بين حوزة قم وحوزة النجف

Last Updated: 2024/04/13By

بين حوزة قم وحوزة النجف

د. علي المؤمن

ليس من الضروري أن تكون تجربة التنظيم في حوزة قم مفيدةً للنجف، وليس من الضروري أن تكون تجربة حوزة النجف المفتوحة مفيدةً لقم؛ فلكل حوزة ظروفها وبيئتها وتراثها وخبراتها التراكمية. ولكن يرى حكماء الحوزتين أنّ من المفيد جداً أن تتبادل التجربتان خبراتهما في المساحات المشتركة التي تثري البعد العلمي والتبليغي للمذهب؛ بما يليق بالحوزة النجفية الكبرى ذات الألف عام، والحوزة القمية الفتية العائدة بقوة منذ تسعين عاماً.

لقد تألقت حوزة قم العلمية في عهد مرجعية الشيخ الصدوق (ت381 هـ /991 م) بعد أفول حوزة الكوفة في الربع الثاني من القرن الرابع الهجري (القرن التاسع الميلادي)، ثم أفِلت حوزة قم بعد ظهور الحوزة العلمية في بغداد في أواسط القرن الخامس الهجري مع مرجعية الشريف المرتضى ومرجعية الشيخ المفيد، ثم أفلت حوزة بغداد بعد انتقال زعيم الشيعة الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف وتأسيس حوزتها من جديد. بعدها انتقل مركز المرجعية من حوزة النجف إلى الحوزة العلمية في الحلة بظهور الشيخ ابن إدريس الحلي أبو جعفر محمد بن منصور (ت 598 ه‍/1202 م) في أواسط القرن السابع الهجري.

وبرزت الحوزة العلمية في جبل عامل بلبنان مع مرجعية الشيخ محمد بن مكي العاملي (ت 786 هـ/1385 م) المعروف بالشهيد الأول، في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي). ثم عاد مركز المرجعية إلى النجف الأشرف بعد ظهور الشيخ أحمد بن محمد المقدس الأردبيلي (ت 933 هـ/1527 م) في القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي). وخلال قرنين تقريباً؛ بقي مركز المرجعية يتنقّل بين النجف وكربلاء؛ فكان آخر مرجع كربلائي مطلق هو الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1206 هـ/1792 م)، وبعده استقرت المرجعية العليا نهائياً في النجف منذ نهايات القرن الثامن عشر الميلادي على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم (ت 1212 هـ/1797 م)، ثم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1228 هـ/ 1813 م)، وحتى الآن.

بيد أنّ الحوزة العلمية النجفية تعرّضت إلى التدمير التدريجي الشامل بدءاً من العام 1968، بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق، وبلغ ذروته بعد العام 1979. وخلال هذا العام دخلت حوزة قم مرحلة نمو نوعي وكمي غير مسبوق، مع عودة الإمام الخميني وتأسيس الجمهورية الإسلامية، والهجرة الواسعة لعلماء الدين وطلبة العلوم الدينية من حوزة النجف الأشرف وباقي مدن العراق إلى قم، وتوافد أعداد هائلة أُخرى عليها من بلدان العالم الأُخر، ولا سيما لبنان والبحرين والسعودية والهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان وتركيا وإفريقية وشرق آسيا.

وإذا كانت حوزة النجف تختلف عن حوزة قم في الجوانب الشكلية ذات العلاقة بالهيكلية والتنظيم وحجم الإنتاج العلمي؛ فإنّهما تتشابهان إلى حد التطابق في المضامين والمحتوى، ولا سيما في مراحل الدراسة الثلاثة: المقدمات والسطوح والبحث الخارج، والمناهج الدراسية في المراحل الثلاث، ومصادر البحث والرواية والاستدلال، وشروط الاجتهاد وأساليب الوصول إليه، وشروط المرجعية، ولا سيما الأعلمية والعدالة، وأساليب إدارة المدارس الدينية التقليدية، وغيرها.

الذي تختلف فيه حوزة النجف عن غيرها من الحوزات العلمية الكبرى في الكوفة وقم وبغداد وجبل عامل والحلة وكربلاء؛ أنّها لم تأفل ولم تضمحل خلال ألف عام، أي منذ أسسها الشيخ الطوسي؛ إذ بقيت قائمة بمدراسها العلمية الفاعلة وإنتاجها العلمي؛ وإن انتقلت مركزية المرجعية العليا منها إلى حوزات أُخر. بينما اختفت حوزات الكوفة منذ أوائل القرن الرابع الهجري، وقم وبغداد في أواسط القرن الخامس الهجري، والحلة في القرن العاشر الهجري، وسامراء في القرن الثالث عشر الهجري، كما أفِلت حوزات جبل عامل وكربلاء والكاظمية في فترات كثيرة. وبالتالي؛ يمكن القول إنّ جميع الحوزات كانت موسمية غالباً، عدا حوزة النجف.

والاختلاف الثاني، هو أنّ النجف خلال ألف عام متواصلة، لم تخل يوماً من مراجع الصفين الأول والثاني، عندما كان مركز المرجعية العليا ينتقل إلى حوزات أُخر في فترات زمنية محدودة، كما حصل في الحلة في زمان ابن إدريس والعلامة الحلي والمحقق الحلي، وجبل عامل في زمان الشهيد الأول والشهيد الثاني، وكربلاء في عصـر الشيخ الوحيد البهبهاني، وسامراء في زمن السيد الميرزا الشيرازي، وقم في زمن السيد حسين البروجردي. ولذلك فإنّ 80% من المرجعيات العليا في التاريخ الشيعي، كان مركزها النجف الأشرف.

أمّا الاختلاف الثالث، هو أنّ أغلب الإنتاج العلمي الديني الشيعي، التفسيري والحديثي والكلامي والفقهي والأُصولي والرجالي، كتبه علماء النجف. أي أنّ الموروث العلمي الديني الشيعي هو موروث نجفي في غالبيته؛ دون بخس حوزات بغداد وقم وكربلاء والحلة وجبل عامل نتاجها وتراثها العلمي الديني المهم.

والاختلاف الرابع هو في تعاطي الحوزتين مع الشأن السياسي؛ فحوزة النجف ظلت مئات السنين تعاني من سياسات العزل والتهديد والاضطهاد التي تمارسها الحكومات الطائفية في بغداد؛ لأنّها تقع في جغرافيا تحكمها سلطات سياسية طائفية، منذ الحكمين الأُموي والعباسي، والاحتلال السلجوقي، مروراً بالاحتلالين المغولي والتركي العثماني، ثم الاحتلال الإنجليزي، وصولاً إلى الدولة العراقية بعد العام 1921 وحتى العام 2003، والتي تميزت بطائفيتها وعنصريتها.     وحين سقطت هذه الدولة؛ سقطت معها ايديولوجيتها العنصرية الطائفية. أي أنّ الحوزة النجفية لم تشهد يوماً أوضاعاً سياسية هادئة ومنسجمة محيطة قبل العام 2003؛ الأمر الذي كان يضطرها إلى الانكفاء السياسي غالباً، والتحفظ على محاولات الإصلاح والنهوض في الشأن العام، وخاصة ما يتعلق بالدولة، وذلك حفاظاً على كيانها من ردود الفعل العنيفة للأنظمة الطائفية العراقية، والتي تهدد علماء الدين الإيرانيين والأجانب دائماً بإسقاط الإقامة والتسفير، فيما تهدد علماء الدين العراقيين بالحرمان من أبسط الحقوق وبالاعتقال والإعدام. والنموذج الأبرز في هذا المجال ممارسات النظام البعثي القمعية طوال (35) عاماً.

أمّا الحوزة العلمية في قم والحوزات العلمية في إيران عموماً؛ فقد ظلت منذ قيام الدولة الشيعية البويهية في العام (322 هـ/933 م) تعيش أوضاعاً طبيعية غالباً، بعيداً عن القمع والتهميش؛ لأنّها تقع في جغرافيا شيعية وفي ظل دولة شيعية، سواء كان النظام ملكياً أو جمهورياً إسلامياً، ولم تتعرض إلى ما تعرضت له حوزة النجف، باستثناء فترات من حكم الشاه محمد رضا بهلوي. أي أنّ الحوزات العلمية في إيران ظلت منفتحة سياسياً، ولا تخشى سياسات الدولة الإيرانية غالباً؛ كونها دولة شيعية؛ بل كانت الدولة تقرب إليها علماء الدين الشيعة وتدعمهم.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment