بين القواعد الشرعية الإسلامية والقواعد القانونية الوضعية دراسة مقارنة
بين القواعد الشرعية الإسلامية والقواعد القانونية الوضعية: دراسة مقارنة
د. علي المؤمن
المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، كما عقدناها في دراسات سابقة، لا تغني عن المقارنة بين القواعد الشرعية والقواعد القانونية؛ ففي الأُولى تكون المقارنة بين الفقه والقانون باعتبارهما جسمين كاملين لكل منهما مواصفاته وخصائصه العامة، بينما القواعد هي مجموعة الأعضاء أو الأجزاء والوحدات المكونة لهذا الجسم؛ فتكون المقارنة بينها على أساس المقارنة بين خصائص هذه الأجزاء، ولكن ليس خصائص كل جزء وما يقابله من خصائص الجزء المشابه في الجسم الآخر، بل الخصائص التي تشكل قاسماً مشتركاً بين أجزاء كل جسم. وسيتم معالجة مساحات المقارنة على أساس المحاور الستة التالية:
مرجعية القواعد الشرعية؛ دينية، وتتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، إضافة إلى المصادر الكاشفة التي تقرها الشريعة الإسلامية، كالإجماع والعقل. وفي الحالات التي تكون فيها القاعدة مستندة إلى نص شرعي مباشر وقطعي؛ فإنّها تكون جزءاً من الشريعة. ومن مجموع هذه القواعد تتألف الشريعة الإسلامية. وفي حالات أُخر تكون القاعدة مستندة إلى نصوص شرعية غير مباشرة أو إلى القواعد العقلية المقبولة شرعاً.
أمّا القواعد القانونية فهي قواعد بشرية في مرجعيتها؛ نشأت نتيجة تراكم الخبرة القانونية الإنسانية، منذ العصر الروماني وحتى الآن، ويساهم في وضعها مجمل العناصر الواقعية، السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وغيرها، وهذه العناصر التي يستنطقها العقل هي مصادر القواعد القانونية. وهذا يستدعي اقتصار القاعدة القانونية على غايات مادية وأرضية متمثلة في أهداف مادية نفعية؛ دون أن يكون لها صلة بأي بُعد عقائدي أو روحي.
كما أنّ سماوية القواعد الشرعية، واستيعابها لجميع جوانب حياة الإنسان، الروحية والمادية، يجعل غاياتها ومجالات تطبيقها مختلفة عن القواعد القانونية؛ فهي تهدف إلى الارتقاء بالإنسان والمجتمع نحو الكمال في كل مجالات الحياة؛ فهناك قواعد شرعية ترتبط بالبُعد الاعتقادي ذي الصلة بالاعتقادات الدينية النظرية، وأُخر بالبُعد العبادي الروحي ذي الصلة بالعلاقة الفردية مع الله (تعالى). وهذان النوعان لا وجود لهما في النظام القانوني الوضعي. وهناك قواعد شرعية ترتبط بالبُعد المادي التنظيمي الأرضي أيضاً، وهي التي تعرف بقواعد المعاملات، والتي تمثل البُعد القانوني في الشريعة، كما أشرنا سابقاً. وهذا البُعد ـ هو الآخر ـ لصيق بالغايات الدينية العليا وروح الشريعة، بالرغم من صفته التنظيمية العامة.
وبالنظر لاتساع نطاق تطبيق القاعدة الشرعية، ولا سيّما في مجال القواعد التي تنظم علاقة الإنسان بربه؛ فإنّ القاعدة الشرعية تنظر إلى البُعدين الخارجي والداخلي (الظاهري والباطني) في تصرف الإنسان؛ أي أنّها تنظر إلى النوايا فضلاً عن السلوك الخارجي. في حين تقتصر القاعدة القانونية على السلوك الظاهري ولا علاقة لها بالنوايا أو مقاصد النفس الإنسانية([1]).
ولعلّ من الاختلافات الماهوية الأساسية بين القواعد القانونية والقواعد الشرعية، هو انطباق مقومات القواعد الشرعية مع حقائق الواقع الاجتماعي ومقاصد الفطرة الإنسانية والتجربة العلمية؛ الأمر الذي يجعل القاعدة الشرعية لصيقة بمقاصد العدل والحقوق. أمّا ركيزة القاعدة القانونية الوضعية فهي الحريات غالباً، بصرف النظر عما يترشح عن حقائق العلم ومبادئ العدالة من تعارض ـ أحياناً ـ مع الحريات في مفهومها الليبرالي الغربي تحديداً([2]).
أمّا مساحات الاشتراك بين القاعدة الشرعية والقاعدة القانونية في مجال الغايات، فأهمها: أنّهما قواعد لتنظيم السلوك والعلاقات البشرية، وهذه القواعد هي قواعد عامة مجردة موجهة للجميع، وهدفها تقويم السلوك الإنساني، وتحقيق خير الإنسان واستقراره الفردي والاجتماعي، وتتميز بالوضوح والاستقرار وإمكانية التعرف عليها بسهولة([3]). كما تتألف بنية القاعدة من مضمون وشكل، والمضمون هو محتوى القاعدة وجوهرها، ويعرف في الاصطلاح القانوني بالمادة، وفي اصطلاح علم أُصول الفقه بالملاك. أمّا الشكل فهو صياغة القاعدة، أي الضبط العلمي والفني([4]) للألفاظ التي تتألف منها القاعدة، سواء كان الضبط قانونياً على مستوى القاعدة القانونية، أو فقهياً أو أُصولياً إذا كانت القاعدة شرعية، بالصورة التي تبيِّن إرادة المشرّع الدالة على مضمون القاعدة وملاكها.
المبادئ الأخلاقية ملازمة للقواعد الشرعية، وهي من أهم مقاصدها والأُسس التي تستند إليها، بما في ذلك القواعد الشرعية ذات الصلة بجانب المعاملات([5])، إذ إنّ المعاني الروحية التي تستبطنها النصوص الإسلامية هي التي توجه هذه القواعد، وتمنحها هدفيتها، والتي تشكل بمجموعها هدف بعثة الأنبياء(ع). وأبرز ما يميز الشريعة في هذا المجال هو هذا البُعد الروحي الأخلاقي الذي يخلق وازعاً داخل النفس الإنسانية يجعل الصفات الأخلاقية مقدمة على الجانب القانوني في القاعدة الشرعية وحاكمة عليها؛ لتحول دون تحول القاعدة إلى مادة قانونية جامدة لا روح لها؛ ولا تعرف الرحمة والمروءة والعفو والصدق والمحبة، ونكران الذات والدوافع الضميرية، ولا تعي المقصد النهائي للحقوق.
ويقوِّي هذا الوازع طبيعة التلازم بين القواعد الشرعية في كل المجالات؛ فقواعد العبادات وما ترسخه من ضوابط أخلاقية تنهى الإنسان عن كل أنواع المنكر والانحراف، تكمل قواعد المعاملات وتضبط أخلاقياً وروحياً حركة المتعاملين بها، أو المكلفين حسب التعبير الفقهي.
أمّا القاعدة القانونية الوضعية فلها موقف متمايز عن الأخلاق؛ بالرغم من وجود مساحة مشتركة في المجال الاجتماعي بين القاعدة القانونية والعرف الأخلاقي العام، بالصورة التي تساهم فيها القاعدة في حماية الآداب العامة([6]). ولكن هذه المساحة تبقى محدودة، وتتضاءل كلما كان النظام الليبرالي أكثر ضغطاً على الواقع الاجتماعي.
ولا شك أنّ كثيراً من القواعد القانونية على صلة بالسلوك الأخلاقي الاجتماعي، كالحض على الوفاء بالعهود ومنع الاعتداء على النفس ومنع السرقة ووجوب رد الأمانة وغيرها، ولكن هذه الضوابط تبقى قانونية وليست أخلاقية، والمقصود بالأخلاق هنا الجوانب المعنوية التي يصعب على النظم الوضعية تقنينها.
وقد أصبح لهذه الجوانب قواعد خاصة بها هي القواعد الأخلاقية. وهناك أكثر من معيار يتم على أساسها التفريق بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية، وهي ليست معايير جامدة، بل مرنة ومتحركة؛ أي أنّها غالبة وليست مطلقة، منها: معيار الجزاء ومعيار الموضوع ومعيار الغاية؛ فإذا توافر للقاعدة جزاء يكفل فعاليتها، عُدَّت قاعدة قانونية، وإذا تخلف عنها هذا الجزاء كانت قاعدة أخلاقية، ومعيار الموضوع، فإذا كانت القاعدة تعنى بالتصرفات الظاهرية أو السلوك الخارجي للإنسان فهي قاعدة قانونية، وإذا كانت تواجه مقاصد الإنسان ونواياه الداخلية فهي قاعدة أخلاقية، ومعيار الغاية، فالقاعدة القانونية غايتها اجتماعية وتتمثل في إقامة نظام اجتماعي، وغاية القاعدة الأخلاقية فردية وتتعلق بتحقيق الاستقرار والكمال النفسي. ويترتب على ذلك أنّ الإلزام في القواعد الأخلاقية هو ـ غالباً ـ إلزام داخلي ذاتي نابع من ضمير الفرد ذاته، بينما الإلزام في القواعد القانونية هو إلزام خارجي (اجتماعي) ([7]).
تختلف القواعد القانونية في الدولة وتتفاوت من حيث نسبة ثباتها ومصدرها، وبالتالي حجم قوتها الإلزامية وسلطتها في تنظيم الواقع السياسي والاجتماعي. وهذا الاختلاف هو الذي يعطي لكل قاعدة قانونية موقعها في النظام القانوني للدولة؛ فتكون هناك قواعد في قمة النظام وأُخر تليها، حتى يصل التدرج إلى نهايته في قاعدة النظام([8]). وهذا يقتضي شكلاً هرمياً للنظام القانوني، يكون فيه تسلسل القواعد القانونية مؤثراً في تحديد قوتها وسلطتها؛ إذ تكون القاعدة الأعلى حاكمة على ما دونها. وكلما اقتربت القاعدة القانونية من قمة النظام القانوني كانت أكثر ثباتاً وجموداً، وكلما ابتعدت إلى الأسفل كانت أكثر مرونة وتحركاً وتغيراً.
وكان “كلسن” ومعه “مركل” اللذان يمثلان مدرسة (فينا) القانونية، أكثر من اهتم بمبدأ تدرج القواعد القانونية؛ إذ يريان أنّ الوظائف القانونية للدولة هي وظائف تكوين القانون ذاته؛ فلا يوجد تمييز بين هذه الوظائف على أساس علاقتها بالقانون إنشاءً وتطبيقاً، وإنّما يُعدّ العمل قانونياً وفقاً للقاعدة التي تعلوه. فالقاعدة الأعلى تُعدّ منشئة لقاعدة أدنى أكثر تحديداً في موضوعها، وتكون القاعدة الأدنى مقيدة بالقاعدة الأعلى ومتفقة معها([9]) شكلاً ومضموناً. ودعم “كلسن” هذا المبدأ بنظرية الوحدة القانونية التي ابتكرها، والتي تقوم على أساس أنّ النظام القانوني هو نظام واحد في كل أجزائه وتفاصيله، ومؤدى هذه الوحدة ما أسماه الخضوع (Subordination) والتبعية، أي أنّ القواعد القانونية تأخذ موقعها ضمن نظام تسلسلي تلتزم بموجبه القاعدة الأدنى بالقاعدة الأعلى وتستمد منها سبب وجودها وشرعيته. وهذا يعتبر كافياً لتفسير شرعية النص على أساس التزامه بأحكام النصوص العليا([10])، بل وتفسير النصوص نفسها ووعي مقاصدها. ويقول الفقيه القانوني الفرنسي المعاصر “دومينيك روسو” في هذا المجال: ((إنّ أية قاعدة آمرة لا قيمة قانونية لها بحد ذاتها وبصورة منفصلة، ولا تتبدى هذه القيمة إلّا من خلال مقارنتها مع مضمون قاعدة أُخرى، بحيث ينطبق ذلك على هذه الأخيرة مقارنة مع قاعدة أعلى))([11]).
وتمثل القواعد الدستورية قمة هرم النظام القانوني، تليها القواعد التشريعية، أي القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، ثم القواعد العادية، كالقرارات واللوائح التنظيمية الصادرة عن مؤسسات الدولة الدستورية، ولا سيّما الحكومة (السلطة التنفيذية).
ومن هنا؛ فإنّ الدستور هو أعلى القوانين وأقواها وأسماها، وهو السلطة القانونية الحاكمة على النظام القانوني للدولة، بما في ذلك القوانين العادية والتنظيمية. وبحسب تعبير “كلسن” فإنّ ((القانون هو الإرادة التي يتكون منها الدستور وكل ما يتفرع عن هذه الإرادة العليا من أوامر عامة أو خاصة… ويكون الدستور وما يتفرع عنه من قوانين وقرارات وأحكام أو أوامر؛ نظاماً قانونياً كاملاً متماسكاً ومتناسقاً؛ بحيث إنّ كل حلقة منه تستمد من الحلقة الأعلى منها الصلاحية والفعالية وتمد بهما الحلقة الأدنى منها))([12]).
ويذهب كثير من فقهاء القانون الدستوري إلى أنّ القواعد الدستورية تلتزم من جانبها بنصوص عليا أو أحكام تعلوها مرتبة دون أن تكون مدوّنة، يصطلح عليها (فوق الدستورية) (super constitutional) والتي تفرضها مسلمات منطقية أمكن اعتبارها من مقتضيات الفكر القانوني ولزومياته، ومن الواجب أن يراعيها واضعو الدساتير، باعتبارها ـ كما يرى “كلسن” ـ مصدر جميع القواعد الأُخر، وأنّها المعايير التي تحكم السياقات القانونية القائمة، وأنّ كل ما يخالفها يعد باطلاً. ومن هنا كانت استجابة القواعد الدستورية لهذه القواعد العليا (Suprame) لوناً من إسباغ الشرعية على القواعد الدستورية. وقد تتمثل القواعد العليا في مبادئ عامة، كحقوق الإنسان أو الحريات أو الديمقراطية، أو أيّة قواعد دينية أو عرفية أُخر([13]).
أمّا القواعد التشريعية (العادية) والتي تأتي في المرتبة التالية للقواعد الدستورية، فهي ما يصدر عن السلطة التشريعية في الدولة (البرلمان غالباً)، سواء كان قانوناً مقترحاً من السلطة التشريعية نفسها، أو اقترحته المؤسسات الدستورية الأُخر (التنفيذية والقضائية تحديداً) وسنّته السلطة التشريعية. وهناك دساتير تعطي رئيس الدولة أو الحكومة صلاحيات تشريعية أيضاً.
والتشريعات الفرعية (اللوائح والقرارات الإدارية التنظيمية) فهي القواعد التالية للقواعد العادية، ولكثير منها قوة القانون، وهي ـ عادة ـ من صلاحيات السلطة التنفيذية، أو أيّة مؤسسات دستورية يسمح لها الدستور أو القانون العادي بإصدار تشريعات فرعية([14]). وتلي التشريعات الفرعية ما يعرف بالمراسيم، وهي الصادرة عن مجلس الوزراء أو المؤسسات الدستورية الأُخر، ثم القرار الوزاري.
وينتج عن قاعدة التدرج في القوانين مجموعة مبادئ قانونية أساسية، منها: مبدأ (سمو الدستور)، الذي يعني أنّ الدستور يقف على رأس النظام القانوني، ويعلو كل القوانين والتشريعات والأنظمة. ومن تبعات هذا المبدأ: أنّ كل ما يصدر من قوانين وأنظمة مخالفة للدستور يقع باطلاً، وكذلك عدم جواز إلغاء الدستور أو أي من مواده بقانون عادي([15]). وتفرض قاعدة التدرج على كل سلطة دستورية أو إدارية أن تحترم القواعد القانونية الصادرة عن السلطة الأعلى منها، واحترام كل مؤسسة دستورية للقرارات الصادرة عنها والتزامها بها أولاً. ويذهب بعض الباحثين القانونيين أيضاً إلى أنّ السلطة الأعلى لا يمكنها إصدار قرار فردي مخالف لقاعدة صادرة بصورة قانونية عن سلطة أدنى([16]). فلطالما كانت القاعدة التي سبق أن أصدرتها السلطة الأدنى قانونية، فلا يحق للسلطة الأعلى منها نقض هذه القاعدة بقرار فردي.
وينطبق مبدأ التدرج على القواعد الشرعية أيضاً، من حيث تسلسلها ونسبة ثباتها ومصدرها وحجم قوتها الإلزامية. وتنقسم هذه القواعد إلى قرآنية وسننية واجتهادية. فالقواعد الشرعية القرآنية هي القواعد الإلهية الثابتة التي شرّعها الله (تعالى) مباشرة عبر نصوص واضحة في القرآن الكريم، وموقعها في قمة هرم نظام الشريعة الإسلامية، وهي حاكمة على جميع هذا النظام وقواعده التالية في المرتبة؛ فلا يمكن لأية قاعدة تليها أن تخالفها نصاً وروحاً ومقصداً. والقواعد الشرعية القرآنية هي مصدر جميع القواعد في هرم نظام الشريعة. وبعد القواعد القرآنية تأتي في المرتبة الثانية قواعد السنة النبوية، وهي القواعد التي قنّنها الرسول الأعظم(ص). وتخضع هذه القواعد لحاكمية القواعد القرآنية، فلو خالفتها تساقطت وفقدت شرعيتها([17])؛ فهي ـ إذاً ـ قواعد كاشفة ومفسرة للقواعد القرآنية، وتوضع في المنطقة التي لا توجد فيها قواعد إلهية؛ أي المنطقة المتروك أمر ملئها للنبي(ص).
وبعد القواعد النبوية؛ تختلف المذاهب الإسلامية في صفة القواعد التي تليها؛ فتذهب مدرسة الإمامة (التشيع) إلى أنّ القواعد التي يضعها الأئمة الاثني عشر هي امتداد للقواعد النبوية، وهي كاشفة عنها ومفسرة لها، فتدخل مصدريتها في ظل السنة الشريفة، وتعدّ جزءاً منها. وتخضع هذه القواعد ـ من جانبها ـ إلى المبادئ نفسها من حيث مستوى الثبات وقوة الإلزام، ونسبتها للقواعد النبوية هي نسبة القواعد النبوية للقواعد الإلهية نفسها. فتكون المحصلة أنّ أية قاعدة منسوبة إلى الإمام(ع) تسقط إذا عارضت قاعدة صحيحة صادرة عن النبي(ص)، وأيّة قاعدة منسوبة إلى النبي(ص) تسقط إذا عارضت قاعدة قرآنية.
أمّا مدرسة الخلافة (التسنن) فذهبت إلى اعتماد القواعد التي تترشح عن سيرة الصحابي كقواعد شرعية تلي القواعد النبوية مباشرة. ودخلت مدرسة التشيع في خلاف مع مدرسة التسنن بسبب عمل الأخيرة بسيرة الصحابي؛ لأنّ مدرسة التسنن أعطت لسيرة الصحابي القوة الإلزامية التي تجعلها تنقض ـ أحياناً ـ القواعد الأعلى؛ فيما لو افترضنا أنّ سنة الصحابي يترشح عنها قواعد اجتهادية، وذلك ما يسميه الفقهاء بالاجتهاد مقابل النص؛ وهو تقنين فيه تعطيل لمبدأ التدرج.
وبعد قواعد السنة الشريفة، تأتي القواعد الاجتهادية في المرتبة الثالثة، وهي القواعد التي يضعها الفقهاء في الحالات التي تفتقد إلى القواعد القرآنية والقواعد السننية. وقواعد الفقهاء ليست من الثوابت، بل هي متغيرات؛ بالرغم من أنّ القواعد الأعلى هي مصدرها ومرجعيتها. ومن بديهيات قاعدة التدرج هنا أن لا تصدر أيّة قاعدة اجتهادية تتعارض مضموناً وروحاً مع القواعد القرآنية والقواعد السننية، وإذا صدرت فهي باطلة ولا تكون قاعدة شرعية.
والفرق الكبير في موضوع التدرج بين القواعد القانونية والقواعد الشرعية، هو أنّ القواعد القانونية لا توجد فيها ثوابت بالمطلق، بل ثوابت نسبية تتغير، ويمكن أن تصدر قواعد عليا جديدة بمرور الزمن (دستورية تحديداً)، ووفقاً لذلك يمكن أن تتغير القواعد الأدنى التي كانت ثابتة في وقت ما؛ بسبب التزامها بالقواعد الأعلى. أمّا القواعد الشرعية؛ ففيها قواعد ثابتة بالمطلق لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهي القواعد القرآنية والصحيح من القواعد السننية. وتبعاً لذلك تكون القواعد الأدنى، أي القواعد الاجتهادية، تحظى بثبات أقوى من القواعد القانونية، بسبب ثبات مصادرها.
الإلزام بالقانون تفرضها طبيعة القانون نفسه وأساسه وجوهره؛ فلو لم يكن ملزماً للفرد والجماعة؛ لما تحوّل إلى قاعدة سلوك واجب، ولما أمكن تطبيقه. وهناك أكثر من معيار يعتمده علماء القانون وفلاسفته في معالجة موضوع الإلزام وأساسه في القانون، أولها: المعيار الشكلي، ويذهب أنصاره إلى أنّ القاعدة القانونية تكتسب قوة إلزامها من السلطة التي تسنّها، أي أنّ المصدر الرسمي أو الشكلي للقاعدة هو أساس الإلزام فيها. ومن أبرز القائلين بهذا المعيار الفيلسوف الإنجليزي “جون أوستن” صاحب نظرية إرادة الحاكم، ومؤسسو مدرسة تقديس النص الفرنسية (نظرية إرادة المشرِّع) ([18]).
والمعيار الثاني هو المعيار الموضوعي الذي يهتم بالجوهر وليس الشكل؛ فأنصار هذا المعيار ((ينظرون إلى المادة الأولية المكونة لجوهر القاعدة القانونية وينفذون إلى طبيعتها، ويتعرفون إلى القانون من مصادره الموضوعية أو المادية. ومن أنصار هذا الاتجاه الموضوعي: المدرسة المثالية أو مدرسة القانون الطبيعي، والمدرسة الواقعية، وتتفرع عنها المدرسة التاريخية ومدرسة التضامن الاجتماعي))([19]).
ولا تختلف القاعدة الشرعية من جانب الإلزام عن القاعدة القانونية؛ لأنّ الإلزام يكمن في أساس القاعدة الشرعية، وقد صدرت لتلزِم المكلفين بالعمل بها. ولكن دوافع الالتزام تختلف بين القاعدتين، فالالتزام بالقاعدة القانونية من قبل الفرد أو المجتمع يخضع لرقابة السلطة، وبالتالي ينطلق من تجنب العقاب ـ غالباً.
أمّا الالتزام بالقاعدة الشرعية من قبل المسلم المكلف فمردّه إيمانه بالله (تعالى) وامتثاله لأوامره، على أساس حق طاعة الله، أي وجوب إطاعة الإنسان للشارع([20])، وهو تعبير عن انتمائه الديني؛ لأنّ هذه القواعد هي بشكل وآخر تعاليم دينية {ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ}([21])، فضلاً عن دافع تجنب العقاب الدنيوي والأُخروي وطلب الثواب الأُخروي. ومن هنا يوصف إلزام القاعدة القانونية بأنّه إلزام خارجي، وإلزام القاعدة الشرعية بأنّه إلزام داخلي وخارجي([22]).
كما أنّ للإلزام الشرعي مراتب غير موجودة في الإلزام القانوني، فهناك إلزام بالعمل لا يمكن تركه (الواجب)، وإلزام بالعمل فيه رخصة على الترك (المستحب)، وإلزام بترك العمل فيه رخصة على عدم الترك (المكروه)، وأخيراً الإلزام بالترك (الحرام). بينما الإلزام القانوني يركز على الإلزام بالعمل (الواجب) أو الإلزام بالترك (الممنوع) فقط، ولا وجود للمستحب والمكروه فيه([23]).
القواعد القانونية والقواعد الشرعية ـ كما مرّ ـ هي قواعد ملزِمة، وهذا الإلزام يقترن بالضرورة بوجود جزاء. ففي حالة القواعد القانونية التي تركز على الإلزام بالعمل أو الترك؛ فإنّ مخالفة ذلك يستلزم جزاءً (عقابياً) توقعه السلطة بالإكراه والقهر على الفرد أو الأفراد المخالفين. ويمثل الجزاء رد فعل من جانب القانون على فعل المخالف. وإيقاع الجزاء ـ من جانبه ـ يستلزم وجود سلطة تقوم بذلك، وإلاّ فلا معنى للإلزام في القانون. والجزاء في القاعدة القانونية هو جزاء أو عقاب مادي، ويتم على نحوين: منع وقوع المخالفة والردع بعد وقوعها، أي الوقاية من المخالفة والتعويض عنها.
إلّا أنّ قسماً من فقهاء القانون والفلاسفة ومنهم (هيغل)، يعتقد بأنّ وظيفة الجزاء أو العقاب ليست وقائية؛ أي منع وقوع المخالفات، بل تعويضية، وتهدف إلى إعادة سلطان القانون في حالة إنكاره أو الإخلال به([24]).
ولا شك أنّ الجزاء يتخلف في القاعدة القانونية غالباً، ولكنه ليس مطلقاً؛ بالنظر لوجود قواعد جزائية تسبق وقوع المخالفة وتتزامن معها وتعقبها؛ مثل منع التظاهر ومنع السفر وغيرهما.
أمّا الجزاء في القاعدة الشرعية فيختلف في بعض صوره ومساحاته عن الجزاء في القاعدة القانونية؛ تبعاً للخلاف في الغايات والمصادر والإلزام؛ فالجزاء القانوني هو دنيوي مادي أرضي، وذو طبيعية تجريمية عقابية تعويضية غالباً؛ بينما الجزاء الشرعي دنيوي وأُخروي، وذو طبيعة مركبة: وقائية إصلاحية تطهيرية تعويضية ثوابية؛ لأنّه قبل المخالفة يهدف إلى الحؤول دون ارتكاب الفرد والمجتمع للمخالفة. وحال المخالفة يعمل على ردع المخالف وإرجاعه عن فعله، وبعد المخالفة يهدف عبر العقوبة إلى إصلاح الفرد والمجتمع، وإعادة تربيته وتطهيره وتخليصه مما علق به من انحراف وذنوب.
وإلى جانب هذا الجزاء المادي الروحي؛ فهناك الجزاء الوجداني؛ الذي يتمظهر في إحساس المخالف بمشاعر الذنب وعذاب الضمير؛ سواء كانت المخالفة ذات صلة بجانب العبادات أو المعاملات. وهناك جزاء إلهي تظهر آثاره في الدنيا وهي مثوبة أو عقوبة غيبية لا تحصل بيد السلطة، بل بيد الغيب. ويحتاج قسم من الجزاء الدنيوي في القاعدة الشرعية إلى سلطة شرعية لتنفيذه([25])، وهو ما يرتبط بتطبيق العقوبة المادية.
أمّا ما يرتبط بالجزاء الوجداني أو الجزاء الإلهي في الدنيا فهما لا يحتاجان إلى سلطة. وفي حال عدم وجود سلطة لتنفيذ الجزاء المادي؛ فإنّ الجزاء الشرعي يبقى غيبياً وأُخروياً. فمساحة الاشتراك في موضوع الجزاء بين القاعدتين القانونية والشرعية ـ إذاً ـ هي الجزاء المادي الدنيوي، مع الاختلاف في بعض الدوافع والغايات.
وعلى مستوى الآخرة؛ فإنّ القاعدة الشرعية تحدد جزاءً من نوع خاص للمحسن والمسيء؛ فالمحسن يُثاب على إحسانه، والمسيء يلقى عقابه العادل. وعدالة الله (تعالى) تتجسد في الجزاء الأُخروي بأظهر صورها؛ فالمسيء إذا أفلت من العقاب المادي الدنيوي؛ فإنّ الله (تعالى) يعلم بنواياه وفعله، وسيعاقبه في الآخرة. وهناك مخالفات تسقط عقوبتها الأُخروية ـ غالباً ـ إذا نال المخالف عقوبته في الدنيا. والجزاء الشرعي (دنيوياً أو أُخروياً) يرتبط أيضاً بأنواع القواعد الشرعية؛ ففي الواجبات، التي تعبر عن مصلحة ملزِمة؛ يعاقب من يتركها ويثاب من يلتزم بها. والمحرمات، التي تُعبِّر عن مفسدة متزايدة؛ يعاقب من يمارسها ويثاب من يتركها، والمباحات، التي تتساوى فيها المصلحة والمفسدة؛ يترتب عليها الأثر وفقاً للنوايا، والمكروهات، التي تترجح فيها المفسدة على المصلحة؛ يُعاتب من يعمل بها ولا يعاقب (وفي الشبهات عتاب)، والتي فيها ترجيح للمصلحة على المفسدة، يثاب من يعمل بها ويُعاتب من يتركها. وبشكل عام فإنّ هذا الجانب الغيبي الأُخروي هو مساحة اختلاف أساس بين الجزاء الشرعي والجزاء القانوني.
([1]) اُنظر في هذا المجال: عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص90 ـ 109. وسعد، د. جورج (مصدر سابق)، ص36. والبكري، د. عبد الباقي (مصدر سابق)، ص123 ـ 148.
([2]) مثالاً: إقرار القواعد القانونية لكثير من السلوكيات التي أثبتت التجربة العلمية خطورتها وضررها على الصعد الاجتماعية والصحية وغيرها؛ كشرب الخمر وممارسة الزنا، وهي في جانب منها تخالف مبادئ العدالة. فركيزتها ـ إذاً ـ الحريات الشخصية.
([3]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص109.
([4]) سلطان، د. أنور، «المبادئ القانونية العامة»، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2005، ص67.
([5]) اُنظر: جعفر، د. علي محمد (مصدر سابق)، ص56 و187.
([6]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر»، دار الهادي، بيروت، 2001، ص203 ـ 207.
([7]) الاستثناءات الموجودة في هذه المعايير لا يعني أنّها غير صحيحة، كما يذكر بعض الباحثين (مثالاً: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص44)، بل يعني أنّها مرنة ومتحركة كما أشرنا؛ كتوافر الجزاء لبعض القواعد الأخلاقية وتوافرها، وكذلك لبعض القواعد القانونية، مثل قواعد القانون الدولي، وعناية بعض القواعد القانونية بالنوايا والمقاصد، كاشتراط القصد الجنائي في الجريمة، ووجود قواعد أخلاقية ذات غايات اجتماعية تنظيمية. اُنظر: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص44 ـ 45.
([8]) اُنظر: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص44 ـ 45. وحجازي، د. عبد الحي (مصدر سابق)، ص164 ـ 167. وعاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص123.
([9]) اُنظر: نعمة، د.عدنان، «دولة القانون في إطار الشريعة الإسلامية» (مصدر سابق)، ص23 ـ 24.
([10]) اُنظر: الطباطبائي، د. عادل، «مفهوم الطعن المباشر في النظام الدستوري»، مجلة الحقوق، جامعة الكويت، العدد الأول، السنة 23، مارس 1999، ص12 ـ 13.
([11]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص24 ـ 25.
([12]) نقلاً عن: صليبا، د. أمين عاطف، «دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون»، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، 2005، ص89.
([13]) مرقس، د. سليمان (مصدر سابق)، ص240.
([14]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص25.
([15]) الصدة، د. عبد المنعم فرج، «أُصول القانون»، مكتبة الحلبي، القاهرة، 1971، ص99 ـ 102.
([16]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص350.
([17]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص24.
([18]) لا يصدر عن الرسول(ص) أي فعل أو قول أو تقرير يخالف نصوص القرآن الكريم ومقاصدها؛ لأنّ الرسول(ص) لا ينطق عن الهوى، بل المشكلة تكمن في نقل السنة النبوية وروايتها من الرواة والمحدّثين؛ فتعرضت السنة للتحريف والوضع، الأمر الذي حمل علماء الشريعة على التأسيس لعلوم ومناهج مهمة، ولا سيّما دراية الحديث والرجال، بهدف تنقية السنة مما عرض لها من تحريف ووضع. اُنظر: المؤمن، علي، «من المذهبية إلى الطائفية»، دار الكواكب، بيروت، 2007، ص54 ـ 70.
([19]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص146.
([20]) اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ص323 ـ 324.
([22]) يذهب الباحثان القانونيان المصريان الدكتور عبد الحميد والدكتور مصطفى الجمال إلى أنّه «كلما كان هناك إلزام خارجي لا يصاحبه إلزام داخلي كانت هناك قاعدة قانونية. وكلما كان هناك إلزام داخلي لا يصاحبه إلزام خارجي كانت هناك قاعدة دينية»، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص46. وهذا القول يصدق على القاعدة القانونية، كما يصدق على القاعدة الشرعية ذات الصلة بالبُعد الروحي أو العبادي، أمّا قواعد المعاملات ففيها إلزامان داخلي وخارجي، من خلال وجود سلطة شرعية توقع الجزاء بمن يخالف القاعدة، فضلاً عن اعتقاد الإنسان المكلّف بأنّ هذا الإلزام جزء من إيمانه الديني.
([23]) اُنظر في هذا المجال: جعفر، د. علي محمد (مصدر سابق)، ص57 ـ 65. والجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص46. وزاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص9. وعاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص145 ـ 146 و159 ـ 160.
([24]) اُنظر: سعد، د. جورج (مصدر سابق)، ص36 ـ 37. ومرقس، د. سليمان (مصدر سابق)، ص217.
([25]) في حال عدم وجود دولة تطبق القواعد الشرعية؛ فإنّ كثيراً من المجتمعات المسلمة تلزم نفسها بقواعد الجزاء الشرعي، عبر تطبيقها من قبل المجتهد الذي يصطلحون عليه: الحاكم الشرعي؛ لأنّه يحكم ويقضي بين الناس ويلزمهم بالجزاء، طواعية منهم، من خلال ولايته على الأُمور الحسبية وحفظ النظام العام. وهو ما تتعارف عليه المجتمعات الشيعية.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua