ترشيد الطقوس المجتمعية الدينية
ترشيد الطقوس المجتمعية الدينية
د. علي المؤمن
من أهم المفاصل التي تكثر الدعوات لإصلاحها وترشيدها وعرضها على المنظومة العامة للشريعة وأحكامها، هي الطقوس الاجتماعية المذهبية الخاصة، والمتمثلة في مراسيم إحياء ذكريات آل البيت، ولاسيما ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي، وما يجري فيها من عادات وتقاليد، وما يطرح فيها من مشاهد وخطاب من الجمهور أو خطباء المنبر والشعراء.
إن الثوابت المذهبية الشيعية تقود الى الاندكاك بنهضة الإمام الحسين، والتي تدخل جذورها وأهدافها في صلب العقيدة الإسلامية، وفي صلب سنة رسول الله وتعاليمه. ومن خلال وعي ما قاله الرسول بشأن الحسين ونهضته واستشهاده، وما أوصى به بشأن آل بيته، وكون سيرتهم امتداداً لسنته، سيتضح أن الإحياء الحقيقي لمناسبات آل البيت عموماً، وذكرى الإمام الحسين خصوصاً، هو إحياء لسنة رسول الله. أي أن إحياء ذكرى نهضة الحسين هي شعيرة دينية وطقس إسلامي أصيل؛ لكنه ليس الطقس الشعاراتي وحسب؛ بل كل ما تنطوي عليه نهضة الحسين من مفاهيم عقدية وفقهية وإصلاحية وأخلاقية.
ولكن؛ في الوقت نفسه، هناك مظاهر ـــ في هذا المجال ـــ تتعارض مع سنة الحسين وأهدافه؛ فمثلاً بعض من يرتقي منبر أهل البيت ويضع العمامة على رأسه، ويظهر في قنوات تلفزيونية تتكلم باسم التشيع؛ يستغل مواسم عاشوراء في كل سنة؛ ليعرض أحاديث وسلوكيات تشوه نقاء مذهب آل البيت وأصالته وعقلانيته، وتصب في مصلحة مدرسة التكفير المعادية لأهل البيت وأتباعهم؛ لأن هذه الممارسات والأقوال المنسوبة الى التشيع، تتعارض ومقاصد الإصلاح والوعي في نهضة الإمام الحسين، وتتعارض أيضاً مع فتاوى المرجعية العليا وتوجيهاتها التي تصدرها الى الأمة عموماً، والى خطباء المنبر والقائمين على الشعائر الحسينية خصوصاً، كما أنها تنفِّر الآخر الديني والمذهبي من التشيع.
ويرى المعنيون أن ما يقوم به بعض هؤلاء من مجاهرة بالخرافة والبدع قولاً وسلوكاً، والغلو بأئمة أهل البيت، وسب الرموز المقدسة لدى المدرسة السنية؛ إنما هي قراءات لا علاقة لها بمدرسة آل البيت. صحيح أن التحريفيين المغالين المنتسبين الى الشيعة هي أقلية؛ لكنها أقلية ذات صوت عال، وتمتلك أدوات تعبير نوعية، ربما تفوق في بعض المجالات ما يمتلكه الواقع الشيعي العام برمته، بدءاً بالمؤسسات والجمعيات، والمدارس والمنابر، والقنوات التلفزيونية، وانتهاءً بالجماعات السياسية، ومجموعات الضغط الاجتماعية، والأموال الطائلة، ما يجعلها الأعلى صوتاً والأكثر صراخاً. ومن خلال تسخير كل ألوان الجذب التي تستقطب عواطف الناس وأسماعهم وأبصارهم؛ تمكنت هذه الأقلية من اختطاف بعض مساحات الواقع الشيعي، تمهيداً لاختطاف التشيع، عبر حصر تمثيله بها.
وبرغم ضآلة عدد أتباع هذه الفئات التحريفية، وافتقارها الى الكفاءات النوعية، وعدم رضا الخط العام للمرجعية الدينية ومجمل النظام الاجتماعي الديني الشيعي على أفكارها وسلوكياتها؛ إلّا أنها تزعم تمثيل التشيع الحقيقي حصراً، وأن منتقديها هم المنحرفون والضالون؛ لكنها بمزاعمها وسلوكياتها تعرِّض الشيعة الى مخاطر كثيرة، بينها خطران كبيران:
الأول: دعم مدارس الطائفية والتكفير، وفي مقدمتها المذهب الوهابي التكفيري، دعماً نوعياً كبيراً، ومساعدتها في توسيع جغرافيته ودائرة تأثيره، وإعطائها أدلة ملموسة على مدّعياتها، وتزويدها بشحنات قوية تضاعف قدرتها على استقطاب أتباع المذاهب السنية ضد الشيعة. بل أن الأقلية المغالية التحريفية المحسوبة على التشيع تقدم أدلة مجانية للمدرسة التكفيرية، تتسبب في دفع أهل “السنة” لتصديق مزاعم هذه المدرسة، وتضطر السنة الى الارتماء في أحضان الايديولوجية الوهابية. وحينها ينبغي عدم الاستغراب من لامبالاة أغلب السنة وهم يشاهدون المجازر التي يتعرض لها الشيعة في كل مكان؛ لأن المسوغات المجانية التي تقدمها بعض الفئات الشيعية المغالية؛ يستخدمها الوهابيون لكسب عواطف الجمهور السني.
الثاني: تشويه عقيدة آل البيت، وتضليل الشيعة وحرفهم عن مسار حركتهم الفكرية والميدانية؛ لأن هذه الفئات المغالية تطرح أفكار وسلوكيات تحت عناوين “العقيدة” و”الشعائر” و”المعاجز” و”الكرامات”، وصولاً الى إنتاج عقيدة وسلوك يختطفان عنوان التشيع بمرور الزمن. في حين يتحول دعاة الوعي والإصلاح الى ضالين مضلين من منظار هؤلاء المغالين.
وعند هذه المخاطر يكمن التناقض العجيب بين شعارات التحريفيين المغالين المنادين بالولاء لأهل البيت ومواساتهم والتأسي بهم، وبين أفكارهم وسلوكياتهم المتعارضة مع تعاليم أهل البيت ونهضة الإمام الحسين. فتعاليم أهل البيت هي خلاصة العقيدة والأخلاق والحكمة والعقل والرشد والإصلاح والعلم والتحضر، وتتعارض كلياً مع الغلو والخرافة والجهل والبدع.
ولعل إصرار المغالين الجدد على الإضرار بمصالح الواقع الشيعي، سينتهي بهم الى تأسيس مذاهب وفرق ضالة جديدة متباينة عن مدرسة آل البيت، كما حصل مع العلي اللهية ومدارس الغلو تاريخياً، أو ما حصل في القرون الأخيرة مع العبيدية والدراويش والبابية والبهائية والسلوكية وغيرهم.
ولعل أغلب المعنيين الشيعة، يحملون هؤلاء المغالين التحريفيين على محامل الغفلة والجهل والانسياق وراء المناهج المتطرفة والمتحجرة والسطحية للفهم الديني والتاريخي والعقل الجمعي، أو التعصب العاطفي والعناد، لكن هناك من يحمل جزءاً منهم على محمل الارتباط بمخططات تخريبية أجنبية معادية لمدرسة أهل البيت. لكن المعنيين الشيعة يجمعون على أن الفئات التحريفية المغالية تستبيح منبر أهل البيت وشعائرهم وطقوس أتباعهم، وتحولها الى ساحة للضلال ولتشويه مدرسة أهل البيت، أو الى منبر للتحليل السياسي وفرض المواقف السياسية على المستمعين، وفق التوجه السياسي للخطيب أو الشاعر أو صاحب المجلس. هذا السلوك بجعل عموم الشيعة يعتقدون بأن الفئات التحريفية والمغالية هو مصداق الـ ((شَين)) على أهل البيت، كما يصف الإمام الصادق بعض الشيعة بخطابه: ((كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا)).
إن التحريف والتخريف الذي ظل يستهدف نهضة الإمام الحسين، يشتمل على ثلاثة أقسام:
- التحريف في الوقائع التاريخية لنهضة الإمام الحسين عبر الروايات الموضوعة أو الأقوال المختلقة.
- التحريف والتخريف في بعض الطقوس التي تحول التشيع الى “فُرجة” مقززة لا يرضى بها الله ورسوله وآل بيته.
- التحريف في أهداف نهضة الإمام الحسين، وتجزأتها وتفكيكها، وتحويلها من نهضة إصلاحية دينية مفصلية في مسار الإسلام، هدفها إعادة العقيدة الى واقع الأمة وإقامة حكم الإسلام وتطبيق شريعة رسول الله، الى مشهديات طقسية أو تضحوية أو ثورية، أو سرديات خرافية، أو تماهيات مع التفسيرات التجزيئية الوضعية.
ومن يريد اكتشاف المصاديق والأدلة؛ التعرف ابتداءً على المعايير الحاكمة التي حددها القرآن الكريم والصحيح من سنة الرسول وآل بيته؛ لأنها الميزان الذي نزن فيه الغلو والخرافة والإساءة للمذهب ولشعائر آل البيت. صحيح أن مفاهيم الغلو والانحراف والتجهيل والدس هي مفاهيم عامة فضفاضة مفتوحة، ولكن يمكن تحديدها بما يتفق وتلك المعايير، من خلال عرض مصاديقها الكلية والتفصيلية على هذه المحددات، فإذا تطابق المصداق مع المعيار المحدد أو قاربه، سنعرف حينها ماهو الشرعي وماهو اللاشرعي، وماهي الشعائر وماهي الطقوس، وما هو الأصيل وما هو الدخيل، وما هو المستقيم وما هو المحرّف، وماهي المختلقات والخرافات وماهي الحقائق والوقائع، وماهي المصالح وماهي المفاسد.
وقد ذكرتُ بعض مصاديق التحريف والغلو والتخريف للأقسام الثلاثة السالفة في الكتاب الذي أعكف على تدويته: ((الحسين نهضة وليس ثورة)). كما تحدث عنها وتصدى لها عشرات المصلحين من المراجع والمفكرين والباحثين وكبار الخطباء، كالسيد محسن الأمين والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد محسن الحكيم والإمام الخميني والشيخ المطهري والسيد الصدر والشيخ الوائلي والسيد الخامنئي والسيد السيستاني وآخرون من الفقهاء والمفكرين والباحثين. ولا يعني هذا وجود تطابق في التوجيهات والفتاوى بين مراجع المذهب الشيعي ومفكريه، فكل منهم ينظر الى إصلاح المنبر والتاريخ والشعائر من زوايته، لكنها في المجموع تتفق على الخطوط العامة، وإن تنوعت المصاديق.
وهناك فرق جوهري بين الشعيرة الدينية والطقس الاجتماعي المنسوب الى الشعيرة. فالشعيرة المنصوص عليها بنص صريح صحيح هي توقيفية تعبدية، وتتمثل في إحياء أمر آل البيت وسنتهم (قول الإمام وفعله وتقريره) في حياة المسلمين، بوصفها امتداداً لسنة رسول الله. أما الطقوس الاجتماعية المنسوبة الى الشعيرة، والتي أسسها عموم الشيعة في مختلف بلدان العالم، عبر السنين؛ فهي نتاجات إنسانية، وليست شعائر بالمعنى العقدي والفقهي، ويطلق عليها المجتمع “شعائر” مجازاً وتسامحاً؛ كونها منسوبة الى الشعيرة، أي أن “الطقس” ليس “شعيرة” بذاته؛ بل هو الجزء المظهري المهم من شعيرة إحياء أمر آل البيت، ولابد أن تكون الطقس من جنس الشعيرة. وبالتالي؛ فإن تطبيق هذه المعيارية بحاجة الى موقف الشرع، إثباتاً أو نقضاً بالعنوان الأولي أو العنوان الثانوي أو حكم الحاكم الشرعي.
إن الفعل التصحيحي لمراسيم إحياء أمر آل البيت وسيرتهم هو الأصل، وهو قاعدة إصلاح المجتمع الشيعي ونظامه الديني. ولذلك؛ يحتاج النظام الاجتماعي الديني الشيعي الى نهضة شاملة في مجال التصحيح والإصلاح وإعادة المسارات، تتوزع على خمسة محاور نهضوية فرعية تكمل بعضها:
- نهضة إرشادية وفتوائية دينية: وهي نهضة تخصصية تقودها المرجعية الدينية وتنفذها أجهزة الحوزة العلمية والوكلاء والمعتمدون والخطباء المجازون من الحوزة العلمية.
- نهضة علمية وبحثية: وتتضمن التحقيق الدقيق في سيرة آل البيت وأحاديتهم وما روي عن أفعالهم وتقريراتهم؛ لتكون النتائج ملزمة لجميع أتباعهم، وحجة على الجميع، بمن فيهم دعاة الخرافة والتحريف. كما تتضمن معاهد وكليات لإعداد الخطباء والمبلغين والشعراء و(الرواديد)، بإشراف الحوزة العلمية، وإجازات تمنحها لهذا الغرض.
- نهضة إعلامية وأدبية: وتتضمن إطلاق وسائل إعلام وفضائيات وبرامج ومواد إعلامية ووثائقية ومؤتمرات ومحاضرات ومجلات وقصائد وقصص وروايات وأشعار بالعامية والفصحى. وجميعها تعتمد على نتائج النهضة العلمية والبحثية وتوجيهات المرجعية العليا.
- نهضة فنية: وتشتمل على إنتاج الأفلام والمسلسلات والأناشيد والموسيقى والمواد الفنية وإقامة المهرجانات، بالاعتماد على نتائج النهضة العلمية والبحثية وتوجيهات المرجعية العليا.
- نهضة اجتماعية ثقافية: وتشتمل على بث الوعي الجماهيري المركّز والمكثف، وتنظيم الشعائر والممارسات والسلوكيات العامة.
وبما أن الطقوس الاجتماعية المنسوبة الى الشعيرة الدينية هي شأن اجتماعي عام وليس شأناً خاصاً، وأنها تمثل مظاهر اجتماعية وليست فردية، ولذلك فهي تقع في إطار الأمور الحسبية التي يترتب عليها حفظ النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وجلب المصالح له ودرء المفاسد عنه. ولا يمكن لهذا الدور الرأسي أو القيادي الاجتماعي الديني أن يقوم به جميع المراجع والفقهاء في الزمان والمكان نفسيهما؛ لأن التزاحم واختلاف الرأي بين الفقهاء في الشأن العام، سينتج عنه فوضى مجتمعية ومفاسد كبيرة تطيح بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وعليه؛ يكون من البديهي حصر إصدار الأحكام الثانوية والولائية الخاصة بشرعنة ممارسات إحياء أمر آل البيت والطقوس الاجتماعية المتعلقة بها، بالفقيه المتصدي أو المرجع الأعلم الحي في كل زمان، وهو الذي يحدد شرعية بعض المراسيم والعادات والطقوس المختلف عليها أو عدم شرعيتها، وصلاحها أو عدم صلاحها. أما حيال الفقهاء الآخرين الذين أوصلهم اجتهادهم الى رؤى فقهية مختلفة أو متعارضة مع رؤى المرجع الأعلى أو الفقيه المتصدي للحسبة والحكم، ويرون تكليفهم في صيغ أخرى؛ فإن مصلحة المجتمع الشيعي ووحدة مساره وأمنه، تقتضي عدم مزاحمة المرجع الأعلى أو الولي الفقيه في تطبيق رؤاه اجتماعياً.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua