تأسيس الإمبراطورية السوفيتية بمحورية روسيا

Last Updated: 2024/04/13By

تأسيس الإمبراطورية السوفيتية بمحورية روسيا

د. علي المؤمن

رغم أن الجزء الأعظم من روسيا يقع في آسيا، إلا أنها ثقافياً تعد دولة أوربية، وكانت تعد في مطلع القرن العشرين أكبر الدول الأوربية مساحة وأكثرها سكاناً وأغناها من ناحية الموارد الطبيعية، ولكنها ظلت تحت حكم أسرة “رومانوف” القيصرية أكثر دول أوربا تخلفاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكان الوضع الداخلي مهزوزاً ويهدد بالانفجار، وهو ما حصل أكثر من مرة، كثورة 1905 في أعقاب هزيمة روسيا في حربها مع اليابان. إلا أن الشروط التي حددها “كارل ماركس” لاندلاع ثورة العمال لم تكن تتوافر فيها؛ المجتمع الروسي كان فلاحياً في أغلبه ولم تكن الصناعة متطورة قياساً بدول أوربا الأخرى؛ ولم تبلغ الرأسمالية المستوى الذي تكون فيه طبقة العمال بالكم والوضع المطلوب لإعلان الثورة. ومن هنا لم يكن ماركس وتلاميذه يتوقعون قيام ثورة شيوعية في روسيا، بل كانوا يجدون في ألمانيا وبريطانيا البيئة الطبيعية لاندلاع ثورة العمال. ولكن تدهور الأوضاع والاستياء العام في روسيا والانتفاضات المستمرة، جراء الحرب وسياسة الحكومة، دفعت البلاشفة (جناح الأكثرية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي) بقيادة “فلاديمير لينين”، لاستغلال الأحداث، والعمل على إقامة حكومة ماركسية.

ثورة أكتوبر 1917 الشيوعية

وقد بدأت الأحداث في صيف عام 1916، حين تظاهر عمال «بتروغراد» مرددين أناشيد ثورية وهاتفين بسقوط الحرب، نتيجة الانهيار الاقتصادي والهزائم الكبيرة التي لحقت بالجيش الروسي في الحرب ووقوع ملايين القتلى والجرحى في صفوف الجنود الروس. كما كانت الاضطرابات الفلاحية في الريف تتصاعد، وكانت شعوب آسيا الوسطى تقوم بأعمال مناهضة للاحتلال الروسي. وكانت الطبقات المثقفة والغنية لا تخفي – هي الأخرى – تذمرها من تدهور الأوضاع فشكلوا كتلة برلمانية في «الدوما» تطالب بإنشاء «حكومة ثقة» قادرة على وقف الاضطرابات وقيادة الحرب نحو النصر. ونتيجة لذلك فقد استبدل رئيس الوزراء في روسيا أربع مرات خلال سنتين فقط (1914 – 1916).

وكان هناك شخص مجهول في البلاط الإمبراطوري يدعى “راسبوتين” مقرب من الإمبراطور والإمبراطورة، يمارس دوراً رهيباً داخل القصر، يبدأ بالشعوذة والسحر وينتهي بالتأثير على إدارة دفة الحكم والاستراتيجية الحربية، مما اضطر بعض الأمراء إلى التآمر عليه وقتله لإجبار القيصر على اتخاذ إصلاحات لإنقاذ الوضع، ولكن الأوضاع كانت قد بلغت مرحلة اللا عودة، ولا سيما في شتاء عام 1917، الذي تسبب في فجائع إنسانية كبيرة، نتيجة نقص الوقود والتموين فيما بلغ القتلى الروس في الحرب حتى ذلك التاريخ حوالي ثلاثة ملايين جندي.

كان قادة البلاشفة (جناح الأقلية في الحزب الماركسي) يمارسون نشاطهم الجاد داخل روسيا لقلب نظام الحكم، فيما كان قادة البلاشفة في الخارج ينظمون صفوفهم ويتهيأون للعودة إلى روسيا، وبالفعل عاد “تروتسكي” بعد أن بلغت الثورة أعتاب البلاط الإمبراطوري. وتفجر الوضع في آذار/ مارس 1917، إذ تحولت شوارع العاصمة «بطرسبورغ» إلى ساحة معركة حقيقية. وحاول رئيس البرلمان (الدوما) إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحكم، ولكن دون جدوى، فقد كانت مساعيه تلقى رفضاً من القيصر، حتى كانت الرسالة الأخيرة التي خاطب فيها رئيس الدوما القيصر: «لقد دقت الساعة الأخيرة واقتربت نهاية الوطن ونهاية العائلة المالكة».

وفي أذار/ مارس 1917، أدت أعمال العنف إلى تمرد بعض الحاميات العسكرية ووقوفها إلى جانب الشعب، وتم توزيع السلاح على الشعب، وعلى إثرها أعلن عن الحكومة الإقليمية التي شكلها البرلمان، فيما شكل الماركسيون (المناشفة) ونواب العمال والجنود جمهورية تنفيذية من بطرسبورغ، أطاحت بآل رومانوف وقامت باعتقال الوزراء والأمراء والقادة العسكريين. فيما أجبر “نيكولا الثاني” على توقيع وثيقة التنازل عن العرش وهو في طريقه للهروب خارج البلاد. وبقيت الحكومتان متعايشتين، رغم أن إدارة البلاد كانت في الواقع بيد الحكومة الثورية المؤقتة بقيادة المنشفكي “كرنسكي” الذي أعلن في 15 أيلول/ سبتمبر عن قيام الجمهورية في روسيا، والمدعومة من قبل المجلس الشعبي (سوفيات العمال والفلاحين والجنود). ومما أثار البلاشفة ضد الحكومة المؤقتة هو مواصلتها الحرب، وعدم مبادرتها إلى طرد البرجوازيين من الحكومة، بهدف إقامة دكتاتورية البروليتاريا، الأمر الذي كان البلاشفة يعدونه خيانة لمبادىء الماركسية.

البداية من جمهورية روسيا السوفيتية

بعد عودة “لينين” إلى روسيا في نيسان/ ابريل 1917، دعا إلى القضاء على «ثنائية السلطة» أي سلطة السوفيات (نواب العمال والفلاحين والجنود الذين يؤلفون المجلس الشعبي) وسلطة الحكومة المؤقتة، وهكذا قام المجلس الشعبي الذي يسيطر عليه البلاشفة بتنظيم مليشيا ثورية، وأنشأ محاكم شعبية وعسكرية. ثم أعلن “لينين” عن مبدأ انتقال كامل السلطة إلى السوفيات (المجلس الشعبي) بقوله: «لا دعم للحكومة المؤقتة، كل السلطة للسوفيات» ودعا إلى الانسحاب من الحرب، وهو المطلب الذي راهنت عليه القيادة الألمانية من خلال دعمها “لينين” وإنفاذه إلى روسيا بقطار خاص. وكانت شعارات “لينين” «السلطة للسوفيات، والأرض للفلاحين، والتسليم للشعب والخبز للجياع». تتناغم مع عوطف عامة الشعب، الذي خرج في تموز/ يوليو 1917 إلى الشوارع يقوده الشيوعيون البلاشفة، فوقعت صدامات مسلحة مع السلطة، وعلى إثرها دعا المؤتمر السادس للبلاشفة الذي عقد بصورة سرية برئاسة “لينين” المتخفي إلى الإطاحة بالحكومة المؤقتة، وإعلان الثورة الاشتراكية. وفي 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1917 قامت اللجنة الثورية البولشفية والحرس الأحمر بقيادة “تروتسكي” بتنفيذ انقلاب عسكري ضد الحكومة المؤقتة خلال غياب “كيرنسكي” عن بطرسبورغ، فاستولى الشيوعيون البلاشفة على السلطة، وأعلن لينين عن قيام حكم السوفيات (مجلس الشعب) وعرف هذا الانقلاب بثورة أكتوبر.

وتم حل جميع أجهزة النظام القديم، بما فيها أجهزة الحكومة والبرلمان، وتشكيل مجلس السوفيت الأعلى الذي يتألف من نواب السوفيتات، وأعلن الحزب الشيوعي الروسي (بدلاً من الحزب الاشتراكي البلشفي منذ آذار/ مارس 1918) عن نفسه حزباً واحداً في السلطة وأعقب ذلك تأميم الأراضي ووسائل الإنتاج والمصارف وسكك الحديد والمعامل والمناجم، وأصبح جميع أبناء الشعب عمالاً لدى حكومة الحزب الشيوعي. وفي آذار/ مارس 1918 تم التوقيع على اتفاقية «برست – ليتوفسك» بين روسيا وألمانيا، التي انسحبت روسيا بموجبها من الحرب على ألمانيا. وفي 10 تموز/ يوليو 1918 نشر الدستور الجديد الذي أعلن عن قيام جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، ونقلت العاصمة إلى موسكو، وقامت دكتاتورية (البلوريتاريا)، أي دكتاتورية الطبقة العالمية، التي لا تسمح بوجود طبقة في الدولة سواها.

تحديات أمام الحكم الشيوعي في روسيا

منذ اليوم الأول وجد الحكم الشيوعي نفسه أمام تحديات كبرى، أهمها:

  • الاستمرار في السلطة
  • تصفية بقايا العهد القيصري
  • مواجهة الحرب الأهلية
  • مواجهة تبعات الحرب والسياسة الدولية
  • الوفاء بالوعود التي أعطاها الشيوعيون للشعب أثناء الثورة
  • تحقيق المبادىء الاشتراكية الشيوعية.

ولمواجهة التحدي الأول والثاني والثالث، فقد عمدت السلطة الشيوعية الجديدة إلى سياسة العنف والقمع والتصفية الجسدية، ولا سيما بعد تعرض لينين للاغتيال في 30 آب/ اغسطس 1918. وعلى مستوى التحدي الرابع، كان لمعاهدة الصلح المنفرد مع ألمانيا تبعاتها السلبية على السلطة الشيوعية، فمن جهة سلخت فنلندا وليتوانيا واستونيا ولتونيا وبولنده وأوكرانيا ومنطقة القفقاز عن روسيا، واعتبر ذلك خيانة للوطن، ومن جهة ثانية، دفعت المعاهدة دول الحلفاء لدعم المناشفة وبقايا العهد القيصري ضد الحكام البلاشفة؛ أما التحدي الخامس فقد كانت معالجته أقرب إلى المحال، بالنظر لمثالية الوعود التي أعطاها الشيوعيون للشعب، وطبيعة التركة الاقتصادية التي ورثها الشيوعيون من العهد القديم وعدم أهلية الفكر الشيوعي لتحقيق مثل هذه الوعود، بل لقد حدث العكس، بعد أن تحول الشعب الروسي برمته إلى يد عاملة رخيصة تمتلكها الدولة، فلم يحصل الفلاحون على أية أرض ولم يمتلك العمال أياً من أدوات الإنتاج، بل أصبح كل شيء ملكاً لسلطة الحزب وجهاز الدولة، من خلال شعار «كل خيرات الأرض ملك للدولة»، حتى باتت دكتاتورية البرولتياريا دكتاتورية معادية للبروليتاريا. أما تحقيق الشيوعية لمبادئها النظرية فقد ظل التحدي الحقيقي الذي واجه الزعماء الشيوعيين؛ لأن هذه المبادىء لم تكن سوى (يوتوبيا) يتعارض تطبيقها مع أبسط حقائق الواقع، وهو ما أذعن له لينين ثم ستالين فيما بعد.

وشكل انعقاد مؤتمر «الأممية الثالثة» أو «الكومينترن» في موسكو عام 1919 استفزازاً جديداً للدول الغربية الرأسمالية، وفي المقدمة فرنسا وبريطانيا، اللتين أصبح دعمهما للمنشفيك والمعارضة الروسية مقلقاً؛ الأمر الذي أوصل الحرب الأهلية إلى ذروتها، حتى تقدمت «الجيوش البيضاء»، وهي الجناح العسكري لحزب المنشفيك، في عمق روسيا، وباتت موسكو نفسها معرضة للتهديد، كما دخل البريطانيون والفرنسيون مناطق روسيا، وكان العالم ينتظر سقوط التجربة الجديدة في صيف 1919. وفي المقابل أعلن الشيوعيون التعبئة العامة، وضموا ما يقرب من مليون جندي إلى الحرس الأحمر، الذي قاده “تروتسكي” لمواجهة المعارضة العسكرية المنظمة بقيادة المناشفة، فيما قمع البوليس السري (تشيكا) أي صوت معارض في الداخل.

حينها بدأت الجيوش البيضاء المنشفيكية بالتراجع في عدة جبهات، مما دفع بريطانيا إلى تقليص دعمها للمعارضة الروسية، في تعبير عن عدم جدوى هذه الحرب في إسقاط البلاشفة. وبعد عقد بولندا معاهدة الصلح مع موسكو في عام 1921 انتهت الحرب الأهلية الروسية بانتصار الحزب الشيوعي الحاكم. وفي أعقابها عقدت بريطاينا معاهدة تعاون تجاري مع روسيا، ثم اعترفت ألمانيا بالاتحاد السوفيتي عام 1922، وتتالت الاعترافات به كأمر واقع رغم مرارة هذا الواقع بالنسبة إلى أوربا، وسجل عام 1924 اعتراف بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

وقد حاول الحزب الشيوعي الحاكم تنفيذ سياسة اقتصادية مستنبطة من المبادىء الشيوعية الأصلية، وفرضها بالقوة على الشعب الأمر الذي أدى إلى انهيار اقتصادي، بسبب إحساس العمال والفلاحين أنهم فقدوا كل شيء، حتى ما كانوا يمتلكونه في العهد القيصري، بعد أن أصبحوا ملكاً للدولة، وكذا الأمر بالنسبة لصغار الملاكين والحرفيين والمثقفين، وظهرت بوادر تمرد في المعامل والمزارع ووحدات الجيش. والأهم أن الشلل الاقتصادي، ولا سيما في حقل الإنتاج الصناعي والزراعي أدى في أواخر عام 1921 إلى مجاعة رهيبة، قتلت ما يقرب من خمسة ملايين شخص.

حيال هذا الفشل الذريع في تطبيق المبادىء الشيوعية، وعدم تقبل الشعب لها، أعلن لينين عن بدء مرحلة جديدة من التطبيق الاشتراكي، عدها مرحلة انتقالية، وتخلى فيها عن كثير من الأصول الماركسية، ولا سيما في مجال الاقتصاد، وأطلق على هذه المرحلة اسم (نيب N.E.P) أو «سياسة اقتصادية جديدة»، وهي في الحقيقة لم تكن سياسة اقتصادية بل إذعاناً لاستحالة التطبيق الاشتراكي بصيغة الشيوعية، حتى قال لينين: «إن الأساليب تتبدل بتبدل الظروف، والمبدأ يجب أن لا يحجب الواقع». وبموجب هذا التراجع، فقد امتنعت السلطة الشيوعية عن مصادرة أراضي الفلاحين أو إجبارهم على بيع محاصيلهم للدولة، وأعادت للحرفيين وصغار الملاكين حريتهم في العمل الحر. وبعد استقدام خبراء أجانب من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا لمعالجة الاقتصاد الروسي أصبح شبيهاً ببرامج الأحزاب الاشتراكية الغربية، أي مزيجاً من الشيوعية والليبرالية الاقتصادية. ونتج عن ذلك تحسن ملحوظ في مجمل قطاعات الاقتصاد الروسي.

في أواخر عام 1922 انضمت ثلاث جمهوريات اشتراكية سوفياتية إلى روسيا، لتشكل معاً اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية (الاتحاد السوفيتي)، وهي سيبريا وروسيا البيضاء وأوكرانيا وأعقبه مباشرة انضمام جمهوريات أخرى، مثل تركمنستان وأوزبكستان، تمهيداً لانضمام الجمهوريات الأخرى، التي كانت بالأساس جزءاً من أراضي الإمبراطورية الروسية، سبق احتلالها خلال عدة قرون، ثم صدر دستور الاتحاد السوفيتي في منتصف عام 1923 ليعطي الواقع صفة قانونية.

وبموت “لينين” في العام 1924، تحول الصراع على السلطة بين رفاق “لينين” وتلاميذه إلى معركة مصيرية، لا بد لأحد الأطراف من حسمها على حساب الأطراف الأخرى. وكان “تروتسكي” (قائد الحرس الأحمر) يقود أحد الطرفين، فيما يقود “جوزف ستالين” الأمين العام الجديد للحزب الطرف الثاني، وما لبث أن بادر “ستالين” الى إزاحة “تروتسكي” ورفاقه من مناصبهم، متهماً إياهم بمختلف التهم، تمهيداً لتصفية “تروتسكي” جسدياً.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment