تطوّر المفاهيم التدبيرية العقلائية في إطار الاجتماع الديني الشيعي

Last Updated: 2024/04/13By

تطوّر المفاهيم التدبيرية العقلائية في إطار الاجتماع الديني الشيعي

د. علي المؤمن

تستند أغلب المصطلحات والمفاهيم المتداولة في وصف ظواهر الاجتماع الديني الشيعي إلى قواعد عقلية، وليس لها أُصول تشـريعية نقلية، وهي مصطلحات عرفية تدبيرية تنظيمية عقلائية. ولعل مبدأ ولاية الفقيه هو من المفاهيم القليلة التي تمتلك أصلاً تشـريعياً، بوصفه الأساس لكل تفاصيل النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ ما يعني أنّ ولاية الفقيه هي الأصل التشريعي لكل المصطلحات والمفاهيم التنظيمية العقلية المذكورة، وفي مقدمها الاجتهاد والتقليد والمرجعية الدينية والأعلمية.

ويقترن مفهوم (الأعلمية) بتولي الفقيه موقع المرجع الأعلى الذي تقلده أغلبية الشيعة في فروع دينها، وتناط به قضايا الشأن العام. كما أنّ مفهوم (الأعلمية) لصيق بموضوع التعدد في مراجع التقليد؛ فالفقيه الأعلم وفق معايير أهل الخبرة (المجتهدون العدول)، هو الأعلم في الفقه والأكثر قدرة وعمقاً على استنباط الحكم الشرعي الأقرب إلى الخطاب الشـرعي الحقيقي، وهو صاحب الحق في تسنم منصب المرجعية العليا للشيعة وقيادتهم الدينية. ولا يعني هذا أنّ الإجماع سيحصل لدى أهل الخبرة؛ بل لدى أغلبهم، وهو ما يؤدي إلى استقرار رأي الأقلية من أهل الخبرة على مراجع آخرين، وبالتالي؛ تتعدد المرجعيات الرديفة؛ برغم وجود مرجع أعلى يؤكد أغلب أهل الخبرة مرجعيته.

وقد وُضع شرط (الأعلمية) ضمن شروط مرجع التقليد؛ ليكون تدبيراً عقلياً لفرز المرجع الأكبر المتصدّي، وحل مشكلة تعدد المرجعيات المتصدّية لزعامة الحوزة أو الشأن العام، والحيلولة دون تشتت قرار الحوزة والمجتمع. ونظراً لتفاوت المعايير واختلاف المخرجات؛ فإنّ (الأعلمية) تُعدّ أمراً نسبياً وإحرازها مستحيل. وبالتالي؛ فإنّ أهل الخبرة يختارون المرجع الأعلم بحسب قناعاتهم، وهي قناعات بشرية خاصة. بل إنّ متطلبات مأسسة المرجعية تتطلب إضافة معايير في الأعلمية تتجاوز الفقه والأُصول، ومن بينها الأعلمية في وعي مقاصد الشريعة ونظام الإسلام العام، والأعلمية في تشخيص المفاسد والمصالح وتشخيص الموضوعات ذات العلاقة بالشأن العام.

أمّا مصطلح (المرجع الأعلى) فهو الآخر مصطلح عرفي وإجراء تدبيري وليس رتبة علمية. وقد أوجده بعض علماء الحوزة العلمية خلال القرن العشرين الميلادي لفرز المرجع الأعلم المتصدّي للشأن العام عن غيره من مراجع الصف الأول. وهو تمييز مقبول، بل ضروري. ولم يكن الفقهاء حتى زمن السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني والسيد حسين الطباطبائي البروجردي يحملون هذا اللقب؛ بل يحملون توصيفات «زعيم الشيعة» (لقب الشيخ المفيد)، و«شيخ الطائفة» (لقب الشيخ الطوسي)، و«الشيخ الأعظم» (لقب الشيخ الأنصاري). وربما يكون السيد محسن الحكيم أول مرجع حمل صفة «المرجع الأعلى».

وبالتالي؛ لا يوجد ما يمنع من استحداث مصطلحات وهياكل عقلائية مقبولة شرعاً، وتفي بالأغراض التدبيرية والتنظيمية، كما هو الحال مع مصطلح «الحوزة العلمية» في عصر الشيخ الطوسي، ثم مصطلحات «ثقة الإسلام» الذي استحدث في عهد الشيخ الكليني قبل أکثر من ألف سنة، و«العلّامة» الذي لقب به الشيخ الحلّي. ثم تمت استعارة لقب «حجة الإسلام» من الشيخ الغزالي، وبعدها استُحدث لقب «آية الله» للدلالة على المجتهد كرتبة علمية. وحين اضطرت الحوزة للتمييز بين عموم المجتهدين (آيات الله) وبين المرجع؛ أضافوا مفردة «العظمى» إلى آية الله؛ ليختص لقب آية الله العظمى بمراجع التقليد فقط. ثم تم استحداث مصطلح «زعيم الحوزة» و«المرجع الأعلى» للتمييز بينه وبين سائر مراجع التقليد؛ بوصفه المرجع العام الأول لكل الشيعة.

وليست هذه الإجراءات التدبيرية العرفية تقتصـر على الشأن المذهبي والديني؛ بل يعمل بها كل البشر منذ بدء الخليقة وحتى الآن. وكلما اتجهت الكيانات الدينية والعلمية والأكاديمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نحو تطوير هيكلياتها ومأسسة سياقاتها وأدواتها؛ ازدادت الحاجة إلى المصطلحات والرتب والعناوين. ولكن ينبغي التنبه إلى حساسية الشأن الديني في مجال استحداث المصطلحات والرتب والعناوين العامة والخاصة؛ بوصفه شأناً يربط بين الدنيا والآخرة، ويختلف عن الشؤون الدنيوية البحتة، ولا يمكن التسامح في الاستحداثات التدبيرية؛ بل يحتاج على الدوام إلى إقرار من الشريعة، أي إلى مقبولية شرعية ودقة فائقة في الدلالات، ولا سيما في العناوين الخاصة ذات الدلالات المقدسة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment