الوعي الاستراتيجي لفقهاء العصر الصفوي

Last Updated: 2024/04/07By

الوعي الاستراتيجي لفقهاء العصر الصفوي

د. علي المؤمن

كان فقهاء الشيعة في العصر الصفوي، سواء الفاعلين في إطار الدولة الصفوية، أو المقيمين في أراضيها أو التابعين لغيرها؛ يمارسون واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقومون بالتوجيه المطلوب، تجاه ما يرونه من سلوكيات متعارضة مع الشريعة لدى السلطة الصفوية؛ لكنهم لم يتخلوا يوماً عن دعمها، ولم يسلبوا الشرعية يوماً من الشاه الصفوي، رغم قدرتهم على ذلك، لإدراكهم أهمية السلطة في حماية المذهب وأتباعه، في ظل حملات الاجتثاث التي كان الشيعة يتعرضون لها في كل العالم الإسلامي، وهم بذلك يستندون الى قواعد شرعية معروفة، سواء بالعنوان الأولي أو بالعنوان الثانوي، وتحديداً القواعد التي تندرج ضمن فقه الأولويات والتزاحم والمصلحة العامة ودفع الضرر ودرء المفسدة.

والأكثر من ذلك؛ فإن فقهاء الشيعة كانوا يكرسون حضورهم المعنوي والميداني في مفاصل الدولة الصفوية، بهدف التحكم بتوجهاتها الدينية المذهبية، سواء في موقع المرجعية ورئاسة الإفتاء أو في القضاء والتبليغ، وحتى في السلطة التنفيذية، وكان بعضهم يرافقون الجيش الصفوي ويمارسون في داخله مهام التوجيه الديني ومراقبة سلوك العسكر خلال الحروب. ولم يقتصر هذا الدعم على الفقهاء العرب الممسكين بالشؤون الدينية في الدولة الصفوية، بل الفقهاء الشيعة في البلدان الأخرى، ولاسيما فقهاء العراق، إضافة الى فقهاء البحرين ولبنان والأحساء، ولم يُعرف عن فقهاء الشيعة في ذلك العصر معارضة تذكر للدولة الصفوية.

ورغم علمهم بوجود طموحات شخصية وأُسرية لدى أغلب الشاهات الصفويين، وتلمّسهم بعض السلوكيات غير الشرعية لدى سلطات الدولة؛ فإنهم كانوا يجدون أنفسهم وسط خيارات متزاحمة صعبة، وأصعبها الخيار الذي يؤدي الى ضعف الدولة الصفوية أو انهيارها، وهو ما يقود إلزاماً الى فقدان الواقع الشيعي برمته الخيمة الأبوية المتمثلة بالدولة الفاعلة المستقرة، وقوة الحماية والاندفاع والصعود الوحيدة التي يمتلكها.

لقد كان هؤلاء الفقهاء يتلمّسون عمق إنجازات الدولة الصفوية في الجانب الديني المذهبي، والقائم على استراتيجية تكريس حضور التشيع في مفاصل بلاد فارس، وتحويله الى مذهب رسمي وشعبي فيها، وحماية شيعة العراق ولبنان وسوريا والبحرين من القمع العثماني والطائفي، وكذلك حماية شيعة القوقاز وأفغانستان وما وراء النهر، ونشر التشيع في شبه القارة الهندية وشرق آسيا، وخاصة تايلند وإندونيسيا وماليزيا، وصولاً الى تأسيس الدول والممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، ودعمها عسكرياً ومالياً ومذهبياً.

كما كان فقهاء الشيعة يتلمّسون حجم التآمر والغزو الطائفي ضد الدولة الصفوية من قبل الدول والإمارات والقبائل السنية المحيطة بأراضي الدولة الصفوية، وخاصة الدولة العثمانية من الغرب وشمال الغرب، والقبائل التركمانية والأوزبكية والغزنوية والبلوشية من الشرق، فضلاً عن فتاوى التكفير ووجوب الجهاد ضد الشيعة عموماً، والدولة الصفوية خصوصاً، وهو ما كان يدفع الفقهاء الشيعة الى تبادل الحماية والدفاع مع الدولة الصفوية، ومشاركتها في جهودها الدينية والسياسية، والعسكرية أيضاً.

وكان هؤلاء الفقهاء يدركون تماماً، أنّ التآمر على الشيعة، وأعمال القمع التي تمارس ضدهم، لا علاقة لها بالصراع الصفوي العثماني، أو الصفوي الأفغاني أو الصفوي التركماني، بل إن هذا القمع أصل ثابت في سياسات الدول والكيانات الطائفية، سواء كانت الدولة الصفوية قائمة أو غير قائمة، وهو ما صار واضحاً بعد سقوطها. وبالتالي؛ فإن جهود فقهاء الشيعة في شرعنة وجود الدولة الصفوية، وجهودهم في حمايتها ومنع إضعافها، كانت تهدف الى إحباط ذلك التآمر ومواجهة التقاليد الطائفية في قمع الشيعة.

وكان فقهاء ذلك العصر متأكدين من أن ضعف الدولة الصفوية وانهيارها؛ سيؤدي الى كوارث كبرى، ليس على مستوى المذهب في بعده الديني والعقدي وحسب، بل على مستوى الشيعة كمجتمعات، وخاصة المجتمعات الشيعية العربية، وهو ما حصل بالفعل، واستمر قمع الشيعة عقوداً طويلة، حتى ظهور نادر شاه الأفشاري، ثم تأسيس الدولة القاجارية، الأمر الذي أعاد للوجود الشيعي جزءاً من عافيته.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment