تصالح المتعارضات في شعر أبي فراس الحمداني
تصالح المتعارضات في شعر أبي فراس الحمداني
دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن
الحمد لله الذي خلق الإنسان فعلمه البيان، وأماز المؤمنين عن الغاوين من الشعراء، والصلاة والسلام على من أُعطي جوامع الكلم، ولم يعلّمه ربه الشعر؛ فقال: ((وإنّ من الشعر لحكمة))([1])، وعلى سادة الخلق الطاهرين.
حديثنا في شعر قائد تاريخي مسلم، وفارس شاعر عاشق، سجّل شعره إضافة نوعية للأدب العربي.. إنّه أمير الشعراء الأمراء أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني. ولعلّ أكثر ما يلفت النظر في البعد القيمي لشعره؛ المصالحة التي عقدها الحمداني بين جملة من الأغراض والمفاهيم التي يبدو أنّها متعارضة في الظاهر، وهي في الواقع مصالحة مدهشة وذات قيمة إنسانية وفنية.
وقد انتقينا في هذه الدراسة خمسة نماذج من ألوان المصالحة أو التوازن في المفاهيم الشعرية لدى أبي فراس، وعلى شكل ثنائيات متقابلة، وهي:
- الفخر بالعشيرة والشكوى منها.
- الغرور والتذلل.
- العفة والتحلل.
- كبرياء الأمير وبكاء الأسير.
- التدين والجبروت.
للوهلة الأُولى يبدو أنّ هناك تضاداً بين هذين اللونين من المشاعر، أي بين أن يفخر أبو فراس بعشيرته ويرفعها إلى أسمى المراتب، وبين أن يشكو منها ويتبرم من تصرفاتها، بل ويتهمها بتهم شائنة؛ فيقول مثلاً:
فلم یُخلق بنو حمدان إلّا لمجدٍ أو لبأسٍ أو لجودِ
وينشد أيضاً:
لنا أوّلٌ في المكرمات وآخِرُ وباطنُ مجدٍ تغلبيّ وظاهـرُ
ولكنّه في مقابل ذلك يقول:
بنو حمدانَ حسّادي جمیعاً فما ليَ لا أروز بني طُغجَ
وبنو طغج هم من أعداء الحمدانيين، وقد وصل تذمر أبي فراس من أقاربه حداً أنّه فكر في التفاوض مع العدو. ثم يتهم في قصيدة أُخرى عشيرته، فيقول:
تغابیتُ عن قومي فظنّوا غباوتي بِمَفــرِقِ أغبـانا حصیً وترابُ
وهنا لا بدّ من فهم الأسباب الموضوعية لهذا التعارض، وهي أسباب ترتكز على نوعية الأحداث والمفاصل التاريخية التي ميزت سيرة حياة أبي فراس، فقد كان الشاعر صادقاً حين امتدح قومه وافتخر بهم، كما كان صادقاً في ذمّه لهم، وهي في الواقع نوع من المفارقة، ولكن حين تخضع هذه الأشعار إلى طبيعة الظروف التي أنشد أبو فراس فيها أشعاره، سواء ما يتعلق بالزمان والمكان والمناسبة أو الشخص المقصود، سوف تصبح هذه المفارقة طبيعية تماماً. فمثلاً نراه يفخر دائماً بجده وأبيه وأعمامه وأخيه، دون أن يجد في أشعاره ما يتعارض مع ذلك، فيقول مفتخراً بجده حمدان:
فجــدّي الـذي لمّ العشـیرة جودُهُ وقــد طــار فیها بالتفــرّقِ طـائرُ
وجدّي الذي انتاش الدیارَ وأهلَها وللـــدهرِ نـابٌ فیهِــمُ وأظـافـرُ
ويفخر بوالده سعيد بن حمدان:
أُولئكَ أعمامـي، ووالـدي الذي حمی جنبـات المُلك والملكُ شاغرُ
غزا الرومَ ولم یقصد جوانبُ غِرّة ولا سَـبقَتـهُ بِــالمـرَادِ النــذائرُ
وكذا عمّيه الحسين بن حمدان، وسليمان بن حمدان:
وعمّي الذي سلّت بنجدٍ سیوفُهُ فـروَّع بالغَـورَین من هـو غـائرُ
وعمّـي الحـرون عنـد كلّ كتیبةٍ تَخِفُّ الجبالُ، وهو للموتِ صابرُ
أمّا الأمير سيف الدولة الحمداني ابن عم أبي فراس وصهره، فقد امتدحه الشاعر كثيراً وافتخر به، بل إنّ معظم أشعاره في الفخر والمديح هي من نصيب سيف الدولة، ولكن هناك أشعار يعتب فيها على سيف الدولة بمرارة، ويصل بذلك إلى حدّ الذم والتقريع والنقمة، ومردّ ذلك إلى السنوات التي قضاها أبو فراس في أسر الروم، والتي ماطل فيها سيف الدولة بافتدائه، أو أنّه كان يستمع خلالها إلى الوشاة من حسّاد أبي فراس والناقمين عليه، وهم في الواقع من أبناء عمومة الشاعر أيضاً، أمّا مرحلة ما قبل الأسر، فلم يقل فيها الشاعر ما يشم منه رائحة الذم لسيف الدولة؛ فيقول مثلاً:
ما زالَ سیفُ الدولـةِ القرمَ الذي یَـلقی العَظیـمَ وَیحمِـلُ الأثقَـالا
بالخیلِ ضمراً والسیوفِ قواضباً وَالسُّمـرِ لُدنـاً والرجـالِ عجَالا
وينشد أيضا مخاطباً سيف الدولة:
ففي كفّـكَ الدنیا وشیمتُكَ العُلا وَطائرُكَ الأعلی وَكوكبُكَ السَّعدُ
ولكنه في مرحلة المحنة، يقول فيه ما ليس متوقعاً، على اعتبار أنّ سيف الدولة هو الذي ربى الشاعر واحتضنه وكان بمثابة أبيه، والواقع أنّ فترة الأسر كانت قاسية جداً على أبي فراس، فجاءت أشعاره منسجمة مع نوعية هذه المحنة الكبيرة، لا سيّما وأنّه كان يرى في سيف الدولة عاملاً رئيساً في تعقيد محنته وطولها؛ فيقول مخاطباً سيف الدولة:
وَكمْ لكَ عنديَ مِنْ غَدرَةٍ وَقَـولٍ تكـذبــهُ بـالفِعَالِ
وَوَعدٍ یُعذَّبُ فیـه الكریمُ إمّا بخُـلْفٍ وَإمّـا مِـطَالِ
وينشد أيضاً:
وإن أوجعتني مـن أعـاديَّ شيمـةٌ لقیتُ من الأحبابِ أدهی وَأوجعَا
إلى أن يقول:
تَنَـكَّـرَ سیف الــدین لمـا عتبتهُ وَعرّضَ بي، تحتَ الكلامِ وَقرَّعَا
ولعلّ الشاعر في هذه الأبيات التي فيها نوع من القسوة على ولي نعمته وأميره المفدّى، يكشف عن مقدار اللوعة والألم والهم الذي كان يكابده، ورغم ذلك لم ينس أبو فراس فضل سيف الدولة عليه، كما لم ينس شأن سيف الدولة وموقعه عميداً للأُسرة وقائداً للدولة، ويعاني جفاء الحبيب وفضاضته، فتراه يتنقل بين الذم والعتب والمديح في القصيدة الواحدة:
أمِن بعدِ بذلِ النفسِ فیما تریدهُ أُثابُ بمُـرِّ العَتْبِ حینَ أُثابُ؟
فَلیتـكَ تحـلُو، والحیاةُ مَـریرَةٌ وَلیتَكَ ترضَی وَالأنامُ غِضَابُ
وَلیتَ الذي بیني وَبینكَ عَامِرٌ وَبینـي وَبینَ العَـالمینَ خَـرَابُ
وقد يكون البيتان التاليان اللذان يناشد فيهما سيف الدولة، من أجمل ما قاله أبو فراس في هذا المعنى:
فرُمِیتُ منـكَ بغـیر مـا أمّلتُهُ والمرءُ یَشـرَقُ بالزَّلالِ البـارِدِ
فصـبرتُ كالولـد التقيِّ لبرّهِ أغضى علی ألمٍ لضربِ الوالِدِ
فيصف غصته من الأذى الذي ألحقه به سيف الدولة كمن يشرق بالزلال البارد، أو أنّه كضرب الوالد لولده البار، ويبدو أنّ أبا فراس يكتب بهذه اللغة المزدوجة بدوافع أربعة يتسلسل في طرحها: استفزاز سيف الدولة علّه يتحرك لفك أسره، والتعبير عن مرارته من إهمال سيف الدولة له، وكذلك التعبير عن إخلاصه الحقيقي لسيف الدولة، واستعطاف سيف الدولة لإنقاذه.
وعلى مستوى شكواه من بعض الأقارب، والتي يعممها الشاعر مجازاً على العشيرة كلها، فإنّ الوقائع التاريخية تؤكد بأنّها نتيجة طبيعية للأذى الكبير الذي ألحقه به الأقارب، فناصر الدولة شقيق سيف الدولة هو الذي قتل والد الشاعر، وهو لما يبلغ الثالثة من عمره فنشأ أبو فراس يتيماً، ويحمل في قلبه نفوراً من ابن عمه وغيره من أبناء الأُسرة الذين وقفوا مع ناصر الدولة، ثم كان موقف معظم أبناء عمومته سلبياً منه دائماً، ولأسباب كثيرة لعلّ بعضها ردود فعل ناقمة على نوعية تصرفاته، وأُخرى غيرة وحسداً، وهم يرونه الأكثر قرباً من سيف الدولة، وقد جمع النجومية من أطرافها: براعة السياسي، وكبرياء الأمير، وخيلاء الفارس، وجاذبية الشاعر، ولم يكتفوا بمعاداته في سنوات مجده، بل استمرت محاولاتهم لتدمير العلاقة بينه وبين سيف الدولة حتى عندما كان في الأسر، ثم شاء الله تعالى أن تكون نهايته على يد ابن سيف الدولة.
ويشير الشاعر في إحدى قصائده بوضوح إلى أنّ من يسيء إليه جماعة من عشيرته، وأنّه رغم ذلك فدائي لعشيرته وأنّ مصيره مرتبط بها، وإن كان معظم أفرادها أعداءه.
إلى الله أشكــو عصبةً من عشیرتي یسیؤون لي في القول غیباً ومشهدَا
وإن حاربــوا كنتُ المجنَّ أمامهم وإن ضاربـــوا كنتُ المهندَ والیدَا
إلى أن يقول:
فــلا تَعِدُوني نعمةً، فمتی غَـدَتْ فأهلي بها أولی وإنْ أصبحوا عِدَا
ويرجوهم أن لا يكرّسوا حالة العداء، كما يقول في البيتين المعروفين:
أیـَا قومنَا لا تنشبوا الحربَ بیننا أیـَا قومنَا لا تقطَعُـوا الیدَ بِـالیدِ
عَداوَةُ ذِي القُربی أشدّ مضاضةً علی المرء من وَقعِ الحسامِ المهنّدِ
وينشد في قصيدة أُخرى، حين كان في الأسر:
أسلَمَنـا قـومُنا إلى نُـوَبٍ أیسرُهَا في القلوب أقتَلُهَا
وهي مفارقة أُخرى، فشخصية أبي فراس كما تعكسها أشعاره تتميز باعتزاز مفرط بالنفس يصل إلى حدّ الغرور والزهو، كيف لا وهو الذي يقول:
وَمُهري لا یَمسّ الأرضَ زَهواً كأنّ تُـرابَهَـا قُــطبُ النّبَــالِ
كأنّ الخیـلَ تعرفُ مَنْ عَـلیها ففـي بعضٍ علی بعضٍ تُعَالي
أو يقول:
ولا ذنبَ لي، إنّ الفـؤادَ لَصَارِمٌ وإنّ الحسـامَ المشـرفيَّ لَفَـاصِلُ
إلى أن يقول:
أصاغِـرُنـا، في المكرمـاتِ، أكابرٌ أواخِـرُنَـا، في المـأثُـرَاتِ، أوَائِـلُ
إذا صلتُ یوماً لم أجد لي مُصاولاً وإن قلتُ يوماً لم أجد من یُقـاوِلُ
فهل صاحب هذا الفؤاد الصارم والحسام الفاصل، وهذا الذي لا يجرؤ أحد على مبارزته أو مجادلته، هو نفسه القائل:
ولا غروَ أنْ أعنو له، بَعدَ عزّةٍ فقدريَ في عزِّ الحبیبِ، یهونُ!
فنراه يذوب وجداً أمام الحبيب، ويتذلل له، ويذرف الدموع متوسلاً إليه الوصل:
وَقَفَتْني علی الأسی وَالنَّحیبِ مُقلتــا ذلكَ الغــزالِ الرّبیبِ
إلى أن يقول فيها:
یـا خلیـليَّ، خَلِّـیاني وَدمعـي إنّ في الـدّمـعِ رَاحَةَ المكرُوبِ
فكيف عقد أبو فراس هذه المصالحة بين هذين اللونين من المشاعر الإنسانية؟ لا شك أنّ شاعرنا مرهف الحس، وجداني المشاعر، رقيق العواطف، تحرّكه الأحداث بطريقة عفوية، فيغضب ويتألم ويحلم ويتحرك وجدانه بأتجاه كل مايستفز أحاسيسه كالحرب والحب، الفرح والحزن، النشوة والكرب؛ فيكون له في كل مقام مقال، في الحرب يزمجر ويزأر وتعكس أشعاره فيها صرامة وقسوة، وفي الحب يعبر عن أصدق مشاعر المكابدة واللوعة والشوق، حتى لو تطلب الأمر الدموع والتذلل والأرق، وفي النشوة يتعالى وتظهر منه حالات متطرفة من الخيلاء والزهو وفي الكرب تشعر أنّه مهيض الجناح.. كسير الخاطر.. وأنّ حياته كلها هموم وآلام، فيقول مفتخراً ومزهواً بنفسه:
سَیـذْكُـرُني قومي إذا جَدّ جدّهُمْ وفي اللیلـةِ الظلـماءِ یُفتَقَـدُ البدرُ
إلى أن يقول:
ونحـنُ أُنـاسٌ لا تـوسُّطَ عِندنَـا لنَـا الصدرُ دونَ العَـالمینَ أو القَبرُ
تَهـونُ عَلینَـا في المعـالي نُفُـوسُنَـا ومَنْ خَطَبَ الحسناءَ لم یُغلهَا المهرُ
أعزُّ بني الدنیا وأعلی ذوي العُلا وأكرمُ من فـوقَ الترابِ وَلا فَخرُ
ولكنه في مقام الحب يقول:
وَفَیتُ، وفي بعضِ الـوَفاءِ مَـذلّةٌ لآنسـةٍ في الحـيِّ شیمتُهَا الغَـدرُ
أو يقول يخاطبها:
لقـد أبهجْتِ أعدائي وقد أشمتِّ حُسَّادِي
بِسُقـمٍ مَـا لَهُ شَـافٍ وأســرٍ مَـا لَهُ فَــادِ
واللافت للنظر أنّ الشاعر يتدارك نفسه في معظم قصائده التي يضطر بها للتعبير عن كربه وهمومه وتذلّـله فينتفض فجأة وكأنّه يتذكر من هو أبو فراس الحمداني:
بلـی، أنـا مُشتـاقٌ وعنـديَ لَـوعةٌ ولكـنَّ مثـلي لا یُــذاعُ لهُ ســرُّ
إذا اللیلُ أضواني بسطتُ ید الهوی وأذللتُ دمعاً مَنْ خَلائقُهُ الكبرُ
إلى أن يقول:
قلتُ كما شاءَتْ وشَـاءَ لها الهوی قَتیلُكِ! قَالَتْ: أیُّهُـمْ؟ فَهُمُ كُثرُ
حتى يصل إلى قوله:
وَإنّـــي لجـــرّارٌ لكــلِّ كتیبـــةٍ مُعـوّدةٍ أن لا یُخـلَّ بهـا النصـرُ
وينشد راثياً أخاه:
وأترُكُ أنْ أبكي عَلیكَ تطَیّراً وقلبيَ یبكي والجوانح تلطِمُ
وَأُظهِرُ للأعداءِ فیكَ جَلادَةً وَأكتُـمُ مـا ألقَـاهُ وَاللهُ یعلَمُ
المعروف أنّ العفة والسمو الروحي ومجانبة التشبيب اللا أخلاقي هي الصفات التي تميز شعر أبي فراس في الغزل، ولكن هناك مقطوعات وأشعار تحرّف غزله باتجاه التحلل أو هكذا يبدو، فهو القائل:
أنـا الذي إنْ صَبَـا أو شفَّهُ غَـزَلٌ فَللعفـافِ، وللتقــوی مـآزرُهُ
وَأشرَفُ الناسِ أهلُ الحبِّ منزلَةً وَأشرَفُ الحبِّ ما عفّتْ سَرَائرُهُ
بينما يقول في مقطوعة عشقية:
لبسنا رداءَ اللیلِ واللیلُ راضعٌ إلى أنْ تــردّی رأسُـهُ بِمَشـیبِ
وَبتنَـا كغُصنَـي بـانَةٍ عـابثتهُما إلى الصُّبحِ رِیحَاً شَمْألٍ وَجَنُوبِ
بل نجد في أشعاره مقطوعات تقترب أكثر إلى الغزل المادي والحسي، ولعله في هذه المقطوعات ينفعل بطريقة عفوية ولا يبالي من التعبير عن أحاسيسه الجياشة متأثراً بحرارة الهيام والوجد، وكأنّه في هذا اللون من الغزل المكشوف لا يستطيع كتمان سره ويبحث عمن يشاركه هذه الانفعالات، بل يريد أن يطلع العالم كله على مغامراته إما بدافع النشوة الفائقة أو التبختر والشعور بالتفوق، وهذا اللون من الشعر كان قد أنشده في مقتبل حياته، يقول الشاعر:
وَیَـا عفّتــي، مَـا لي ومَـا لكِ كلّما هممتُ بـأمـرٍ، هـمَّ لي منـكِ زاجِـرُ
كأنّ الحجا والصون والعقل والتقی لـديَّ، لربّـات الخـدور ضـرائِـــرُ
فهو هنا يكشف عن نفس لوّامة تكبح جماح شهواته، ولكن يبدو أنّ هذه الكوابح الذاتية كثيراً ما كانت تتعطل لديه في أوائل شبابه فتدفعه للقول:
بتنـا نُعلّلُ من سـاقٍ أغنَّ لنا بخمرتینِ مِنَ الصَّهباءِ والخدِّ
أو في مقطوعة غزلية أُخرى يقول في بيتها الأوّل:
یا لیلةً، لستُ أنسی طیبها أبداً كأنّ كُـلّ سُـرُورٍ حَـاضِرٌ فیهَا
ويمكن متابعة باقي أبيات المقطوعة للوقوف على ما يزيح الشاعر عنه الستار، بل يبدو من خلال مقطوعات أُخر أنّ الشاعر كان يحضر حفلات طرب غير بريئة، كتلك التي يقول فيها:
رَفّهْ بقرعِ العودِ سَمعاً، غدا قَـرعُ العَوالي جُلَّ مَـا یُسمَعُ
حين أُسر أبو فراس كان في ذروة نجوميته، فشكل الأسر منعطفاً خطيراً في حياته، إذ تعرض خلاله لأسوأ حالات الذل والهوان، مرة لأنّه وجد نفسه سجيناً رهيناً بين أيدي أعدائه اللدودين مودعاً ذلك العز والنعيم والمجد والسلطان، وأُخرى لأنّ سيف الدولة أهمله وماطل كثيراً في افتدائه، وهو الأثير لديه، وثالثة لأنّ مساعي الوشاة من الحاقدين عليه قد نجحت في تحقيق أهدافها، ورابعة فراقه المرّ لأُمّه التي ماتت حسرة عليه، وكذا فراقه زوجته وأطفاله، وكانت كلها صدمات متوالية، خلقت منه ظاهرة إنسانية متفردة، وكانت رومياته نتاجاً وجدانياً لهذه الظاهرة، والتي لخصها في هائيته الشهيرة:
یَا حَسـرَةً مَا أكادُ أحملُهَا آخِـرُهَا مُـزعِـجٌ وَأوّلُها
وقد أنشد أبو فراس في بداية الأسر قصائد كثيرة كان يحتفظ فيها بكبريائه، بل ولا يبالي من مهاجمة الروم وتذكيرهم بما فعله بهم:
وَیَــا رُبَّ دَارٍ لم تَخَفْنــي مَنیعَـة طَلعتُ عَلیهَا بالرّدَی أنا وَالفَجرُ
إلى أن يقول فيها:
یمنّـونَ أنْ خَـلّوا ثیـابي، وإنّـما عَـليَّ ثیـَـابٌ مِـن دِمَـائِهِمُ حُمـرُ
أو قوله:
إنْ زُرتُ خَـرشَنـةً أسِـیرَا فَلَكَـم أحَطتُ بِهَـا مُغِـیرَا
بل ويعتبر أنّ فارساً مغامراً مثله لا بدّ أن يتنقل بين الأسر والإمارة، فيقول في القصيدة نفسها:
مَـنْ كَــانَ مثـلي لم یَبتْ إلّا أسِـــیرَاً أو أمِـــیرَا
ثم يدخل في مرحلة أُخرى يبدو فيها أنّه أقرب إلى اليأس فيتحول ذلك الكبرياء إلى بكائيات وتوسلات:
بكیتُ فلما لم أرَ الـدمعَ نـافـعي رَجَعتُ إلى صَبرٍ، أمرّ مِنَ الصَّبرِ
ويتوسل إلى سيف الدولة في بكائيته اللامية المعروفة:
هَـلْ تَعطفَـانِ علی العَلیلِ؟ لا بـالأسِـیرِ وَلا القَتـیلِ!
بَــاتَـتْ تُقـلّبــهُ الأكـــ ـفُّ سَحَـابةَ اللیلِ الطّویلِ
فَقَـدَ الضـیــوفُ مَكـانَـهُ وَبكـاهُ أبنَـــاءُ الســبیلِ
فيا لسخرية الأقدار.. أن يبكي أبا فراس أبناء السبيل! ولعلّ من أروع ما قاله في هذا المجال قصيدته الشهيرة التي يبث فيها همه وسقمه إلى حمامة سمعها تنوح:
أقُـولُ وَقَـد نـاحَتْ بقُـربي حمامةٌ أیَـا جارتا هَلْ تَشعـرینَ بحَالي؟!
مَعَاذَ الهوی مَا ذقتُ طارِقَةَ النوی وَلا خَطرَتْ مِنـكِ الهُمـومُ ببـالِ
ورغم ذلك فإنّه غالباً ما كان ينتفض على واقعه المؤلم، ويستعيد في روحه أمجاده وعزه، كما أنّه كان يسوّغ هذه البكائيات تسويغاً موضوعياً ويقول بأنّه يتوسل أو يذرف الدموع لنفسه، بل لأشياء أُخر، منها ما يكشف عنه هذين البيتين:
لَولا العَـجُـوزُ بمَنـبِــجٍ ما خِـفتُ أسبـابَ المنیّـهْ
وَلكـانَ لي، عمّـا سَـألـــ ـتُ مِنَ الفِـدَا نفسٌ أبيَّـهْ
والعجوز هي والدته، وكذا من أجل أطفاله:
وَاصبیَةٌ كالفِـرَاخِ أكبرُهُــم أصغَرُ
فَحُزنيَ لا ینقَضي وَدمعـيَ مَا یفترُ
أو لأنّه لا يريد أن يشمت به الروم ولا يموت بين أيديهم ميتة كمد وحسرة، ففي الأبيات التالية التي يخاطب فيها سيف الدولة، يعبر عن مجموع الأغراض السابقة، فهو ينتقل فيها من التوسل والبكاء إلى الفخر وتسويغ التوسل:
دَعوتُكَ للجفنِ القَریحِ المسَهّدِ لـديَّ، وَللنـومِ القلیلِ المشـرّدِ
أُنادیكَ لا أنّي أخافُ منَ الرَّدَی وَلا أرتجي تأخـیرَ یـومٍ إلى غَـدِ
وَلكن أنفتُ الموتَ في دارِ غُربةٍ بأیــدي … الغُلفِ میتةَ أكمـدِ
وبالتالي؛ فإنّ بكائيات أبي فراس مشبعة بالكبرياء والفخر، فهما حاضران عنده وإن شعر بالذل والهوان فيبكي بكبرياء ويتوسل بترفع ويتذلل بأنفة.
حين تقرأ بعض أشعار أبي فراس تشعر أنّه يعيش حالة من الجبروت والطغيان كأي سلطان همه التحكم برقاب الناس وإراقة الدماء:
هَــذا وَهَــذا دَأبُـنَـــا یــودی دمٌ وَیـــراقُ دمْ
أو قوله:
إذا أمسَتْ نِزَارُ لنَا عَبیداً فـإنّ النَّـاسَ كُلهمُ نِزَارُ
في حين أنّه في أشعار أُخر يكشف عن شخصية الواعظ الحكيم المتدين المؤمن بقضاء الله وقدره، والملتزم بأُصول العقيدة وأحكام الشريعة:
أمَا یـردَعُ الموتُ أهـلَ النُّهی وَیمنَعُ عَنْ غیّهِ مَنْ غَـوَی!
فلا أمَـلٌ غَـیرُ عَفــوِ الإلهِ وَلا عَملٌ غَیرُ مَا قَـد مَضَی
وكذا قوله:
إنّــا إلى الله لمــا نَـابـنَـــا وَفي سبیلِ الله خَیرِ السبیلْ
وهنا يبدو التعارض واضحاً بين ذلك الجبروت وهذا الإيمان المطلق بيد أنّ التأمل في منطلقات الأبيات التي يكشف فيها عن انحراف في تفكيره يظهر أنّ الشاعر كان يريد التعبير عن الانتصار في ساحة المعركة وهو يعيش نشوته إلى حدّ السكر وهي إفراط في أغراض الفخر والمديح والفروسية فمثلاً حين يقول:
لنـا الدنیا فـما شِئنَا حَـلالٌ لساكِنِهَا، وَمَـا شِئنَا حَرَامُ
أو يقول:
أَتَعجَبُ أنْ مَلكنَا الأرضَ قَسرَاً وَأنْ تُمسِـي وَسَـائِدَنَــا الرِّقَابُ
وَتُـربطُ في مجَـالِسَنَا المـذَاكِـي وَتبركُ بینَ أرجُلنَا الـرِّكابُ؟!
فَهَـذا العِــزُّ أورَثنـَا العـوالي وَهـَذا الملكُ مكنـهُ الضِّـرَابُ
فإنّ سكرة الانتصار هي التي تدفعه إلى هذا اللون الصاخب من الفخر، وما يقابل ذلك أشعاره التي يقول في بعضها:
وَمَن لم یـوقِ اللهُ فهـوَ ممزّقٌ وَمَـن لم یعـزّ الله فهـوَ ذلیلُ
وَمَا لم یردهُ الله في الأمر كله فلیس لمخلــوقٍ إلیهِ سبیلُ
وكذا يدخل في هذا الباب قصائده ومقطوعاته في مدح آل بيت رسول الله؛ ففيها تعبير عن التصاق الشاعر بالمفاهيم الإسلامية وغيرته على الدين وأهله وحرقته على ما يتعرض له آل البيت من ظلم وافتراء، ومنها ميميته الشهيرة التي عرفت بالشافية:
الـدِّینُ مُخـترَمٌ وَالحـَـقُّ مُهتضَمُ وَفيءُ آلِ رسـُـولِ الله مُقتسَـمُ
یـَا للـرجَـالِ! أمـَا لله منتـَصِفٌ من الطغـام؟ أمَا للدِّینِ مُنتقِمُ؟!
للمتقـینَ مِـنَ الـدنیـا عـواقبهَا وإن تعجَّـل منهَـا الظـالمُ الأثـِمُ
لا یغضَبـونَ لغَـیرِ الله إن غَضِبُـوا ولا یضیعونَ حكمَ الله إن حكَمُوا
الركنُ والبیتُ والأستـارُ منزِلُهُم وزمزمَ والصَّفَا والحجـرَ وَالحرَمُ
صلَّی الإلـهُ عَلَیهم أینما ذُكـرُوا لأنّهـم للـوری كهْـفٌ وَمُعتصَـمُ
([1]) «سنن ابن ماجه»، ابن ماجه القزويني: ج2، ص1235، ح3755. وانظر: «المبسوط»، الشيخ الطوسي: ج8، ص227. «من لا يحضره الفقيه»، الصدوق:ج4، ص379، ح5805، وفيهما تتمة: ((وإنّ من البيان لسحراً)).
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua