بريطانيا والقضية الشيعية في العراق

Last Updated: 2024/04/13By

 

بريطانيا والقضية الشيعية في العراق

د. علي المؤمن

قضية الشيعة في العراق نتجت عن تراكم متواصل في القرارات السياسية والرؤى المذهبية والأفكار الطائفية، برزت في أعقاب السيطرة الأُموية على مقدرات العراق، وتبلورت في العصر العباسي، وتكرست كواقع ضاغط ومعقد في العهد العثماني، مع وجودات فترات زمنية محددة حدث فيها انفراج نسبي في الجانب السياسي والمذهبي، خلال العهدين البويهي والصفوي، ونقول انفراج نسبي، لأن الواقع الحكومي العام بقي طائفياً الى حد كبير، رغم حكم الأُسر الشيعية؛ إذ لم يغير حكم البويهيين للعراق وسيطرتهم على بلاد الخلافة، من طائفية الدولة العباسية التي ظلت قائمة، بل إنه في مرحلة زمنية معينة خلال العصر العباسي كان معظم العالم الإسلامي يخضع لحكم الأُسر الشيعية، كالحمدانيين في شمال العراق وبلاد الشام والبويهيين في ايران والعراق وغيرهما، والفاطميين في مصر، والأدارسة في شمال أفريقيا.

وبقيت المقاومة الشيعية فاعلة، رغم انسحاب الأتراك المبكر من ساحة المعركة، ثم دخول الإنجليز بغداد عام 1917 وإسدال الستار على النفوذ العثماني في العراق. هذه الحقيقة يعبر عنها السيد محمد باقر الصدر بقوله: ((إن الحكم السني العثماني الذي كان يحمل راية الإسلام قد افتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام)).

وبعد تأسيس ما يعرف بالدولة العراقية الحديثة، ترسخت قواعد الدولة الطائفية الموروثة من الدولة العثمانية، وأُضيفت إليها قاعدة ثانية، هي العنصرية، حتى بات لون القواعد الطائفية العنصرية الجديدة للدولة فاقعاً ومثيراً للاشمئزاز، لأن هذه القواعد خالفت جميع حقائق الجغرافية السكانية وبديهياتها، وعليها قامت دولة الطائفية – العنصرية التي حكمت النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية للدولة التي تمثل الأقلية السكانية السنية ـ العربية، التي تبلغ 16 بالمائة من عدد سكان العراق.

وقد يمكن – بشكل أو آخر – تسويغ أو توجيه حكم العراق خلال العهد التركي، على اعتبار أن الإمبراطورية العثمانية كانت سنية، تنطلق من ايديولوجية مركزية عليا، ومن الطبيعي أن تضطر الى استيراد ولاة سنّة لبغداد من تركيا أو ألبانيا أو القوقاز – مثلا – ليحكموا العراق. ولكن؛ بعد نهاية العهد التركي، لماذا بقي النظام طائفيا؟! هل كان الإنجليز ينطلقون أيضا من ايديولوجية مركزية سنية عربية؟! ولماذا حولوا النظام الطائفي التركي السابق الى نظام سياسي محكوم بقاعدتي العنصرية والطائفية في صيغة وقوانينه ودستوره وأعرافه السياسية والاجتماعية؟.

وهكذا فرض الإنجليز على العراق أحد عملائهم الأجانب، وهو شخصية سنية حجازية، في محاولة التفاف واستغلال لمطالب بعض مراجع الشيعة، ليكون ملكاً على العراق. وبهذا الإجراء حقق الإنجليز كثيراً من الأهداف:

1- إرضاء عميلهم الأصلي الشريف حسين، بعد الوعود الكثيرة التي أعطوها إياه مقابل قيامه بالثورة ضد العثمانيين، وكذلك إرضاء ابنه فيصل الذي كان يقود جيوش ما يعرف بالثورة العربية بإشراف الجاسوس البريطاني لورنس، بعد أن فقد كرسيه الملوكي في الشام.

2- تقنين المنتظم السياسي العراقي الذي أسسه الأتراك، أي حكم المركب المذكور (عرب ــ سنة)، مستبعدين بذلك الشيعة العرب والسنة الكرد الذين يشكلون 80% من نفوس العراق.

3- التخلص من خطر حكم الأكثرية العراقية التي حاربتهم، انتقاماً منها، مستغلين التخلف السياسي لبعض زعمائهم، وهي الأكثرية الثائرة الداعية الى الاستقلال الكامل، لأن حكم الأكثرية سيؤدي الى الاستقرار في العراق وإنهاء القطيعة بين الشعب الدولة.

4- القضاء على أي طموح للثوار الذين زعزعوا الإمبراطورية البريطانية، والذين سيتمكنون من تحقيق أهداف ثورة العشرين فيما لو استلموا السلطة، وفي المقدمة هدف إنهاء الهيمنة البريطانية على العراق.

ومن خلال تمييع بريطانيا لمطالب الثوار والالتفاف عليها بأساليب سياسية ملتوية، حاولت الإيحاء للعالم ولاسيما عصبة الأُمم بأنها منحت العراقيين حقهم الكامل في تقرير المصير.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ فهل ثارت عشائر الوسط والجنوب ومدن العراق بقيادة علماء الدين، بدءاً بالسيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ محمد تقي الشيرازي، وليس انتهاءً بالشيخ محمد مهدي الخالصي والشيخ فتح الله الإصفهاني، لكي يحكم العراق عميل سني أجنبي؟ ولكي يكون ضباط الدولة العثمانية وموظفوها وعملاء الإنجليز فيما بعد، أمثال عبد الرحمن النقيب وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعلي جودت الأيوبي وجميل المدفعي ونوري السعيد رؤساء للوزارات؟! لماذا؟! هل لأن أكثرية الشعب لا تمتلك من له الكفاءة بأن يكون حاكماً أو ملكاً أو رئيساً؛ فاستورد لهم أمراء ورؤساء وزراء ووزراء ونواب ومدراء من الحجاز وتركيا ومن طوائف الأقليات؟!.

لعلنا نستطيع تفهم الموقف الاستراتيجي البريطاني حيال هذا الموضوع في إطار الأهداف الأربعة التي ورد ذكرها؛ فليس منطقياً وفقاً للمنهج البراغماتي الاستعماري وسياسة فرق تسد وزرع بؤر التوتر وعدم الاستقرار، أن تبادر بريطانيا الى تأسيس نظام سياسي عراقي يعتمد قواعد الديمقراطية والدولة الحديثة التي تتبع موقف الأكثرية؛ فتكافئ بذلك الشعب الذي حاربها بكل الوسائل طيلة سبع سنوات، وأذل كبرياءها وغرورها! وتقدم لهذا الشعب خدمة كبرى بصورة تلقائية. ولذلك كان من الطبيعي أن يعيد الإنجليز تأهيل تلك الشخصيات التي كانت جزءاً من النظام الطائفي التركي، ويبادروا الى مكافأتها، بعد أن تنكرت لدولتها التركية المنهارة، وعملت لدى الإنجليز، ثم عملت بكل قوة على بناء المجتمع السياسي العنصري الطائفي الجديد، بذريعة أن هذه العناصر تمتلك ممارسة وخبرة في الإدارة السياسية والعسكرية.

وفي المقابل؛ عاقبت بريطانيا الشعب الذي وقف ضدها، وحافظت على مصالحها في العراق الى الأبد، على اعتبار أن دولةً بهذه التركيبة ستبقى بحاجة الى الحماية والدعم اللذين يوفرهما لها الإنجليز، بعد أن وجدوا في الأكثرية العراقية عدواً شرساً لا يمتلك أدوات المساومة والمرونة السياسية، ولا يمكن ائتمانه على مصالح بريطانيا في العراق.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment