انهيار الإمبراطورية العثمانية

Last Updated: 2024/04/07By

انهيار الإمبراطورية العثمانية

د. علي المؤمن

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، بدت الدولة العثمانية أكثر ضعفاً من ذي قبل، وكانت على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي تعاني من أمراض مستعصية، بالصورة التي كانت عليها الإمبراطورية الروسية، حتى أطلق عليها الأوربيون تسمية «الرجل المريض» وكان العثمانيون يواجهون تحديات إضافية لم يواجهها الروس؛ فتركيا العثمانية كانت تمتلك ايديولوجية مؤثرة وذات خطر على الغرب، وفتوحاتها لأراضي الغير تتم تحت شعار «نشر الإسلام»، ومن هنا كان الغرب مستعداً للتعايش مع تركيا الإمبراطورية وغير مستعد للتعايش مع شعاراتها الدينية، وإن لم تلتزم بها عملياً، إذ كان كثير من تلك الشعارات مجرد غطاء لأهداف سياسية وتوسعية. هذا البعد الديني جعل من الدولة العثمانية هدفاً لتحركات أوربا المسيحية المضادة وأجهزة مخابراتها وجواسيسها؛ لنخر جسد الدولة من الداخل تمهيداً لتدميرها.

وحاول بعض المصلحين العثمانيين إدخال تجديد على بعض بنى الدولة وخططها، كالدستور الذي وضعه مدحت باشا (رئيس الوزراء) للدولة عام 1876، وإصلاح دواوين الدولة ووزرائها وخططها الاقتصادية وتعاملها مع الشعوب غير التركية. ولكن هذه الإصلاحات غالباً ما كانت تواجه بعقبات يخلقها المحافظون، ولا سيما السلطان أو الخليفة الذي كان يخشى أن تطال الإصلاحات مصالحه ومصالح الأسرة الحاكمة، وهو ما فعله عبد الحميد الثاني حين ألغى دستور عام 1876 وبرامج مدحت باشا. وأعقب ذلك ظهور فئات من العلمانيين الأتراك الذين يلقون الدعم الفكري والسياسي من أوربا، والذين يهدفون إلى تقويض البنية الدينية للدولة والمحافظة على الإمبراطورية، وشكل قسم من هؤلاء «جمعية الاتحاد والترقي» وآخرون «جمعية تركيا الفتاة». وقادت جمعية الاتحاد والترقي حركة انقلابية عام 1908 أجبرت السلطان عبد الحميد الثاني على التنازل عن العرش، وحينها تمكنت الحركات السرية المناهضة لشعارات الدولة، كالماسونية والعصابات اليهودية وأجهزة المخابرات الأوربية، من تحقيق أول نجاح كبير في طريق تدمير دولة الخلافة، وكان ليهود الدونمة الذين ينتمي إليهم مصطفى كمال (أتاتورك) دور أساسي في هذه العملية.

وفي المرحلة التي سبقت الحرب الاستعمارية العالمية الأولى، أخذت المناطق الأوربية الخاضعة للدولة العثمانية تسقط الواحدة تلو الأخرى، فأعلنت صربيا وبلغاريا ورومانيا استقلالها، وشكلت مع اليونان ما عرف بالحلف البلقاني، الذي شن حرباً شرسة على الدولة العثمانية، ووصلت قواته إلى مشارف العاصمة اسطنبول.

وارتكب العثمانيون خطأ قاتلا حين رضخوا لاستفزاز الحلفاء ودخلوا الحرب الاستعمارية الأولى وراهنوا على ألمانيا، فقد شكلت الحرب الفصل الأخير من عمر الدولة العثمانية، حين قامت بريطاينا وفرنسا وإيطاليا باحتلال معظم ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية. وجاءت اتفاقية سايكس – بيكو السرية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، لتقنن عملية تقسيم دولة الخلافة، حيث نصت الاتفاقية على تقسيم المشرق العربي (العراق وبلاد الشام) إلى خمس مناطق، يكون فيها العراق والأردن وفلسطين مستعمرات بريطانية، وسوريا ولبنان مستعمرات فرنسية، وإعطاء شبة الجزيرة العربية استقلالاً شكلياً تكون فيها إماراتها ومشيخاتها محميات تابعة لبريطانيا ولعب حاكم الحجاز الشريف حسين دوراً أساسياً في تنفيذ مخطط سايكس – بيكو.

وكانت هذه الاتفاقية مكملة لاتفاقية سابقة اشتركت فيها روسيا وبريطانيا وفرنسا، وأعطيت بموجبها آذربيجان الإيرانية وأرض روم وتبليس وبحيرة وان التركية إلى روسيا، فضلاً عن استيلائها على كامل البحر الأسود.

حين انتهت الحرب الاستعمارية الأولى وجدت الدولة العثمانية نفسها محتلة من قبل الحلفاء. وكان القائد العسكري العثماني كمال أتاتورك قد أبرزته جمعية الاتحاد والترقي بطلاً تركياً قومياً؛ بالنظر لجهوده في الدفاع عن استقلال تركيا خلال الحرب، الأمر الذي وضعه في موقع زعامة الأمة التركية، بعد أن عينه السلطان العثماني رئيساً للوزراء وقائداً للجيش، فجاءت آراؤه وتطلعاته منسجمة تماماً مع مطلب الحلفاء المحتلين، فقد رحب خلال مفاوضات «مؤتمر لوزان» عام 1923 بالشروط البريطانية التي فرضتها على تركيا مقابل الانسحاب من أراضيها والاعتراف باستقلالها، والتي تتضمن إلغاء نظام الخلافة الإسلامية، والتعهد بإخماد أية حركة تهدف إلى العودة لنظام الخلافة، وقطع صلة تركيا بالإسلام، وإقرار دستور مدني (علماني).

انعقد مؤتمر لندن عام 1920 للاتفاق نهائياً على تقسيم ما تبقى من تركة الدولة العثمانية، بالاعتماد على الاتفاقيات السابقة، وبالأخص اتفاقية سايكس – بيكو. وانتهى المؤتمر بالتوقيع على معاهدة «سيفر» للصلح التي قسمت تركيا لمناطق احتلال وحماية خاضعة لليونان وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا. وأعقبه «مؤتمر سان ريمو» بإيطاليا، الذي أضفى الصفة القانونية على اتفاقية سايكس – بيكو ومعاهدة سيفر، وهو ما أتاح تبني «وعد بلفور» وتحويل فلسطين إلى وطن قومي صهيوني لليهود، وفي الوقت نفسه تنكر المؤتمرون – وفي مقدمتهم بريطانيا – للوعود التي أعطاها الحلفاء للعرب، ولا سيما الشريف حسين وبعض المجموعات القومية، لقاء إعلانهم الحرب على دولة الخلافة في تركيا، كما ابتدع المؤتمر نظام الانتداب، فوضع العراق وفلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني وسورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وأُلحق وعد بلفور بصك الانتداب على فلسطين.

وحيال هذا الواقع الجديد، كان للشعوب موقفها، ففي معظم ولايات الدولة العثمانية السابقة والتي بقيت تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي، بفعل قرارات المؤتمرات الاستعمارية التي عقدت في أعقاب الحرب، اندلعت الثورات والانتفاضات الجماهيرية المناهضة للاستعمار. فثار الشعب السوري بقيادة يوسف العظمة ضد الاحتلال الفرنسي عام 1920، وأعقبته الثورة السورية – اللبنانية بقيادة سلطان الأطرش ابتداءً من عام 1925، والثورة المصرية بقيادة سعد زغلول ضد الانتداب البريطاني عام 1919، والثورة السودانية بقيادة علي عبد اللطيف ضد الاحتلال البريطاني عام 1924، وثورة الصحراء في ليبيا بقيادة الشيخ عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي ابتداءً من عام 1914، والثورة الجزائرية بقيادة جمعية علماء الدين ضد الاحتلال الفرنسي ابتداءً من عام 1920، وثورة الريف في المغرب بقيادة الشيخ عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني – الفرنسي عام 1920، وثورة العشرين في العراق بقيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي ضد الاحتلال البريطاني عام 1920. وكانت هذه الثورات تنتهي دون تحقيق الشعوب لأي من مطاليبها الحقيقية، بفعل القسوة الشديدة التي كان يواجهها بها المستعمرون.

من جانب آخر، فقد وجد الشريف حسين بن علي نفسه في عام 1924 خارج الحجاز، بعد أن دعم البريطانيون منافسه عبد العزيز بن سعود، الذي قضى على حكم عائلة الشريف في الحجاز إلى الأبد، وسبق أن قضى على حكم آل الرشيد الموالي للعثمانيين في نجد. وحاول البريطانيون والفرنسيون – قبل ذلك – تعويض الشريف حسين عن جانب من الوعود التي قطعوها له، فنصبوا ابنه فيصل ملكاً على سوريا ثم العراق، وابنه عبد الله على شرق الأردن.

وزرع الحلفاء المنتصرون في الحرب، وتحديداً بريطانيا، أهم ركيزتين علمانيتين في المنطقة الإسلامية في أكبر بلدين إسلاميين (تركيا وإيران)، لضمان فصل الإسلام عن الدولة ونظامها، وعدم العودة لأي نوع من أنواع الحكم الديني، إضافة إلى وضعهما ساترين أمام الزحف الماركسي القادم من الشمال نحو بلدان الشرق الأوسط، فنصب رضا خان (قائد الجيش ورئيس الوزراء) نفسه ملكاً على إيران، بعد أن قضى على كل إنجازات ثورة المشروطة وأسقط الدولة القاجارية. وفي تركيا أعلن كمال أتاتورك (رئيس الوزراء وقائد الجيش) عن قيام نظام علماني يفصل بين الدولة وأجهزتها المدنية والخلافة ونظامها الديني، وتنكر لأي تراث إسلامي لتركيا، واستبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية، وتبنى النموذج الأوربي هوية سياسية واقتصادية لنظامه، وثقافية لمجتمعة، ونقل العاصمة الرسمية من اسطنبول إلى أنقرة. وكانت هذه الإجراءات مداخل لإلغاء الخلافة الإسلامية؛ فعزل السلطان عبد المجيد الثاني عام 1922 ثم نفاه بعد سنتين، كما أكدت على ذلك معاهدة لوزان، وهو ما دعا دول أوربا المنتصرة إلى إعادة مناطق «تراقية» و«أدرنه» حتى نهر مارتيسما إلى تركيا هدية على إنجازها المعادي لتاريخها الإسلامي. وفي 3 آذار / مارس 1924 أصدر أتاتورك مرسوماً بإلغاء الخلافة نهائياً، ثم أعلن الجمهورية التركية.. دولة مناهضة للدين، والتي باتت بعد «معاهدة مونترو» في سويسرا بعيدة عن أي تأثير أجنبي.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment