تفقّه المثقف الإسلامي

Last Updated: 2024/04/13By

تفقّه المثقف الإسلامي

د. علي المؤمن

يواجَه المثقف الإسلامي باتهامين متناقضين في إطار إشكالية الوعي، فالخطاب العلماني يتهمه بأنه تراثي عقلاً وخطاباً وحركة، ورجعي ويعيش الماضي بكل تفاصيله، في حين تتهمه الحوزة العلمية بأنه عصري في أدوات تفكيره، وسطحي عقلاً وخطاباً وحركة، ويعيش قطيعة مع التراث الديني والعلم الديني.

ولكل من الاتجاهين (العلماني والديني) منطلقاته، فهما – وإن أخطآ في تشخيصهما – إلا أنهما لم ينطلقا من فراغ على العموم، ولعله يعود إلى طبيعة تعامل أكثر المثقفين الإسلاميين مع التراث والعلم الشرعي، وهو تعامل يشوبه الارتباك وعدم الوضوح في الرؤية، ويتميز ـــ غالباً ـــ بالعلاقة غير المتوازنة أو غير المنهجية، فتكون النتيجة؛ أما إسلامياً جامداً على التراث دون وعي حقيقي بالعصر، وإما إسلامياً عصرياً مصاباً بنوع من الانفلات الفكري والثقافي. وهذا اللون من اللا توازن هو أحد أهم أسباب أزمة المثقف الإسلامي. في حين أن بعض المثقفين الإسلاميين الذين تعاملوا بعمق ومنهجية مع التراث والعلم الديني، استطاعوا أن يعيشوا توازناً رائعاً في أساليب تفكيرهم ورؤيتهم، وينتجوا خطاباً إسلامياً واعياً وأصيلاً.

إن المراد من التراث والعلم الديني هنا هو التراث الإسلامي والمعارف الشرعية تحديداً، أي العلوم والمعارف التراثية التي تدخل في فهم «النص المقدس»، وتبنى على أساسها المعتقدات والأحكام الشرعية، وهي العلوم التي أسسها المحدثون والفقهاء السلف، والتي تبلورت وأخذت شكلها الحالي عبر قرون طويلة من الدراسة والبحث والتصنيف، وخاصة علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف. وعلى أساس هذه العلوم قام عِلمان كبيران هما علم الكلام (العقيدة) وعلم الفقه (الأحكام). وهذه العلوم هي التراث، وهي قوام الهوية الإسلامية في الماضي، وأساس هوية الحاضر، ومنطلق النهوض الإسلامي المستقبلي، وهي المساحة القابلة للتحوّل والتجديد والاجتهاد وإعادة القراءة. أما النص المقدس (القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة) فهو ليس تراثاً؛ بل الثابت والملزِم في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي لا يخضع لظروف الزمان والمكان.

وقد تمظهر التعامل الانفعالي اللا متوازن لأغلب المثقفين الإسلاميين مع التراث الإسلامي والعلوم الشرعية، في فكرهم الحركي وفي خطابهم الذي يشكّل جزءاً أساسياً من الخطاب الإسلامي المعاصر، كما انعكس على الواقع الإسلامي المعاصر عموماً، وتسبب في انحراف بعض الإسلاميين فكراً أو سلوكاً، وبروز القلق العقيدي والفكري لدى آخرين، فيما تعرض الجزء المتبقي الى الإلغاء من قبل المؤسسة الدينية، برغم أن هذا الجزء يتمتع بالأصالة الفكرية والعلمية وبالتعامل المنهجي مع التراث، ودرس العلوم الشرعية وفق المعايير المتعارفة حوزوياً؛ إلا أن شبهة التعامل اللا متوازن للمثقف الإسلامي مع التراث طالت هذا الجزء أيضاً، بجريرة الفئات الأخرى من المثقفين الذين شطحوا فكرياً أو لم يتعاملوا منهجياً مع العلم الشرعي.

ولعل من أسباب عدم اهتمام المثقف الإسلامي بتراثه وبدراسة العلم الشرعي وبالتفقه، بل والقطيعة مع التراث أحياناً، يعود الى انفعال المثقف الإسلامي في مواجهة الخطاب العلماني، المحلي أو الغربي، الذي يتهم المثقف الإسلامي بــ (السلفية) و(الماضوية) و(الأصولية) و(اللاعقلانية) و(الجمود) و(التخلف)، ومقاطعة العصر وثقافاته وتحولاته، ورفض الواقع وحيثياته. هذه التهم التي ظلت تلاحق المثقف الإسلامي، تسببت في هزيمة داخلية ونفسية لدى بعضهم، مما تسبب في لهاثه بعضهم وراء تشرّب معاني مفهوم “المثقف” في علم الاجتماع أو وفق ما يطرحه المفكرون الغربيون. فكانت النتيجة أن أصبحت المناهج والنظريات والأسماء الغربية، وآخر المصطلحات الوافدة، والمشكلات الثقافية الآنية، هي الشغل الشاغل لهذا البعض، بقصد أو بدونه، من أجل دفع شبهة عدم العصرنة وعدم التخلف.

وعلى الضفة الأخرى؛ يحاول بعض المثقـفين الإسلاميين (كتّاب أو صحفيين أو أكاديميين أو سياسيين) التأسيس لنظريات إسلامية في مجالات تخصصية، وتحديد موقف الشريعة، والإجابة على إشكاليات فكرية تخصصية. في الوقت الذي تستدعي هذه المحاولات فهماً عميقاً للتراث الإسلامي ودراسة منهجية للعلم الشرعي، يفتقر إليهما المثقف المسلم غالباً.

تفقّه المثقف

يعد اقتران البعد المعرفي في شخصية المثقف الإسلامي بالعلم الديني وبوعي التراث الإسلامي؛ ضرورة ملحة بكل المعايير. يقول رسول الله (ص): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». كما يقول الإمام محمد الباقر(ع): «لا يُقبَل عملٌ إلاّ بمعرفة». والمقصود هنا بالعلم والمعرفة المقترنين بالعمل والحركة والفعل؛ ليسا مطلق العلم والمعرفة، بل هما العلم الديني والمعرفة الدينية التراثية تحديداً، كما يشير إلى ذلك ما يروى عن الرسول(ص): «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل». هذا المبدأ الشرعي الذي يعني وجوب اقتران حركة المثقف الإسلامي بالعلم الديني؛ له معايير مصداقية عديدة مستلّة من الواقع، وهي تمثّل ضرورات لا مناص منها أبداً، وأبرزها:

    1 – الاستقامة على الدين:

يقول الإمام علي(ع): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا.. وإن من الحق أن تفقّهوا». فالارتياب هو مدخل الشك السلبي والانحراف والكفر، وبكلمة أخرى الابتعاد عن الحقيقة الدينية. في حين أن التفقُّه هو الموصل إلى هذه الحقيقة. ولعل التأمل في المصير المؤلم الذي انتهت إليه إحدى الجماعات الإيرانية المعروفة ببداياتها الإسلامية ومنطلقاتها النقية؛ يؤكد أهمية التفقه المنهجي للمثقف الإسلامي، وخاصة المثقف الحركي؛ إذ كان أبرز أسباب انحراف هذه الجماعة، ثم وصمها بالنفاق؛ ضعف الثقافة التراثية والعمق الإسلامي العلمي لمؤسسيها وقادتها وكوادرها، وخاصة أنهم كانوا من الشباب دون العشرين أو أكبر قليلاً، وليس بينهم فقيه أو علماء دين، وقد قرأوا الإسلام قراءة سطحية، ولامسوا التراث الديني ملامسة هامشية، عبر بعض الخطابات والكتابات الثقافية والفكرية النقدية المعاصرة، ثم أسسوا ونظّروا لفكرهم وايديولوجيتهم في ضوئها. وكانت النتيجة أن هذه الجماعة تشظّت، فاقترب جزء منها من الماركسية، ووضع نفسه في أقصى يسار الإسلام، وانغمس جزء أخر في الفكر الليبرالي ووضع نفسه في أقصى يمين الإسلام، فيما تطرّف جزء ثالث في الانفتاح على العلمانية والإلحاد وأفكارهما وسلوكياتهما، وتطرف جزء رابع في الانغلاق على الواقع والعالم، وتحنّط في أطر الماضي أو بات صوفياً. وقد لفت نظري وأنا أقرأ مذكرات أحد الفقهاء القياديين، تقييمه لعناصر هذه الجماعة، حين كان يعيش معهم في زنزانة واحدة خلال حكم الشاه، وقد عرفهم عن قرب؛ فكان يمتدح فيهم الحماس والإخلاص والنقاء، وهم شباب في العشرين من عمرهم، أغلبهم جامعيون أو خريجو جامعات، ولكن هذا الفقيه يقول أنه كان يخشى كثيراً من ضعف ثقافتهم الدينية، وانفتاحهم على الثقافة العصرية، دون حصانة علمية وثقافية إسلامية أصيلة، فكانوا يجتهدون في أمور عقائدية وفقهية تخصصية، وينظّرون لقضايا فكرية أساسية، ويعطون لكل ذلك عناوين إسلامية، لكن اجتهاداتهم وتنظيراتهم تفتقر إلى أبسط المعايير العلمية الإسلامية والقواعد الشرعية، ومليئة بالإشكالات والانحرافات، بسبب عدم اطلاعهم المنهجي حتى على واحد من الكتب العلمية الإسلامية التراثية والتخصصية، وعدم وجود فقهاء وعلماء دين بينهم، وعدم رجوعهم في أفكارهم وحاجاتهم الفقهية والعقدية الى فقيه ومتخصص، فكانت نهايتهم كما ورد عن رسول الله (ص): «من أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكَم من المتشابه فقد هلك وأهلك». وهو ما حدث مع جماعات إسلامية أخرى، كان أفرادها أنقياء خلال التأسيس للجماعة، ثم انتهوا إلى إسلاميين ماركسيين، أو إسلاميين قوميين، أو إسلاميين ليبراليين، أو إسلاميين سلفيين.

2 – الانسجام مع الموقع والدور:

إن الموقع التغييري والتبليغي الذي يتبوأه المثقف الإسلامي في المجتمع، وخاصة المثقف الحركي، ودوره الطليعي في حركة الأمة؛ يحتمان عليه أن يكون بمستوى متطلباتهما العلمية والثقافية والاجتماعية؛ إذ لا يمكن للمثقف الإسلامي أن يمارس دوره التبليغي والدعوي والتغييري دون أن يكون قد أنهى بصورة منهجية مرحلة مقدمات العلوم الحوزوية حداً أدنى. فربما يطالع أحد المثقفين الإسلاميين تفسيراً ـــ مثلاً ـــ لآية قرآنية في كتاب ثقافي، فإن وجد هذا التفسير قريباً إلى ذهنه وقناعته ونفسه؛ فربما يؤسس عليه حقيقةً أو رأياً عقائدياً أو فكرياً معيناً، دون مراجعة للمصادر الأساسية في التفسير، ودون أن يكون على اطلاع بالعلوم القرآنية الأخرى وقواعدها وأصولها، وهكذا الأمر بالنسبة للحديث الشريف، ثم يعمم هذا الرأي على الآخرين عبر كتاباته أو خلال ممارسته دوره الدعوي أو الثقافي الاجتماعي.

    3 – مواجهة تحديات العصر:

يشهد الواقع الإسلامي تراكماً متزايداً باطراد للإشكاليات الفكرية والثقافية، والتي من شأنها مراكمة التحديات. وهو ما يتطلب انتاج خطاب إسلامي أصيل ومعاصر في الوقت نفسه، يجيب على التساؤلات ويفكك الاشكاليات ويواجه التحديات، ويلبي الحاجات الفكرية والثقافية المستحدثة. وهذه المهمة الفكرية والثفافية لا تنحصر بالفقيه والمفكر الإسلامي؛ لكن الجزء الأكبر منها يقع على عاتق المثقف الإسلامي، الذي يدخل معركة الفكر والثقافة متسلحاً بالتراث والمعرفة الدينية المنهجية، وبخطاب العصر ولغته وثقافته ومتطلباته، فبدون الانطلاق من التراث الإسلامي، بعد استيعابه واستنطاقه؛ لا يمكن بناء الخطاب الإسلامي الأصيل والعصري، بناءً متكاملاً مشتملاً على نظريات معمقة في الفكر والحركة، ومعالجات لإشكاليات الفكر الآخر وشبهاته، وفي مقدمتها الحداثة والتنمية المستدامة والمشروع الحضاري.

4 – مواجهة محاولات الإلغاء:

يرى بعض علماء الدين أن المثقف ممنوع عليه الخوض في الموضوعات الإسلامية التي فيها نوع من التخصص، بل وحتى الكتابة أو الحديث فيها. وينطلق هذا البعض من حكم مسبق على المثقف الإسلامي، يتلخّص في ضعف وعيه التراثي وعدم دراسته العلم الديني دراسة منهجية، وهذا الحكم قد لا يخلو من الموضوعية غالباً. من هنا؛ فإن القراءة الواعية المتأنية للتراث الإسلامي العلمي والفكري وامتلاك أدواته، عبر الدراسة المنهجية؛ ستمكن المثقف الإسلامي من تجاوز ذلك الحكم الجاهز، والانطلاق في آفاق المعرفة الإسلامية، دون أية عقبة موضوعية تلغي حركته وتصادر رأيه.

ولا تقتصر الضرورة على فهم الأفكار الإسلامية العامة أو الأحكام الشرعية التي يحتاجها المثقف الإسلامي في حياته، فهذا المقدار لا بد منه لكل مكلّف، بل إن الضرورة تكمن في تفقّه المثقف الإسلامي، إذ: «لا خير في دين لا تفقّه فيه» كما يقول الإمام علي(ع)، أو كما يقول الإمام الصادق(ع): «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام». وهذا لا يعني دفع المثقف الإسلامي ـــ إلزاماً ـــ الى الانخراط في سلك الدراسات الشرعية الحوزوية وارتداء زيها، وصولاً الى بلوغ مستوى القابلية على الاستنباط والتخصص في العلوم الإسلامية، رغم أنه طموح مشروع وممكن، كما لا يعني أن يغرق المثقف الإسلامي في التراث بكل تفاصيله وشكلياته، وجامداً على نصوصه، بل الأصل هو دراسة مكوناته دراسة منهجية واعية، واستيعابها إلى مستوى الفهم الجيد، والقابلية على التحاور والاستنطاق، وتقرير الموقف العقائدي والفقهي من قضية معيّنة، فكرية أو سياسية أو سلوكية، تستدعي استيعاب الكثير من النصوص العلمية المثبتة في كتب علوم القرآن والحديث والكلام والرجال والفقه وأصول الفقه والمنطق واللغة العربية، إضافة إلى السيرة والتاريخ والفلسفة والأخلاق وغيرها. وهذا الاستيعاب ينتج عنه فهماً منهجياً لآلية الاستفادة من الآية القرآنية، ومعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، ومعرفة كيفية الاستشهاد بالحديث الشريف، والتفريق بين الحديث المسند والمتواتر والضعيف، ومستويات اعتماد خبر الواحد وغيرها، ومعرفة منهجية تطبيق القواعد الفقهية والأصولية، وخاصة في القضايا التي تشتمل على أبعاد فقهية وعقائدية تُبنى على القطع.

ويبقى أن هناك عقبة تواجه المثقف الإسلامي الذي لا يجد الوقت أو الجغرافيا التي تمكنه من الالتحاق المباشر بالدراسات الشرعية الحوزوية، مما يشكل له صعوبة في فهم النصوص التراثية، بل وصعوبة فهم حتى النصوص الجديدة – أحياناً – والتي تُكتب خصيصاً لطلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، وخاصة في علم الدراية وأصول الفقه والمنطق وأبواب الإلهيات في علم الكلام. وهنا يمكنه اللجوء الى الدراسة الإلكترونية المباشرة في الحوزات الجامعية الحديثة، التي تقدم مناهج جديدة بلغة حديثة وبأساليب تتلاءم والمستوى العلمي العام، كمناهج كلية الفقه في النجف الأشرف، وخاصة ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر، ومناهج العلوم الشرعية في جامعة الأزهر، وكلية الأوزاعي في بيروت، وكتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وما صدر عن كلية أصول الدين والمجمع العلمي للسيد مرتضى العسكري، وجامعة المصطفى في قم، والجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن، وخاصة ما كتبه الشيخ عبد الهادي الفضلي خصيصاً لها، والكتب التي صدرت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بقلم الشيخ جعفر السبحاني.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment