تحريف التاريخ والوضع في السنة النبوية

Last Updated: 2024/04/13By

تحريف التاريخ والوضع في السنة النبوية

د. علي المؤمن

الركيزة الأساسية الأخرى التي تتسبب في استمرار حالة الشقاق النفسي والعملي بين السنة والشيعة، هي اعتماد الباحثين وعلماء الدين على الموروث التاريخي للخلاف، والذي تسبب بأغلبه الرواة والوضّاعون والمؤرخون الجهلاء أو المندسون أو موظفو السلطتين الأموية والعباسية، حين ارتكبوا جريمة تحريف السنة النبوية وتحريف السيرة والتاريخ. فإذا تركنا جانباً المحدثين والرواة والوضاعين (خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة) جانباً، ودرسنا كتابات الذين جاؤوا فيما بعد (القرون الرابع حتى الثامن)، والذين تحملوا مسؤولية تدوين التاريخ الإسلامي، نرى أن مساهمتهم في تأجيج الفتنة الطائفية وتعميق الفرقة بين المسلمين، لا تقل خطورة عمّن سبقوهم من الرواد، بل وتفوقها أحياناً، فكما طعن البعض في أئمة المذاهب السنية الأربعة، فإن الكثيرين من المؤرخين اتجهوا بكل ثقلهم للطعن في أئمة الشيعة وتلامذتهم وأتباعهم وفكرهم.

يقول ابن عبد ربه المالكي (ت 328 هـ): ((الرافضة يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية، وإن محنتهم هي محنة اليهود، كما قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب)). بينما عدّ ابن طاهر البغدادي (ت 429 هـ) الشيعة بأنهم ((من أهل الأهواء))، ووفّر على معاصريه مهمة تكفير الشيعة بجميع مذاهبهم، بمن فيهم الإمامية، في فصل كامل من كتابه، وهو ما فعله ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) أيضاً، حين اعتبر ((الشيعة، ومنهم الإمامية الاثنا عشرية، مرتعاً لكل من يريد الكيد للإسلام))، وأن ((الإمامية من الروافض سلكت مسلك اليهود والنصارى في الكذب والكفر))، وأن ((أهل السنة هم أهل الحق، ومن عاداهم فأهل البدعة)).

أما أحمد ابن تيمية (ت 728 هـ)؛ فكان الأكثر عداءً للشيعة وطعناً بأئمتهم، بدءاً بالإمام علي، واعتبرهم ملة خارجة عن الإسلام. ويقول بأن ((الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة)). ويؤيده ابن خلدون (ت 808 هـ)، حين يقول في مقدمته: «وشذّ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به».

وكانت مجمل هذه الكتابات والمقولات هي المراجع التي اعتمدها المؤرخون الذين ظهروا في القرون اللاحقة، وكذلك فعل الكتّاب المعاصرون؛ الأمر الذي يؤكد الدور السلبي الذي مارسه معظم المحدثين والرواة والمؤرخين وعلماء الكلام، وما زالت آثاره قائمة حتى الآن، في تصديع كيان الأمة وتسويغ انقساماتها، وهو ما ظل هدفاً للسلطات التي حكمت المسلمين منذ نهاية عصر الخلافة الراشدة؛ فتاريخ المسلمين كتبه الحاكمون ـــ غالباً ـــ عبر عقول وأقلام قريبة منهم سياسياً وطائفياً، وحتى المؤرخ والكاتب المحايد – إن وُجد – فإنه يصعب أن يكتب ما يسيء إلى الحاكم، وإن أصر على كتابة الحقائق. وبالتالي؛ من الطبيعي أن تكون كتابات وآراء ابن عبد ربه وابن طاهر وابن حزم وابن خلدون وعشرات غيرهم معبرة عن آراء الحاكمين ورغباتهم، فضلاً عن انسجامهم مع انتمائهم الطائفي.

ومن خلال حركة الوضع في السنة وتحريف التاريخ، انبرى معظم الفرق والمذاهب لدعم رموزه ومواقفه العقدية والفقهية والتاريخية، بغية ضرب الفرق والمذاهب الأخرى، واستقطاب المسلمين إليه، وكان ذلك مدعاة لخلق مزيد الفتن وتعميق الصراع الطائفي. فنرى في التاريخ أن بعض الشيعة غالوا في حب أئمة أهل البيت، وخاصة الإمام علي، ونسبوا إليهم ما لا يُنسب سوى إلى الله، فخرجوا بذلك عن جادة الدين ودائرة التشيّع، وقد تبرأ منهم أئمة المدرسة الشيعية وعلماؤها. كما غالى أتباع المذاهب السنية في أئمتهم، وافتروا عليهم بأحاديث وكرامات مكذوبة، ظناً منهم بأنهم يحسنون إليهم بذلك، ولو كان أئمة المذاهب، ومنهم الأئمة الأربعة، أحياءً في عصر الفتن والنزاعات، لتبرأ كل إمام من أتباعه، ولتبرؤوا من الذين يضعون الأحاديث على لسان رسول الله بحقهم.

فقد زعم – مثلاً – بعض المتقدمين من أتباع المذهب الحنفي، أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله، وكان من هؤلاء، أتباع عبد الله بن مبارك، حيث يقول علي بن جرير: «كنت في الكوفة، فقدمت البصرة وفيها عبد الله بن مبارك، فقال لي: كيف تركت الناس؟ قال: قلت تركت بالكوفة قوماً يزعمون أن حنيفة أعلم من رسول الله. قال قلت: اتخذوك في الكفر إماماً. قال: فبكى حتى ابتلت لحيته». وروى آخرون عن رسول الله قوله: «الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني».

أما بعض المتقدمين من المالكية، فقال بأن على فخذ مالك مكتوب بقلم القدرة: «مالك حجة الله في أرضه». ويقول القاضي عياض السبتي: «إن مالكاً أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً وأصح تفريعاً وتفصيلاً، في حين ترك أبو حنيفة نصوص الأصول وتمسّك بالمعقول، ووجد بعضهم استحسانه أنه الميل إلى القول بغير حجة. أما أحمد وداود الظاهريين، فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الاعتبار، ولكن داود غلا في ذلك، فتهافت مذهبه واختل نظره، والشافعي خالف بعض أصول المالكية لا عن دراية بل عناداً». فالقاضي عياض هنا يتهم كل المذاهب بالبدعة، عدا مذهبه.

وبشأن الإمام الشافعي؛ يروي المزني أنه رأى رسول الله في منامه، فسأله المزني عن الشافعي، فقال الرسول: «من أراد محبتي وسنتي، فعليه بمحمد إدريس الشافعي المطلبي، فإنه مني وأنا منه».

ويروي المديني بشأن الإمام أحمد: «إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة». ويقول الجوزي بالإسناد عن أبي جعفر القاضي: «قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من بحر الهند، فقال: إني رجل من بحر الهند، خرجت أريد الصين، فأصيب مركبي، فأتاني راكبان على موجة من أمواج البحر، فقال لي أحدهما: أتحب أن يخلصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل السلام؟ قلت: ومن أحمد؟ ومن أنتما يرحمكما الله؟ قال: أنا إلياس، وهذا الملك الموكل بجزائر البحر، وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم، فنفض البحر نفضة، فإذا أنا بساحل الأبلة، فقد جئتك أبلغك منهما السلام».

ونحجم عن ذكر مئات الروايات في هذا المجال، والتي تصطدم بأبسط مبادئ الشرع والعقل، ولا يستثنى منها أي من المذاهب الإسلامية، وهي متوافرة في مصادرها وكتبها الأساسية، وتحديداً كتب الحديث والروايات والفضائل والطبقات، وهو ما رفضه آخرون، وأكدوا أن جميع هذه الروايات موضوعة، سواء تلك التي ترتبط بالكرامات أو التي ترتبط بالمثالب، إذ يقول العجلوني في كتابه «كشف الخفاء» والفيروز آبادي في خاتمة «سفر السعادة»: «باب فضائل أبي حنيفة والشافعي وذمهم، ليس فيه شيء صحيح، وكل ما ذكر من ذلك فهو موضوع ومفترى».

بل ولا تنسجم هذه الروايات مع آراء أئمة المذاهب أنفسهم، وخاصة مع ما اشتهر عنهم من القول: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب». وربما يكفي للدلالة على براءة أئمة المذاهب ممن نسبوا إليهم ما ليس لهم، ما قاله الإمام مالك: «إنما أنا بشر، أصيب وأخطئ، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة»، وقول الإمام أبي حنيفة: «هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي آخر غير هذا قبلناه. حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي»، وقول الإمام الشافعي: «إذا صح بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط»، وكذا الإمام ابن حنبل: «لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا».

كما أن أئمة آل البيت، بدءاً بالإمام علي وانتهاء بالإمام المهدي؛ تبرؤوا من أتباعهم الذين غالوا فيهم، إذ يقول الإمام الصادق: «إن قوماً يزعمون أني لهم إمام، والله ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم الله، أقول كذا ويقولون كذا، إنما أنا إمام من أطاعني». كما يخاطب الإمام المهدي صاحبه محمد بن علي بن هلال الكرخي قائلاً: «يا محمد بن علي، قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينهم جناح البعوضة أرجح منه. فأشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيداً، ورسوله محمد صلى الله عليه وآله، وملائكته وأنبياؤه، وأولياؤه، وأشهدك وأشهد كل من سمع كتابي هذا، أني بريء إلى الله وإلى الرسول ممن يقول: إنا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه لنا وخلقنا له». وكان أحمد بن هلال الكرخي عم محمد بن علي الكرخي من أصحاب الإمام العسكري إلا أنه غلا فيما بعد، فتبرأ منه الإمام المهدي.

وهذه المؤيدات، تؤكد ضرورة إخضاع روايات ومدونات الرواة والمؤرخين والكتّاب الذين عاشوا في ظل الحكومات الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية والصفوية إلى التمحيص الدقيق والتحليل التاريخي المعمَّق، للحيلولة دون تكريس منهج التفرقة والانقسام الذي أسسه معظمهم بأمر من السلطات. وقد فتحت المدرسة الشيعية لعلمائها باب الطعن في الحديث، بعد أن ابتليت – كالمدرسة السنية – بالأحاديث والروايات التي دسّها الغلاة وبعض أصحاب المصالح الضيقة في كتبهم. ومن الأمثلة في هذا المجال موسوعة «بحار الأنوار» في الحديث للشيخ المجلسي (ت 1110 هـ)، التي فيها الكثير من الأحاديث الضعيفة، والتي سعى علماء المذهب لاستخراجها وتصحيحها. وحتى كتاب «الكافي» الذي يعده الشيعة أهم كتبهم الأربعة، فإن بعض علمائهم ذكر أن فيه «9485» حديثاً ضعيفاً من مجموع «16121»، في حين ذكر محقق معاصر أن «4428» من أحاديث الكافي صحيحة فقط والباقي متروك. حتى أن السيد مرتضى العسكري يرد على الحديث المنقول عن الإمام المهدي والذي مضمونه «إن الكافي كافٍ لشيعتنا»، فيقول عنه: «قول مجهول راويه، ولم يسمِ أحد اسمه، ويدل على بطلانه تأليف مئات كتب الحديث بمدرسة أهل البيت(ع) بعد الكافي».

وإذ فتحت المدرسة الشيعية باب الطعن في الأحاديث المروية في أهم كتبها، فإن المدرسة السنية لم تحاول ذلك بعد، وخاصة في مرويات أبي هريرة وابن اسحق والبخاري، حيث تعتبر أن كتب الصحاح الستة في الحديث، ولا سيما صحيح البخاري، هي كتب صحيحة، ولا يرقى إلى أحاديثها ورواياتها.

وهذا لا يعني أن تنقية كتب الموروث الإسلامي هو عمل عام وارتجالي ودعائي، يمكن للجميع ممارسته دون معرفة عميقة بالضوابط العلمية، بل هو عمل تخصصي، ومكانه المؤسسات العلمية الدينية التخصصية، شأنه شأن أي عمل علمي آخر، فوسائل الإعلام العامة ليست منبراً علمياً تخصصياً مناسباً، لكي يتم عبره طرح موضوعات الإصلاح العلمي والفكري والكلامي والفقهي؛ إن كان الهدف هو التنقية والتصحيح، ولا الزمان الطائفي الصاخب الخطير الذي تعيشه الأمة والمجتمعات الإسلامية، يصلح للمقاربات التصحيحية المثيرة للصراعات الطائفية المجتمعية، ولا المنهج الانتقائي التعميمي هو منهج موضوعي، ولا النتائج المستندة إليه يمكن أن تكون علمية.

لا نختلف أن كثيراً من آراء الغلو والإقصاء والخرافة موجود في موروثات المسلمين الروائية والتاريخية والعقدية والفقهية، وإن اندثر آراء أغالبها، ولم يعد معمولاً به في منهج أغلب علماء المسلمين. لذلك؛ ليس من الوعي والحكمة والموضوعية والإصلاح أن نبش الموروث الإسلامي بأسلوب عشوائي ودعائي، وانتقاء ما يتطابق مع الأهداف الطائفية والشخصية والايديولوجية والسياسية، وتسخيرها لنتائج مسبقة، وإعادة ترويجها بأساليب شعبوية ودعائية، بحجة النقد والتصحيح، ولكن الهدف الحقيقي هو ضرب الفرق والمذاهب الأخرى.

وبالتالي؛ فإن هذا الخطأ المركب يكشف بوضوح عن الافتقاد لحكمة ((لكل مقام مقال))، ولوعي متطلبات الزمان والمكان، فضلاً عن الافتقاد لصوابية المنهج العلمي والمخرجات البحثية حيال هذا الموضوع. وهو ما يتطلب معالجة سريعة ومركزة للموقف، لإغلاق باب الاتهامات والاصطفافات المتجددة ضد الشيعة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment