تأسيس المذاهب وانتشارها وإسهامات العرب والفرس
تأسيس المذاهب وانتشارها وإسهامات العرب والفرس
د. علي المؤمن
المذاهب الإسلامية بين العرب والفرس
لم يكن الإسلام منذ أظهره الرسول محمد في الجزيرة العربية، ديناً لقوم أو جغرافيا أو لغة أو لون؛ فكل الأعراق والأقوام والألوان من منظار الإسلام؛ بشر متساوون في الإنسانية، ولا يميزهم عن بعضهم سوى مستوى التزامهم بإنسانيتهم، أما المسلمون منهم، عرباً وفرساً وأوزبكاً وكرداً وتركاً ونوبيين وأمازيغ وهنود وأوربيين وروس وغيرهم؛ فهم متساوون كأسنان المشط، لا فرق بينهم إطلاقاً، إلّا بمستوى إيمانهم وتقواهم وخدمتهم للدين، وهو ما تؤكده النصوص الإسلامية بوضوح، دون الحاجة لعناء التفسير والتأويل، ولعل أوضحها: ((وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم))(1)، فالالتزام بالدين هو معيار الأفضلية حصراً، وليس العرق والقبيلة واللون، وقول الرسول: ((لا فرق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود، إلّا بالتقوى))(2).
أما تحريف مسار المسلمين بعد باتجاه تفضيل قومية على أخرى، وتحديداً تفضيل العرب على غيرهم من الأقوام، فهو صناعة أموية بامتياز، وقد بدأها معاوية، حتى ظهر التمييز بين المسلمين، بين عرب وموالي، وبات الأُمويون يبثون روح الاستعلاء والاستكبار تجاه القوميات الأُخر، وانعكس ذلك على ظهور الحركات المعادية للعرب في شمال أفريقيا وبلاد فارس وغيرهما، ومنها الحركات الشعوبية. وأخذ هذا الفصل العنصري الأموي يضعف تدريجياً، بفضل حراك أهل البيت الاجتماعي والتبليغي من جهة، وسقوط الدولة الأموية وسيطرة العباسيين على زمام أمور المسلمين من جهة أخرى، إلّا أن العقيدة الأموية الطائفية العنصرية، ظلت حاضرة في عقول وسلوكيات كثير من المسلمين العرب، يقابلها ردود فعل متعارضة من القوميات الأخرى، ولاسيما الفرس.
ورغم هذه الحساسيات القومية؛ فقد ساهم كثير من الأقوام في انتشار الإسلام والتأسيس لعلومه، إلّا أن قومين كان لهم الدور الأهم في هذا المجال، هم العرب والفرس، وخاصة في مجال التأسيس للمذاهب الإسلامية وانتشارها. ونذكر هذه الحقائق، ليس للتنابز بالألقاب والأنساب أو تمييز قومية مسلمة على أخرى، ولكن؛ للتاريخ فقط ولرفع الشبهات عن بعض المذاهب الإسلامية في هذا المجال، وهي الشبهات التي ظلت تساهم في الخلافات النفسية والسلوكيات المتعارضة بين المسلمين.
كحقيقة تاريخية، لا تشكل أي انتقاص من الفرس أو من المذاهب السنية، أو تجعل العروبة معياراً للصح والخطأ، إطلاقاً؛ فإن التشيع هو مذهب حجازي عراقي من الناحية الجغرافية، وحاضنته عربية، وأئمته عرب من الناحية القومية، أما التسنن فقد كان للفرس المساهمة الأكبر في تأسيسه ونشره، فأئمته ومحدثوه ورواته أغلبهم من الأعاجم. وقد تشيع الفرس على يد العلويين والشيعة العرب المهاجرين، ثم على يد الفقهاء العرب شيعوا الفرس. أما العرب؛ فكان أغلبهم من الشيعة، من المغرب العربي وحتى بلاد الشام والعراق، حتى قام الكرد الإيرانيين، من زنكيين وأيوبيين، ثم السلاجقة الترك، بفرض التسنن بقوة السلاح على الشيعة العرب، فقد كان سلاطين الدول الشيعية الحمدانية والإدريسية والفاطمية، والذين حكموا العالم الإسلامي كله، من ذرية رسول الله أو من العرب الأقحاح، وكان أغلب شعوب هذه البلدان هم من الشيعة العرب، إلّا أن صلاح الدين الأيوبي، الكردي الإيراني، كان أكثر شخصية في التاريخ نجحت في حمل العرب الشيعة على التسنن، بعد أن قتل مئات الآلاف منهم. في حين أن إسماعيل الصفوي، ذا الأصل العربي العراقي، هو الذي شيّع ما بقي من الفرس.
الفرس وتأسيس المذاهب السنية
نقصد بالفرس هنا، عموم شعوب بلاد فارس، بمن فيهم شعوب خراسان الكبرى، أو الإيرانيون بمعنى آخر، لأن هذا الإطلاق هو المعيار الذي اعتمده المؤرخون العرب والمسلمون، منذ حركة الفتوحات الإسلامية باتجاه شرق العراق، ما يعني أن الإمام أحمد بن حنبل هو العربي الوحيد بين أئمة المذاهب الأربعة، أما أبو حنيفة فهو من بلاد فارس، ومالك والشافعي مستعربان من بلاد فارس، كما أن أصحاب الصحاح الستة ليس فيهم عربي سوى واحد فقط أيضاً، هو مسلم القشيري النيسابوري، والباقون: البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود السجستاني وابن ماجه، من بلاد فارس، وهكذا أغلب الفقهاء والرواة والمفسرين السنة هم من بلاد فارس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والليث الأصفهاني وربيعة الرأي والبيهقي والطبري، وعشرات آخرون، ونذكر هنا أهم الشخصيات التأسيسية منهم:
- مجاهد بن جبر (ت 104 هـ)، من كبار المحدثين.
- عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)، من كبار المحدثين والفقهاء.
- كيسان (أيوب) السختياني (ت 131هـ)، من مؤسسي العقيدة السلفية، كانوا يسمونه سيد فقهاء السنة، من سختيان في بلاد فارس.
- ربيعة الرأي بن فروخ (ت 136 هـ)، أستاذ الإمام مالك وكبير محدثي أهل السنة، فارسي من ري وسط بلاد فارس.
- أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ)، إمام المذهب الحنفي، طاجيكي فارسي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- الليث بن سعد الإصفهاني (ت 175هـ)، مؤسس المدرسة الفقهية السنية في مصر؛ فارسي من إصفهان في وسط بلاد فارس.
- مالك بن أنس (ت 179 هـ)، إمام المذهب المالكي، مستعرب، قدم والده من بلاد فارس الى المدينة.
- محمد بن إدريس الشافعي (ت 198 هـ)، إمام المذهب الشافعي، مستعرب، قدم والده من بلاد فارس الى المدينة.
- محمد بن نصر المَرْوَزِي (ت 202 هـ)، إمام الشافعية في زمانه، أُوزبكي من مرو في إقليم خراسان.
- إسحاق بن راهوية (ت 238هـ)، كبير المحدثين والفقهاء السنة في إيران، وكان يسمى سيد المشرق، تركماني من خراسان.
- محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256ه)، أهم أئمة الحديث عند السنة وأبرز أصحاب الصحاح الستة، أُوزبكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261هـ)، أحد أصحاب الصحاح الستة، إيراني بالولادة، من نيسابور في شمال بلاد فارس.
- محمد بن ماجه القزويني (ت 273هـ)، أحد أصحاب الصحاح الستة، فارسي من قزوين في وسط بلاد فارس.
- سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ)، أحد أصحاب الصحاح الستة، طاجيكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- محمد بن إدريس الرازي (ت 277 هـ)، من أهم المفسرين والمحدثين عند السنة، فارسي من ري في وسط بلاد فارس.
- محمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ)، تلميذ البخاري وأحد أصحاب الصحاح الستة؛ أُوزبكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ)، أحد أصحاب الصحاح الستة، تركماني من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، من أهم الفقهاء والمفسرين والمؤرخين السنة، فارسي من طبرستان (مازندران) في شمال بلاد فارس.
- محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ)، فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
- أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، صاحب السنن الكبرى، فارسي من بيهق في شرق بلاد فارس.
- محمد بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ)، أمام المفسرين عند السنة، تركماني من إقليم خراسان في بلاد فارس.
- محمد الغزالي الطوسي النيسابوري (ت 450 هـ)، فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
- عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري (ت 429هـ)، أحد أهم المفسرين لدى السنة، فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
- أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (ت 476 هـ)، إمام الشافعية في وقته، فارسي من شيراز في وسط بلاد فارس.
- عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ)، كبير فقهاء الحنابلة وإمام الفرق الصوفية، فارسي من كيلان في شمال بلاد فارس.
ومن هنا فإن المذاهب الأربعة مدينة لعلماء بلاد فارس، لما قاموا به من دور أساسي في نشوئها وانتشارها(3).
وهذا يعني أن أغلب أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية ومشايخ الطرق الصوفية عند أهل السنة هم من بلاد فارس، وبكلمة أخرى؛ فإن أهل السنة أخذوا دينهم وشريعتهم وفقههم وحديثهم وتفسيرهم وتاريخهم ولغتهم العربية من الأعاجم الفرس والأوزبك والتركمان. وهذه الحقيقة ــ كما أسلفنا ـــ لا تشكل أي انتقاص من المذاهب السنية ولا يحط من قيمتها الدينية إطلاقاً، لأن الفرس كغيرهم من الشعوب المسلمة، دخلوا الإسلام، وانصهروا في عقيدته، وباتوا جزءاً من مجتمعاته، ولا يعيب على أية فرقة عقدية مسلمة ولا مذهب ولا موسوعة حديثية ولا مدونة لغوية، أن يكون الفرس أو أية قومية غير عربية، قد أسسوها أو ساهموا في تأسيسها وبلورتها ونشرها، وإن من جلب هذه نعرة العرب والعجم والموالي والفرس والشعوبيين؛ هم بنو أمية، ومن تبعهم حتى اليوم.
اتهام الفرس بالمجوسية وبالكيد بالإسلام
يتميز الفرس بدور تاريخي خاص في حركة ظهور المذاهب في الإسلام وانتشارها، ولا يمكن للأبحاث العلمية المختصة بتأريخ المذاهب أن ترقى لمستوى أهدافها بمعزل عن دراسة هذا الدور بموضوعية، لأن عمق دور الفرس وسعة مساحته يشمل جميع المذاهب، بشكل أو بآخر، سواء الفرق والمذاهب السنبة أو الفرق والمذاهب الشيعية. ولكن، ما يعنينا هنا انقلاب الصورة تجاه هذا الدور بمجرد تحول إيران رسمياً الى دولة شيعية خلال العصر الصفوي.
فبعد تشيع من تبقى من شعوب بلاد فارس على يد الدولة البويهية ثم الدولة الصفوية، وتحول بلاد فارس رسمياً الى دولة شيعية، وتأجج نار الصراع الطائفي ــ السياسي بين الدولة السلجوقية والدولة البويهية ثم بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية؛ فإن المنظومة الطائفية المخاصمة للمذهب الشيعي؛ أخذت تغير من لهجتها تجاه الفرس ودورهم العلمي، وأعادت الى الأذهان دعاية العقيدة الأموية الطائفية العنصرية ضد غير العرب وغير السنة، ولاسيما الفرس الشيعة، وأخذت تربط دور الفرس في التاريخ الإسلامي بظهور المذهب الشيعي وانتشاره(4)، في إطار الحالة الطائفية المتعصبة، فالاتهام بالفارسية يُقصد منه هنا الإساءة والتشويه، وما يترتب عليه من محاولات الطعن بالشعوبية، والبحث عن جذور غير إسلامية و غير عربية لهذا المذهب أو ذاك.
وتبنى بعض المستشرقين الأوروبيين هذه الرؤية، ثم المؤرخين المسلمين السنة الذين تأثروا بهم، ومن أبرزهم، المستشرق “دوزي”، الذي رأي أن الفرس وجدوا انسجاماً بين إدانتهم بالملكية الوراثية والإمامة الوراثية، في حين يرى “فلهوزن” أن الشيعة نبعت من اليهودية أكثر من الفارسية(5). أما “كارل بروكلمان” فيقول بأن حزب علي (الشيعة) أصبح فيما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب(6)، ويعني ذلك أن التشيع كان مرادفاً للشعوبية. ومن المؤرخين المعاصرين الذين ذهبوا إلى هذا الرأي، أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام”، والشيخ محمد أبو زهرة في كتاب “تاريخ المذاهب الإسلامية”، إذ يقول أحمد أمين بأن «نظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانيين»(7)، وهو مضمون رأي “دوزي” نفسه، فيما يقول الشيخ أبو زهرة: «في الحق إنا نعتقد أن الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك ووراثته… وإن الشيعة الأولين كانوا من أهل فارس»(8).
وبالتالي؛ فإن التأكيد على سلبية دور الفرس جاء متأخراً، وتحديداً مع تصاعد الدعاية العثمانية ضد الدولة الصفوية والشيعة، ثم انتقال الدعاية العثمانية الى ولايتها العربية، وصولاً الى تقريرها رسمياً في كتابات المؤرخين والباحثين العرب المعاصرين، بينما لم يجرِ الحديث عن مجوسية الفرس وكيدهم بالإسلام قبل ذلك، حتى أصبح هذا الحديث، أحد أبرز حراب الماكنة الدعائية للتكفيريين الجدد ضد الفرس الشيعة، ليس لأنهم فرساً، بل لأنهم شيعة.
ورغم أن هذه الماكنة الدعائية لا تصرح بفارسية ومجوسية المذاهب الإسلامية السنية، لكنها حين تقرن الفرس بصفة المجوس والكيد بالإسلام في تنظيراتها وكتاباتها وإعلامها؛ فإنها توحيان تلقائياً بأن أهل السنة هم أتباع المجوس، وأن المذاهب السنية التي تتبع أئمة وفقهاء ومحدثين ومفسرين من الفرس؛ باتت فاقدةً لشرعية التمذهب، لأن الفرس إذا ظلوا على مجوسيتهم بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس، وعلى كيدهم بالإسلام؛ فهذا يعني أنهم أسسوا مذاهب أهل السنة وكتبوا أحاديثهم وفسروا لهم القرآن الكريم وكتبوا تاريخهم وقننوا لهم النحو والصرف وفقه اللغة العربية، من منطلق الكيد بالإسلام، وهي دعوى لا تصح عقلاً وشرعاً.
وغير خاف على أحد أن السلفية التكفيرية هي الفرقة الأكثر تكريساً لقواعد التمييز العرقي والقومي، وتفضيل العرب على غيرهم من المسلمين، ووصف كل من يدعو للتساوي بين المسلمين بأنه شعوبي ومعادٍ للعرب، وهي نزعة جاهلية أعرابية أسسها الأمويون، وأورثوها للمدرسة السلفية التكفيرية، ثم تلقفها منهم بعض العرب الشوفينين؛ ليمعنوا تكريس فلسفة الكراهية للشعوب المسلمة، ولاسيما للفرس؛ ولكن ليس على أساس ديني؛ بل على أساس عنصري. وبذلك مثّل السلفيون التكفيريون(9) الجناح اليميني الثيوقراطي من الايديولوجيا الأموية الجديدة، فيما مثلت العقيدة الشوفينية لبعض العرب(10) الجناح اليساري العلماني للايديولوجيا الأموية؛ على اعتبار أن جوهر الحكم الأموية كان علمانياً ببرقع ثيوقراطي.
ولاشك أن هدف المنظومة الطائفية العنصرية في وصف المسلمين الفرس بالمجوسية بالأساس، هي مدرسة أهل البيت وليس المذاهب السنية، لأن مشكلتها ليست مع الفرس بل مع الشيعة، حين تصف التشيع بأنه فارسي، وبالتالي فهو دين مجوسي، ولكن؛ حين تفشل هذه الدعاية في إثبات حقيقة فارسية التشيع بالأدلة العقدية والفقهية والرجالية والتاريخية؛ فإنها سترتد على المذاهب الإسلامية السنية، بقصد أو بدونه، إلّا إذا أخذنا بالتفسيرات الطائفية الانتقائية التي تخلو من أي منطق ومنهج علمي، والتي ترى بأن الفارسي يكون مجوسياً حين يكون شيعياً، أما الفارسي السني فهو ليس مجوسياً، بل مسلم ينطبق عليه حديث (( لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى))، وإن كان هذا الفارسي السني شعوبياً وعدواً للعرب. في حين لو كان الفارسي شيعياً وعادلاً وتقياً، بل من أصل عربي وسيد شريف من سلالة رسول الله، ولكن بما انه شيعي؛ فلابد أن يكون مجوسياً وعدواً للعرب!.
الفرس وانتشار المذاهب الشيعية
من خلال الاطلاع على المدونات الحديثية والعقدية والفقهية الشيعية الرئيسة، وأعلام الشيعة في مرحلتي الظهور والانتشار الأول، سنتوصل الى ما يلي:
- إن الأحاديث والروايات والمعتقدات الشيعية المثبتة في أمهات كتبهم؛ ترجع أصولها إلى أئمتهم الاثني عشر، وهم سادة العرب، بدءاً بعلي بن أبي طالب، وانتهاء بمحمد بن الحسن المهدي المنتظر، فيما ترجع تفريعاتها وتفسيراتها الى كبار متكلمي الشيعة ومحديثهم وفقهائهم من تلامذة الأئمة، منذ القرن الأول الهجري، وليس بينهم فارسي واحد.
- إن التشيع نشأ وانتشر في الجزيرة العربية، ثم دخل بلاد فارس عبر الفتوحات الإسلامية التي انطلقت من العراق. أما الاجتماع الديني الشيعي ونظامه فقد تأسس في المدينة المنورة على يد الإمام علي، بينما تأسس هذا النظام بعد غيبة الإمام المهدي، في بغداد بالعراق.
- إن الطبقات الأولى والثانية والثالثة من الشيعة كانوا عرباً في الأعم الأغلب، ولم يكن بين الطبقة الأولى فارسي سوى واحد هو سلمان الفارسي.
- حين انتشر التشيع في إيران، وأصبح المذهب الأول في البلاد، فإن الفرس لم يكونوا يوماً كل الشيعة، بل هم جزء يشكّل أقل من ربع الشيعة.
وكباقي الفرق والمذاهب الإسلامية؛ فقد ساهم العلماء الشيعة من الفرس، وتحديداً خلال القرن الرابع الهجري وبعده، أي بعد تأسيس الفرس للمذاهب السنية بأكثر من قرن، في تدوين كتب الحديث والعقيدة والفقه، ومنهم المحدثين الثلاث الذين ألفوا الكتب الحديثية الأربعة عند الشيعة، والتي تعادل الصحاح الستة عن أهل السنة (11)، وهم الشيخ الكليني والشيخ الصدوق والشيخ أبو جعفر الطوسي، وكذا غيرهم، ونذكر هنا أهم الشخصيات منهم:
- الحسن النوبختي (ت 310 ه)، مؤرخ وعالم كلام، من قم في وسط إيران
- الحسين بن الروح النوبختي (ت 326 هـ)، محدث وفقيه، السفير الثالث للإمام المهدي في مرحلة الغيبة الصغرى، من قم
- علي بن إبراهيم القمي (ت 329 ه)، مفسر، من قم
- محمد بن يعقوب الكليني الرازي (ت 329هـ)، أحد كبار المحدثين ومؤلف أحد كتب الحديث الشيعية الأربعة، من الري في وسط إيران
- علي بن بابويه القمي (ت 329 ه)، عالم كلام ومحدث وفقيه، من قم
- محمد بن علي الصدوق (ت 381 ه)، زعيم الشيعة في وقته، مؤلف أحد كتب الحديث الشيعية الأربعة، من قم
- أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، زعيم الشيعة في وقته، مؤسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مؤلف اثنين من كتب الحديث الشيعية الأربعة، من طوس في خراسان
- محمد بن أحمد بن شاذان القمي (ت 460 ه)، محدث ورجالي، من قم
- سالار حمزة الديلمي (ت 463 ه)، محدث وفقيه، من الديلم في غرب إيران
- الحسن بن محمد الطوسي (ت 515 ه)، زعيم الشيعة في وقته، من طوس في خراسان
- الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه)، مفسر ومحدث، من طبرستان في شمال إيران
- الحسن بن الفضل الطبرسي (ت 560 ه)، محدث وفقيه، من طبرستان
- قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 573ه)، متكلم وفيلسوف وفقيه، من راوند في وسط إيران
- محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (ت 588 ه)، محدث ورجالي، من مازندران في شمال إيران.
ويلاحظ هنا أن العلماء الشيعة الفرس بات له دور علمي في وقت متأخر، أي خلال القرن الرابع الهجري، وليس في عصر التأسيس الذي شهد ظهور الفرق المذاهب، وتحديداً القرون الأول الى الثالث، لأن هذا العصر كان عصر الأئمة الإثني عشر المؤسسين، ولم يكن للعلماء الشيعة، عرباً وفرساً، دوراً تأسيسياً، وبعد الغيبة الكبرى، أي بعد العام 326 ه، بدأ دور المحدثين والفقهاء والمفسرين وعلماء الكلام الشيعة بالظهور، وهو دور التفريع والتفسير، وليس التأسيس للمذهب الشيعي، على العكس من الفرق والمذاهب السنية، التي تأسست في وقت مبكر على يد العلماء العرب والفرس. ولذلك؛ يمكن القول إنّ علماء الفرس هم الذين سنّنوا أغلب العرب، وأن علماء العرب هم الذين شيّعوا أغلب الفرس.
أما تشيّع شعوب بلاد فارس، كالفرس واللر والآذريين والكرد والتركمان والأوزبك والطاجيك والبلوش والبشتون؛ فإنه جرى على مراحل طويلة، استمرت ما يقرب ألف سنة، وعلى النحو التالي:
- القسم الأول تشيّع خلال القرن الأول الهجرية عن طريق الصحابة والتابعين الشيعة الذين رافقوا عمليات الفتح أيام الخلفاء الراشدين، كسلمان الفارسي، وهم الشيعة الأوائل الذين تركزوا في شرق العراق، وأغلبهم من اللر والفرس.
- المتشيعون خلال القرون الأول الى الثالث الهجرية، نتيجة معايشتهم العلويين والشيعة المهجرين والمهاجرين الى بلاد فارس، من الذين نالهم الاضطهاد على يد الدولتين الأموية والعباسية، ومنهم خمسون ألف علوي وشيعي، هجّرهم زياد بن أبيه من الكوفة إلى طوس وسبزوار (خراسان) والري (جنوب طهران) وطبرستان (مازندران)، فكان لهؤلاء أكبر الأثر في نشر التشيع وفكره في البلاد.
- الذين تشيعوا خلال القرنين الأول والثاني عن طريق عملية التبليغ المستدام التي قام بها أهل الكوفة الأشعريين الذي هاجروا الى إيران وأسسوا مدينة قم، فكانت قم وأغلب المناطق المحيطة بها هم من الشيعة.
- من تشيع على يد العرب المهاجرين الى منطقة خوزستان الإيرانية، وخاصة مدينة الأهواز، وهي منطقة يسكنها اللر غالباً، وذلك خلال القرون الأولى الى الثالث الهجرية، ولذلك؛ كانت أغلب مناطق غرب إيران، بقومياتها العربية واللرية والفارسية هم من الشيعة.
- الذين تشيعوا خلال القرن الثالث الهجري نتيجة قيام العلويين (ذرية أئمة آل البيت) المهاجرين والمهجرين، بتأسيس أول دول إسلامية شيعية في التاريخ، وكان أولها دولة العلويين الحسنيين في طبرستان (شمال إيران) في العام 250 ه، وهي أول دولة إسلامية شيعية في التاريخ.
- تشيع خلال عصر الدولة البويهية الشيعية في القرنين الرابع والخامس، حيث تطور الواقع الشيعي في إيران حينها تطوراً نوعياً، عبر تعاون الحكام البويهيين مع علماء الشيعة في نشر التشيع في مناطق وسط وغرب إيران، حتى بات أكثر من نصف سكان بلاد فارس من الشيعة حتى القرن التاسع الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي).
وقد كانت أغلب الكتل البشرية العربية التي هاجرت أو هُجّرت قسراً الى إيران، وخاصة الى الأهواز والري وطبرستان وسبزوار وخراسان، كانت شيعية، وقد ذابت هذه الكتل، لغوياً وقومياً، في القوميات الإيرانية التي كانت في تلك المناطق، باستثناء خوزستان التي بقي أغلب مهاجروها العرب الشيعة، عرباً، نتيجة محاذاة هذه المنطقة الى العراق، واستحال العرب المهاجرون الى بلاد فارس، فرساً أو كرداً أو لراً أو آذريين، لكن بعضهم ظل يحمل الألقاب والأنساب العربية، وخاصة العلويين السادة المنتشرون في كل منطقة من مناطق إيران.
واستقر توزيع أتباع المذاهب الإسلامية على خارطة بلاد فارس خلال القرن التاسع الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي)، أي قبل تأسيس الدول الصفوية، يميل بوضوح لمصلحة الشيعة، فقد كانوا الأكثرية في أقاليم خراسان وطبرستان ولرستان وخوزستان وشيراز وقم والري والديلم، في حين كان أتباع المذهب الحنفي يتركزون في أردبيل، ويتواجدون في خراسان والري، والشافعية يتركزون في كرمان ويتواجدون في خراسان، كما يتواجد الشافعية في خراسان والأهواز، والحنابلة في رامهرمز والري، والمالكية في الأهواز(12).
أما القسم الأخير من شعوب بلاد فارس؛ فقد تشيع خلال حكم الدولة الصفوية، خلال القرون العاشر الى الثاني عشر الهجري (الخامس عشر الى السابع عشر الهجري)، وعلى يد الدعاة الشيعة العرب(13)، إذ استعانت الأسرة الصفوية بفقهاء ومبلغين عرب قدموا من العراق ولبنان والبحرين، وأعلنت المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة. والأسرة الصفوية هي أسرة عراقية عربية علوية تعود بنسبها الى الإمام موسى الكاظم، وكان أجدادها يقيمون في شمال شرق العراق، ثم هاجر بعضهم الى إقليم أردبيل في إيران، وأصبحوا يتحدثون اللغة الآذرية التركية، كعيرهم من المهاجرين العرب اللذين ذابوا لغوياً في القوميات الإيرانية.
ونعيد القول؛ بأن ذكر هذه الحقائق بلغة البحث التاريخي العلمي، وبعيداً عن تسييس الموضوع والحرب الدعائية ولغة المهاترات والجدل الساذج الذين تصر عليه ماكنة التشويه الطائفية الشوفينية، لا يعني بأي شكل من الأشكال ترجيح قومية مسلمة على أخرى إطلاقاً، لأن الانتساب للعرب أو إلى أية قومية أخرى ليس ميزةً في معيار الإسلام، ولا مدعاة للفخر أو التمييز العرقي أو علو الشأن والقيمة، كما ذكرنا سابقاً.
معيار التفاضل بين القوميات
خلق الله الناس من طينة واحدة؛ فهم عائلة واحدة بالأصل، تكونت من الطينة الإنسانية الأصلية نفسها، وتتكلم بلغة واحدة، ولديها العادات والتقاليد نفسها، والصفات الجينية والوراثية نفسها: ((كلكم من آدم، وآدم من تراب))(14)، ثم تحولت العائلة الى عوائل، وأصبحت كل عائلة عشيرة، ثم قبيلة، ثم قوم، ثم عرق، وهو ما يُعبّر عنه إنثروبولوجيّاً بالسلالات البشرية. وبات لكل قوم أو قومية لغة مختلفة، وصفات جينية وإنثروبولوجية مختلفة، تميزه عن غيره من الأقوام.
هذه اللغات المختلفة والصفات التمييزية ليست معايير للتفاضل بين الأعراق والقوميات إطلاقاً، لأن الأقوام وجود تكويني، صنعه الله، وليس للإنسان أي دور في صناعة قوميته وصفاتها، أو انتمائه إليها. أما اللغة فهي صناعة بشرية، ولا قيمة لها سوى أنها أداة مشتركة للتواصل بين البشر. وبالتالي؛ لا فضل للمتكلم بلغة معينة على غيره ممن يتكلم بلغة أخرى، ولا فضل لمن ينتمي لقومية معينة لها صفات جينية تكوينية وتنشئة إنسانية مغايرة، على غيره ممن ينتمي لقومية أخرى. صحيح؛ إن الله أكرم اللغة العربية بأن جعلها لغة خاتم الأنبياء ولغة خاتم الكتب السماوية، لكن هذا التكريم هو للغة حصراً، وليس لمن يتكلم بها أو يعيش في بيئتها الاجتماعية والقومية، وإلّا كان أبو لهب (عم النبي) وكفار قريش ومنافقي المدينة وأهل الردة، أفضل من بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وسائر المؤمنين من القوميات غير العربية، وكما قال رسول الله عن العصبية القومية الجاهلية: ((ما بالُ دعوى الجاهلية؟… دَعُوها فإِنّها مُنْتِنَة))(15)، أي أنها نتن وعفن.
وكذلك كلام الله: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم))(16)، وكذا كلام نبيه الخاتم: ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى))(17)، ليس حجّةٌ على العرب فقط، بل هو حجة على جميع القوميات والأعراق، سامية كانت أو آرية، جرمانية أو فارسية، قوقازية أو سلافية، ومن لا يترك هذه العصبية الجاهلية؛ فليس من أمة محمد، كما قال ذلك بلسانه:((ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية))(18).
ولا يقتصر نهي القرآن والرسول وأئمة آل البيت، على الأعراق والقوميات فقط، بل ينطبق على القبائل والعشائر والأسر أيضاً، لأن كثيراً منها يعيش حالة العصبية الجاهلية؛ إذ يتناصر بعض أبنائها على الباطل، ويتعاونون على العدوان، حتى في زماننا هذا، الذي شاعت فيه وسائل التوعية؛ فحين سئل الرسول عن العصبية قال: ((أن تعين قومك على الظلم))(19). هذه العصبية الجاهلية التي نهى عنها القرآن ورسول الله بشدة، أعادها آل أمية الى الحياة؛ فكانوا يحتقرون كل القوميات الأخرى التي فتح العرب بلدانها، سواء القوميات العراقية أو الإيرانية أو الأمازيغية أو التركية أو المصرية، وحوّلوا العرب من دعاة دينيين فاتحين، الى مقاتلين من أجل استعباد الشعوب الأخرى وازدرائها ومصادرة مقدراتها، وهو ما كان يرفضه أئمة آل البيت بشدة، بل استعان آل أمية ببعض الوضّاعين والرواة، لوضع أحاديث مكذوبة عن الرسول، لشرعنة ايديولوجيتهم القومية واستعبادهم الشعوب الأُخرى.
وبعد مضي قرون على ضعف العصبية القومية، بفعل الاندماج القومي الذي حصل في العصر العباسي، ثم في الدول الفاطمية والبويهية والأيوبية والسلجوقية والمملوكية والبويهية؛ عادت العصبية القومية بثوب جديد، متأثرة بالأفكار الأوربية القومية، وخاصة النازية والشوفينية التي دوّنها الفلاسفة الألمان، أمثال “يوهان فيخته” و”فان دن بروك” و”مارتن هايدغر” و”أوسفالد شبنغلر”، وتحولت من عصبية قومية جاهلية الى ايديولوجية وعقيدة جديدة أكثر خطورة من العصبية التي طبّقها آل أمية، إذ أن الايديولوجية القومية الجديدة تتعارض مع بديهيات التعاليم الإسلامية والفطرة الإنسانية، وكان أبطالها مفكرون وساسة علمانيون متغربون، أمثال الشاه رضا خان وأحمد كسروي وحكمي زاده في إيران، ومصطفى أتاتورك وضياء كوك الب ويوسف آقجورا في تركيا، وساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر في البلدان العربية.
وقد بذل هؤلاء المفكرون والساسة محاولات بائسة فاشلة للتنظير لقاعدة عدم تعارض ايديولوجياتهم القومية مع الإسلام، وسبب هذا الفشل هو أن الإسلام حسم هذا الموضوع حسماً نهائياً بعشرات النصوص والأدلة الدينية والإنسانية التي تؤكد عدم وجود أية أفضلية بين الأعراق والقوميات، وبأن نصرة المسلم لقومه على الباطل هو تعصب جاهلي يتعارض مع تعاليم الإسلام، وأن معيار الانحياز والوحدة والنصرة هو الدين وليس اللغة والقومية.
بيد أن الإسلام لم يتنكر لفطرة الإنسان في الاعتزاز بحسبه ونسبه، وفي محبة قومه وعشيرته، كما يقول الإمام السجاد: ((ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)) (20)، أي أن هذا الاعتزاز والحب ينبغي أن لا يتحول الى عقيدة ودين وايديولوجيا، تعطي الحق للإنسان بأن يعد نفسه صاحب العرق الأفضل والقومية الأسمى والعشيرة الأهم، وأن يبني كياناً ايديولوجياً معياره الوحدة القومية وليس وحدة الدين. وبالتالي؛ فإن الإسلام وضع معياراً واضحاً للنصرة والانحياز، هو معيار الدين فقط، وليس الأحساب والأنساب.
أتباع المذاهب من الخلاف الفكري إلى الصراع والاقتتال
في الفترة التي أعقبت رحيل أئمة المذاهب والفقهاء الأوائل، وتحديداً خلال القرن الرابع الهجري، اتسع الخلاف العلمي والفكري بشكل مطرد، وتحول إلى عصبيات وصراعات طائفية، شبيهة بالحرب الشاملة على مختلف المستويات، بما فيها الفتاوى والشعر والسياسة والسلاح، ولم تكن هذه الصراعات الطائفية مقتصرة على الشيعة والسنة، بل كانت أكثر قوة وفتكاً بين أتباع الفرق والمذاهب السنية نفسها.
ونشير هنا إلى نماذج من هذه الصراعات عبر الشعر، والذي كان يومئذ، بمثابة الإعلام العام والصحافة اليومية المتجولة، لما له من دور خاص في عملية الإثارة والتحريك وإلهاب المشاعر.
يقول شاعر حنفي:
((غدا مذهب النعمان خير المذاهب كذا القمر الوضاح خير الكواكب))
فيرد عليه شاعر شافعي:
((مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء))
أما الشاعر المالكي فيقول:
((إذا ذكروا كتب العلوم فحي هل بكتب (الموطأ) من تصانيف مالك
فشد به كف الصيانة تهتدي فمن حاد عنه هالك في الهوالك))(21)
ويقول الشاعر الشيعي:
((إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهباً ينجيك يوم البعث من لهب النار
فدع عنك قول الشافعي ومالك وأحمد والمروي عن كعب أحبار
ووال أناساً نقلهم وحديثهم روى جدنا عن جبرائيل عن الباري))(22)
ولا شك في أن اللهجة التي يتراشق بها هؤلاء الشعراء؛ إنما تعبر عن عمق الصراع بين الاتجاهات التي يمثلونها، ففي مجموع الأبيات تشكيك حاد من كل مذهب بالمذاهب الأخرى، وهو التشكيك الذي يصل إلى حد الإخراج عن ملة الإسلام. وليس عجيباً حينها أن يحرِّم بعض علماء الشافعية زواج الشافعي من حنفية، إلا بالقياس إلى الكتابية، في حين حرّم الأحناف الصلاة خلف الشافعية، لأن الإمام الشافعي أباح للرجل الزواج من ابنته التي جاء بها من الزنا(23).
أما حوادث العنف والاقتتال والمجازر التي كانت إفرازاً طبيعياً للتعصب الطائفي والإقصاء المذهبي، فكانت تتصاعد بشكلٍ مطرد وحاد، فيذكر ابن الأثير في حوادث سنة 324 هـ أن الحنابلة كانوا يثيرون الفتن في بغداد ويرهجونها، واستظهروا على الشافعية بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب، أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم، حتى يكاد يموت(24).
كما يقول ابن كثير في حوادث سنة 354 هـ: «في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم (عزاء الحسين)…ثم تسلطت أهل السنة على الروافض، فكسبوا مسجد براثا الذي هو عش الرافضة، وقتلوا بعض من كانوا فيه»(25).
وفي سنة 350 هـ، استعان السنّة بالجنود الأتراك والزنوج، وكانوا يسألون المارة عن خالهم، فإن لم يقولوا معاوية ضربوهم. وكان أهل السنة في مصر إذا أرادوا قتال الشيعة يصيحون في الطرقات: «معاوية خال علي»(26).
كما وقعت فتنة عظيمة سنة 362 هـ، حيث عمد بعض أهل السنة إلى الوقوف ضد ما يقوم به الشيعة من الاحتفال بعيد الغدير والعزاء يوم عاشوراء، وقالوا: «نقابل أصحاب علي»، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير(27).
وبعد الاقتتال العنيف بين الحنابلة والشافعية في بغداد سنة 469 هـ، حاول الوزير نظام الملك التوصل إلى حل للمشكلة، فجمع بين ابن القشيري (شيخ الشافعية)، وأصحابه وبين أبي جعفر الشريف (شيخ الحنابلة) في مجلسه، وطلب منهما أن يتصالحا، فقال له القشيري: «أي صلح يكون بيننا؟ إنما الصلح يكون بين مختصمين على ولاية، أو دين، أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم: فيزعمون أنّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأي صلح يكون بيننا»(28).
وفي سنة (555 هـ) أدى التعصب المذهبي بين الحنفية من جهة والشافعية والشيعة من جهة أخرى، في نيسابور، إلى قتل خلق عظيم، ومنهم علماء وفقهاء، وحرق الأسواق والمدارس والبيوت. ثم وقعت فتنة أخرى مشابهة في نيسابور بين الشافعية والحنابلة، اضطرت فيها السلطة إلى التدخل بالقوة وفض النزاع. وحدث الأمر ذاته في أصفهان وبغداد(29). وكانت نهاية سفك الدماء وهتك الأستار اشتداد الخطب – كما يقول ابن الأثير – أن خرّب الشافعيون كل ما بقي للأحناف في نيسابور(30). كما كانت أصفهان مسرحاً دائماً للصراع بين الشافعية والحنفية قبل مجيء الدولة الصفوية. ويذكر المؤرخون أن الحنابلة قتلوا بالسم الفقيه أبا منصور الشافعي سنة 567 هـ في بغداد.
إلّا أن مشكلة الشيعة في الصراعات الطائفية كانت مركّبة، فأهل السنة وفقهاؤهم ومحدثوهم كانوا في مأمن من السلطة، إلّا ماندر، وكانت صراعاتهم مجتمعية غالباً، بينما كان الشيعة يعانون من الصراعات المجتمعية نفسها، ولكن يضاف إليها حملات الاجتثاث من السلاطين والولاة والحكام، فقد قتلت السلطة الأُموية والعباسية أغلب أئمة أهل البيت، كما قتلت أعداداً هائلة من الشيعة في مجازر تاريخية معروفة، أدت الى انقراضهم في كثير من البلدان، وأبرزها:
- مجازر المعز بن باديس الصنهاجي في بلدان شمال أفريقيا، بدءاً من سنة 410 ه، بعد أن كانت الدولة الشيعية الإدريسية ثم الفاطمية تحكمان أغلب شمال أفريقيا، حتى ذكر أن حجم مجازر بن باديس تسبب في انقراض الشيعة هناك، ولذلك كان يسمى ناصر السنة وقاهر الشيعة(31).
- مجازر السلاجقة في بغداد بقيادة طغرل بيك، بدءاً من سنة 450 هـ، بعد أن كانت بغداد مقراً تأسيسياً للنظام الاجتماعي الشيعي، فذبحوا الشيعة وأحرقوا دورهم ومكتباتهم، وفيها هاجر الشيخ الطوسي (زعيم الشيعة) إلى النجف الأشرف، وأسس حوزتها العلمية.
- مجازر نور الدين زنكي ضد شيعة بلاد الشام وشمال العراق، بدءاً من العام 541 ه، بعد أن كانت الدولة الحمدانية الشيعية، بعاصمتيها الموصل العراقية وحلب السورية، تحكم المنطقة الممتدة من شمال العراق وحتى سوريا وفلسطين، وأعقبتها الدولة الفاطمية في حكم بلاد الشام إضافة الى مصر.
- مجازر صلاح الدين الأيوبي ضد شيعة مصر وبلاد الشام، بدءاً من العام 567 ه. ولعل مجازر صلاح الدين وعمليات الاجتثاث التي قام بها ضد الشيعة، هي الأكبر في التاريخ الإسلامي، والأكثر تأثيراً في تغيير حقائق الجغرافية السكانية المذهبية، إذ لم يقضى الأيوبي على الدولة الفاطمية أو يجتث شيعة مصر عن آخرهم، وأغلب شيعة بلاد الشام، بل قضى على المذهب الشيعي في مصر والشام بالكامل.
وهكذا نلاحظ أن الخارطة الاجتماعية ــ السياسية للمذاهب الإسلامية في البلدان العربية، كانت خلال القرن الرابع الهجري تميل لمصلحة الشيعة بالكامل، حيث كانوا يشكلون المجتمع الغالب في العراق وبلاد الشام ومصر وجميع بلاد المغرب العربي، لكن هذه المعادلة تخلخلت خلال القرن الخامس الهجري، ثم تغير كل شيء في القرن السادس الهجري، بفعل ما قام به أربعة شخصيات فقط: المعز بن باديس وطغرل بك ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي.
وينبغي هنا الالتفات الى أن هذه المجازر لا تدخل في إطار الصراعات السياسية السلطوية بين الأسر الحاكمة والسلاطين السنة والشيعة، فهذه الصراعات حدثت أيضاً بين السلاطين الشيعة أنفسهم، وكذلك بين الحكام السنة أنفسهم، بل داخل الأسرة الحاكمة الواحدة، بل تدخل هذه المجازر في إطار الاجتثاث المجتمعي الطائفي الذي كان يقوم بها الحكام المنتصرون ضد عموم الشيعة، حتى ممن لا علاقة لهم بالسلطة والسياسة، والعمل على اجتثاث المذهب الشيعي عقدياً وإنسانياً، وليس مجرد القضاء على الحاكم الشيعي أو الدولة الشيعية، وهو ما لم يكن يحصل عند قضاء حاكم سني على حاكم سني آخر، إذ لا يتعرض الحاكم السني المنتصر الى الناس العاديين السنة ولا الى المذهب الرسمي السني للدولة.
والملاحظة الأخرى تتعلق بالجانب القومي الإنثروبولوجي، فملايين الشيعة الذين تعرضوا للاجتثاث والانقراض في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام، كانوا من العرب الأقحاح، أما الذين استعانت بهم سلطة الخلافة على اجتثاث الشيعة والتشيع، فهم من غير العرب، فابن باديس هو من الأمازيغ (البربر)، وطغرل بيك سلجوقي تركي، ونور الدين زنكي سلجوقي تركي، وصلاح الدين الأيوبي من أكراد إيران. والمفارقة أن هؤلاء الأربعة يعدون شخصيات مقدسة عند بعض السنة الطائفيين، ليس لإنجازاتهم الإنسانية والإسلامية والعلمية، بل لأنهم اجتثوا الأكثرية السكانية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن وشمال العراق. لكنهم فشلوا في اجتثاث الشيعة في إيران، بسبب الحضور القوي للعلويين والعرب الشيعة في إيران، وتمسك الإيرانيين باحتضان ودعم هؤلاء المهاجرين المضطهدين، وهو الحال نفسه في سط العراق وجنوبه، إذ صمد التشيع بفضل جذوره الإنسانية والاجتماعية الضاربة بجذورها.
ظاهرة التكفير
برزت قضية التكفير في الواقع الإسلامي في وقت مبكر، وبلغت مستوى خطيراً خلال حكم الدولة العباسية، وذلك نتيجة للمواقف المتطرفة التي كانت تتخذها بعض التيارات الفكرية والسياسية. وإذا أحسنّا الظن بهذه التيارات واستبعدنا تغليبها مصالحها الخاصة وتوجهاتها السياسية، فسنقول بأنها ظلت جاهدة على فهمها للنص المقدس وأحادية وضيقة في نظرتها للواقع وللمصلحة الإسلامية، فضلاً عن القلق الفكري والعقيدي الذي تعاني منه.
وظل الخلاف العقدي المذهبي هو المنطلق الأساس لظاهرة التكفير، مع عدم إغفال العاملين الشخصي والسياسي الذي ظل يغذي ظاهرة التكفير، وفقاً لمصالحة، من أجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية. ولم يقتصر لتكفير على العلاقة بين السنة والشيعة فقط، بل كثيراً ما كان يحدث بين مذاهب المدرسة الإسلامية الواحدة، فقد كان مؤسسو الفرق والمذاهب السنية هم الذين بدءوا ظاهرة التكفير وإخراج بعضهم من الإسلام، ومثال ذلك ما كان الاتهامات القاسية التي كان يتبادلها الإمام مالك بن انس والإمام أبو حنيفة النعمان؛ إذ قال مالك في أبي حنيفة: «الداء العضال: الهلاك في الدين. وأبو حنيفة من الداء العضال» (32)، و«إن أبا حنيفة كادَ الدين، ومن كادَ الدين فليس له دين))(33)، وقوله: «ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة»(34). وفي المقابل قال الفقيه محمد ابن أبي ذئب (ت 159 ه) إن مالك بن أنس «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه»، لأنه لم يأخذ بحديث ((البيعان بالخيار))(35).
كما يذكر الشيخ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عشرات الطعون في أبي حنيفة نقلاً عن أبيه وغيره من الفقهاء المعاصرين لأبي حنيفة، كمالك والأوزاعي وسفيان الثوري؛ كقول الفقيه الأوزاعي: «ما ولد في الإسلام مولد أشر من أبي حنيفة وأبي مسلم، وما أحب أنه وقع في نفسي أني خير من أحد منهما وأن لي الدنيا وما فيها»(36)، وقول الفقيه سفيان الثوري: «استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين»، وبرواية أخرى: «استتيب أبو حنيفة من كلام الزنادقة مرارا» (37).
ويمكن الوقوف على مظاهر اتجاهات التكفير في تاريخ المسلمين، من خلال الأحداث الطائفية التاريخية التي شهدتها بغداد ودمشق خلال القرون الخامس إلى الثامن للهجرة. كما ظلّت حرب الفتاوى التكفيرية تهيئ الأرضية (الشرعية!) للاقتتال، فمن الفتاوى المبكرة في هذا الصدد، فتوى الشيخ ابن حاتم الحنبلي، التي يقول فيها: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم»(38). وقابلت باقي المذاهب السنية الحنابلة بفتاوى معاكسة بينما رأى الشيخ أبو حامد الطوسي (ت 567 هـ) أن يضع الجزية على الحنابلة(39). وتمدد التكفير الى الحنفية وأيضاً أيضاً، حتى قال الشيخ محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق (ت سنة 506 هـ): «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية»(40).
واستمرت حركة التكفير والاتهام بالخروج عن الإسلام في المراحل التاريخية اللاحقة، وخاصة مع ظهور المدرسة السلفية التكفيرية التيمية، التي أسسها الشيخ أحمد بن تيمية (ت 728 هـ)، والتي أضافت ذرائع أكثر تعقيداً، استسهلت عبرها تكفير المسلمين. ، فحين اجتمعت المذاهب في دمشق على الحنابلة تستنكر آراء الشيخ احمد ابن تيمية الحنبلي التكفيرية؛ أفتى علماء أهل السنة بارتداد الحنابلة وبكفر ابن تيمية، ونادى المنادي: «من كان على دين ابن تيمية حل ماله ودمه»(41).
ويتضح من خلال ذلك كله، أن الصراع الطائفي العنيف كان سبباً رئيساً في سيطرة المغول على البلاد الإسلامية، ومن المصاديق المأساوية لهذه الحقيقة قضية احتلالهم أصفهان، بالشكل الذي يذكره ابن أبي الحديد، إذ يقول بأن القتال بين الحنفية والشافعية وصل حداً في أصفهان، أن خرجت جماعة من الشافعية إلى المغول، الذين احتلوا المدن المجاورة وعجزوا عن احتلال أصفهان سبع سنوات كاملة، وقالت لهم: «اقصدوا البلد حتى نسلّمه إليكم» على أن يعينوا الشافعية على الحنفية، فنقل ذلك إلى ملك المغول “قاآن بن جنكيزخان”، فحاصر أصفهان، في وقت كان الشافعية والحنفية يواصلون القتال في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتح الشافعية أبواب المدينة، على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية، إلا أن التتار بدأوا بقتل الشافعية وانتهوا بالحنفية، ثم سائر المسلمين(42).
وقد تسبب هذا الصراع الدموي في تشكيل تيار من المسلمين يتكتمون على حقيقة انتمائهم المذهبي، إما خوفاً وإما لمصلحة أخرى. وهو نوع تقليدي من أنواع التقية، التي لم تقتصر على الشيعة، بل كان أتباع المذاهب السنيّة يستخدمونها أيضاً. ويعبر الزمخشري عن هذا الاتجاه بقوله:
((وإذا سألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه كتمانه لي أسلم))(43).
وإذا كان الخلاف بين المذاهب السنية نفسها قد أصبح بهذا الحجم؛ فكيف به – إذن – بين السنة والشيعة، فلا بد أن يتخذ هذا الخلاف طابعاً آخر، يتمثل في التحزب الشامل المتقابل، والذي يشكل الحكام أحد أهم مفرداته؛ فقد قامت السلطات المتتالية، الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والعثمانية وغيرها، بقتل أئمة الشيعة وعلمائهم، وصولاً الى الناس العاديين، وكانت تهمة التشيع تعني سياسياً الخروج على السلطة، كما تعني عقائدياً البدعة والارتداد والكفر، وكان كلا المعنيين (التكفير والمعارضة) يكمل أحدهما الآخر، فالذين أفتوا بكفر الشيعة واتهموهم بالانحراف، إنما فعلوا ذلك بدوافع مختلفة، لعل من أبرزها التزلف والتقرب لخلفاء بني أمية وبني العباس، وتتمثل الدوافع الأخرى في الخوف من ميل الناس نحو التشيع، أو الوقوع في اللبس نتيجة اشتراك بعض الفرق والمذاهب مع الإمامية الاثني عشرية في تسمية «الشيعة»، وكذلك حمل الغلاة عليها، فإذا وجدوا – مثلاً – أقوالاً منكرة أو كافرة عند أحد هذه المذاهب، نسبوها إلى التشيع عامة أو إلى الإمامية خاصة. والدافع أو العامل الأخير هو اتباع أو تقليد علماء المذاهب السابقين من الذين اتهموا الشيعة(44).
وكان الشيخ برهان الدين المالكي والشيخ عباد بن جماعة الشافعي بارتداد الشيخ محمد بن مكي العاملي، كبير علماء الشيعة في بلاد الشام وزعيم الشيعة في وقته، والمعروف بالشهيد الأول، حيث قتل بالسيف، ثم صلب ورجم وأحرقت جثته بالنار في سنة 786هـ في دمشق(45).
واستدعت المصالح السياسية الطائفية أن تنشط حركة التكفير والرمي بالارتداد خلال احتلال الدولة العثمانية للبلدان العربية والإسلامية، فقد أدت فتوى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية نوح حكيم الحنفي، إلى مقتل (40 ـــ 70) ألف شيعي في منطقة الأناضول التركية، و(44) ألفاً في منطقة جبل عامل اللبنانية، و(40) ألفاً في مدينة حلب السورية وضواحيها على يد السلطان سليم الأول (ت 925 هـ)، الذي أمر بقتل الشيعة أينما وجدوا في البلاد العثمانية، حتى ذكر أنه لم يبق شيعي في حلب، حيث قتل رجالهم وسبيت نساؤهم وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون من ديارهم. وتتضمن فتوى الشيخ نوح التي ذكرها في كتاب “الفتاوى الحامدية” وجوب مقاتلة الشيعة وكفر من لا يرى ذلك، إذ يقول: «إن هؤلاء (الشيعة) الكفرة البغاة الفجرة، جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم، فهو كافر مثلهم… فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم يتوبوا»، ثم حكم – في نهاية فتواه – باسترقاق نسائهم وذراريهم(46).
وقتل العثمانيون أيضاً، بأمر رستم باشا الوزير، الشيخ زين الدين الجبعي العاملي (أحد كبار علماء الشيعة في بلاد الشام والمعروف بالشهيد الثاني) سنة965 هـ، بعد أن وشى به بعض علماء السنة بأنه يدّعي الاجتهاد ويريد نشر المذهب الجعفري. وفي الوقت نفسه سوغت الفتاوى لوالي عكا العثماني قتل الشيعة في جبل عامل قتلاً جماعياً، وكان بينهم فقهاء وأدباء ومفكرون وشيوخ عشائر. ثم قام المير ملحم بن الأمير حيدر بمهاجمة منطقة جبل عامل بلبنان أيضاً في سنة 1147هـ، فقتل وسلب وخرب ونهب.
وأدت المجازر التي قامت بها الدولة العثمانية في منطقة جبل عامل، إضافة إلى الملاحقات واعتقال واغتصاب ومصادرة الأموال، إلى اضطرار بعض الأسر الشيعية في لبنان بالتظاهر باعتناق الديانة المسيحية، هرباً من القتل والملاحقة، لأن دماء المسيحيين كانت محقونة في الدولة العثمانية، باعتبارهم أهل ذمة، بينما كان دم الشيعي المسلم مهدوراً. كما كانت بعض الأسر الشيعية تخفي أولادها عند الأسر المسيحية لتخليصهم من الموت. ومن هنا نرى فروعاً من العائلات الشيعية المعروفة وبعضها من الأشراف (السادة) تنتمي إلى الطوائف المسيحية.
وفي شرق البلاد الإسلامية استند السلطان عبد المؤمن خان الأوزبكي إلى الفتاوى، للقيام بمجزرة كبرى في خراسان في سنة 997 ه، بعد أن استباح مدنها وقراها، وقتل الآلاف من سكانها، وسبى نساءهم وانتهك حرماتهم، لكونهم من الشيعة.
وقد تم إحياء المنهج التيمي التكفيري والإقصائي، وممارسات السبي والذبح؛ على يد التيميين الجدد، المتمثلين بالوهابية السعودية، وهو المنهج الذي يٌجمع عليه مشايخ الوهابية قاطبة، والذي ظل يؤدي منذ نهايات القرن الثامن عشر الهجري الى ظهور كثير من الحركات التكفيرية الإرهابية التي سفكت دماء المسلمين، وسبت نساءهم ودمرت مساجدهم ومقدساتهم وممتلكاتهم، ونهبت أموالهم.
وإمعان النظر في ظاهرة التكفير؛ يقود إلى الشك في من ابتدعها أو مارسها وروج لها، وفي نواياه، لأن التكفير يعني التنصل عن المبادئ التي جاء بها الرسول محمد، وكذلك عما ثبته أئمة المذاهب أنفسهم، إذ يقول الرسول: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل»(47). وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على حد أدنى للإسلام. وهو ما تحدث عنه الأئمة وأتباعهم أكثر من مرة. يقول الإمام جعفر الصادق(ع): «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان»(48).
ويذكر الشعراني في «طبقاته» ما نقله أحمد السرخسي، عن أبي الحسن الأشعري (شيخ الأشاعرة) قوله عندما حضرته الوفاة: «اشهدوا عليَّ، إنني لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم»(49). ويذكر الشعراني أيضاً إجماع علماء بغداد، بقولهم: «لا يكفّر أحد من المذاهب الإسلامية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فله ما لنا وعليه ما علينا»(50). وقد سئل الشيخ تقي الدين السبكي (سنة 756 هـ) عن حكم التكفير، فأجاب:
«إن كل من خاف الله عز وجل، استعظم القول بالتكفير لمن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»(51).
وبالتالي؛ فإن معالجة ظاهرة التكفير الطائفي تستدعي الكشف عن جذورها وخلفياتها العقدية والفقهية والسياسية، وسيكون في التصدي لها ودحضها؛ درءاً عملياً لمفاسد كبيرة عن المسلمين، وجلباً للمصالح لهم، وإنهاء لكثير من الصراعات المجتمعية والسياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(12) هذه الرؤية تقريبية، وتم فيها الاستفادة من مصادر تاريخية وجغرافية سكانية كثيرة. وكان بعض الجغرافيين والمؤرخين قد اهتموا بموضوع توزيع أتباع المذاهب في البلدان الإسلامية، ومنهم الرحالة الفلسطيني شمس الدين المقدسي في كتاب «أحسن التقاسيم»، خلال القرن الرابع الهجري، لكن أغلب هذه الكتب لم تخل من الانحياز المذهبي، فالمقدسي كان حنفياً، ولذلك؛ ركز على تغليب الحنفية في كل البلدان التي زارها.
(32) العقيلي، الضعفاء، ج 4 ص281
(33) ابن عدي، الكامل، ج 7 ص6
(34) عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة
(35) الإمام أحمد بن حنبل، العلل ج 1 ص 539
(36) عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة (مصدر سابق)
(37) المصدر السابق
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua