بالتخصص بقضايا الشريعة الإسلامية، وتترتب عليها أُمور ترتبط ارتباطاً مباشراً بممارسة الاجتهاد، إضافة إلى ضمان الاحتياط إزاء الظلم. وهذه المناصب الستة التي يصل عدد من يشغلها إلى نحو (90) شخصاً؛ لا تشكل سوى اثنين في المئة فقط من عدد المناصب العليا في البلاد.
ما نريده بالشورى هنا، بعيداً عن البحث النظري، الشورى بصفتها آلية لممارسة السلطة؛ عبر مجالس الإشراف والتخطيط والتشريع والتنفيذ والرقابة والتحكم والقضاء. أي أنّ آلية الشورى إلى جانب آلية (ولاية الفقيه) هما آليتا ممارسة السلطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويكملان بعضهما في قيادة حركة الدولة.
وتعني قاعدة الشورى في الحكم: استناد الحكّام في قراراتهم وأدائهم إلى المتخصصين من جهة، والشعب من جهة ثانية؛ عبر آليات وسياقات مؤسَسية واضحة، ولا يستبدّون بقراراتهم وممارساتهم. وتتمثل هذه السياقات في المؤسسات الشورية التي تطبع جسد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بطابعها؛ من قمة النظام وحتى أدنى مستويات عمله. كما تعني الشورى: أنّ دستور الدولة يعبر عن إرادة الشعب وإجماعه؛ كجزء من حقوق الشعب التي كفلها الدستور من جميع النواحي.
والشورى أيضاً هي الضمان الثاني لتطبيق العدالة في النظام الإسلامي بعد (ولاية الفقيه). ويتمظهر هذا الضمان في تدخّل الشعب في حركة النظام بمعظم تفاصيلها، ومشاركته في القرار على مختلف المستويات، وممارسته الرقابة على أجهزة الحكم. فالشعب هو الذي يشكّل مجالس الشورى؛ العامة والخاصة والمحلية والمهنية وغيرها. وبذلك تكون أدوات الشورى حاضرة في كل زاوية من زوايا النظام. وبالتالي تحول قاعدة الشورى دون استبداد وتفرد أيّ سلطة أو جهاز أو مسؤول في الدولة؛ أياً كان موقعه؛ بدءاً بالفقيه الحاكم، وانتهاءً بالمجالس البلدية؛ في التشريع والتخطيط والتنفيذ.
ومن خلال نظرة فاحصة لطبيعة عمل النظام السياسي في إيران؛ نجد أنّ الشورى التي تفرزها إرادة الشعب حاضرة في جميع مفاصل الدولة. فمثلاً: إرادة الأُمّة أفرزت مجلس الخبراء، وهذا المجلس ـ بدوره ـ يختار الولي الفقيه (قائد النظام). والأخير؛ انطلاقاً من الصلاحيات الدستورية التي يمنحها له موقعه؛ يتشاور مع (مجمع تشخيص مصلحة النظام) في رسم السياسات العامة للدولة.
وبغض النظر عن رأي معظم الفقهاء القائل بعدم إلزام الشورى للولي الفقيه؛ على اعتبار أنّه يرجّح بين آراء المستشارين ويتبنى أحدها أو يعمل برأيه؛ فإنّ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية قرن رسم السياسات العامة للنظام من قبل الولي الفقيه؛ بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام. كما قرن الدستور تسلّم الفقيه للولاية وتمتعه بالمسؤوليات الناشئة عنها؛ باختيار مجلس الخبراء المنتخب من الشعب له.
وهذا لا يتعارض مع نظرية ولاية الفقيه التي تقوم عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تذهب إلى أنّ الفقيه يتمتع بالولاية باعتباره نائباً للإمام المعصوم، وأنّه معيّن تعييناً نوعياً من المعصوم؛ كما يقول السيد محمد باقر الصدر؛ لأنّ الشعب عندما يختار فقيهاً معيناً للولاية العامة، أو للحكم بالمعنى القانوني؛ دون باقي الفقهاء؛ فإنّما يقوم بعملية ترجيح بين الفقهاء جامعي شروط الولاية (الفقاهة والعدالة والكفاءة). وبهذا الترجيح؛ يكون الشعب قد حوّل الولاية التي يتساوى كل الفقهاء جامعي الشروط في التمتع بها؛ من القوة إلى الفعل.
ويمارس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية سلطاته وفق ثلاثة أنواع من الشورى:
- الشورى أداةً لاختيار مسؤولي النظام؛ من خلال اعتماد أصوات أكثرية الشعب، ومن ذلك انتخاب صاحب السلطة الأُولى في النظام (الولي الفقيه) عبر مجلس الخبراء، وانتخاب صاحب السلطة الثانية (رئيس الجمهورية) وحكومته، وكذلك رئيس مجلس الشورى الإسلامي وأعضائه، ورئيس مجلس الخبراء وأعضائه، ورؤساء البلديات والمجالس البلدية وغيرها.
- الشورى مركزاً لاتخاذ القرار بصورة جماعية، وبأكثرية الأصوات، وذلك من خلال المجالس واللجان والدوائر المختصة؛ بدلاً من القرار الفردي. وهذا النوع تطبقه جميع السلطات الدستورية، ولا سيما في المجالات التي لا تحتاج إلى قرارات عاجلة. فمجمع تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الشورى الإسلامي، ومجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، والمجلس الأعلى للأمن الوطني وغيرها؛ جميعها تتخذ قراراتها بالشورى ووفقاً لرأي أكثرية الأعضاء.
- الشورى أداةً لتقوية السلطة؛ إذ تمدّها بالرأي والمشورة. ولا تكون الشورى هنا في موقع اتخاذ القرار؛ بل إنّ القرار متروك فيها لصاحب السلطة؛ من خلال ترجيحه لآراء المستشارين.
وهذا النوع من الشورى يمكن مشاهدة تطبيقاته في علاقة (القائد) بمجمع تشخيص مصلحة النظام، ورئيس الجمهورية بمجلس الوزراء، ورئيس السلطة القضائية بمجلس السلطة القضائية.
وأبرز المؤسسات الشورية الدستورية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي:
أولاً: مجلس خبراء الدستور: منتخب شعبياً انتخاباً مباشراً، وقد تم حلّه بعد إنشاء الدستور.
ثانياً: مجلس تعديل الدستور: يتشكل عند بروز الحاجة إلى التعديل، وتخضع تعديلاته للاستفتاء الشعبي.
ثالثاً: مجمع تشخيص مصلحة النظام: مجلس معيّن، ويضم رؤساء السلطات؛ إضافة إلى أكبر قادة الدولة وحكمائها.
رابعاً: المجلس الأعلى للأمن الوطني (القومي): مجلس معيّن، ويضم قادة الدولة السياسيين والأمنيين والعسكريين.
خامساً: مجلس خبراء القيادة: منتخب شعبياً انتخاباً مباشراً، وهو الذي ينتخب قائد الدولة (الولي الفقيه).
سادساً: مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان): منتخب شعبياً انتخاباً مباشراً.
سابعاً: مجلس صيانة الدستور: معيّن ومنتخب، ويضم نخبة صغيرة من كبار رجال الفقه والقانون.
ثامناً: مجلس الوزراء: يرشحهم رئيس الجمهورية المنتخب شعبياً، ويصوِّت عليهم مجلس الشورى الإسلامي المنتخب شعبياً.
تاسعاً: المجالس البلدية: منتخبة شعبياً انتخاباً مباشراً.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua