النظرية السياسية في الإسلام
معالم النظرية السياسية في الإسلام
علي المؤمن
(مجلة التوحيد، 1987)
«السياسة» في التصور الإسلامي تعني التصدّي لمسؤولية الأمّة ورعاية شؤونها، والسعي لإقامة مجتمع العدل والقسط وإدارته، وتحقيق الصلاح فيه. والعمل السياسي في الإسلام مهمة أساس تنبع الحاجة من خلال رسالة الإسلام نفسها وطبيعتها التكاملية وشموليتها. ومن هنا يفهم بأن السياسة من خلال المنظور الإسلامي ليست هدفاً بذاتها، وإنّما وسيلة مشروعة ومطلوبة لتحقيق الهدف الأسمى.
والنظرة السلبية السائدة في الأمة عن السياسة ومن يتعاطاها تابعة من تجربتها المرّة ومما عانته من مختلف التيارات السياسية والأنظمة غير الإسلامية المتعاقبة على حكمها، والتي تمثل حالات مختلفة من الانحراف والضغط، فأوحت تلك الأطروحات والممارسات إلى الأمّة المقهورة، بأن السياسة هي عبارة عن دجل ومكر وخداع وفسق وفجور، كما أفقدتها الثقة بكل من يتعاطاها مهما بلغت نزاهته. وهذا النوع من العمل السياسي لا يمتّ بأس صلة لأيّ من التشريعات الإلهية والسنن الدينية. وقد ابتلي به المسلمون منذ العصور الأولى للإسلام. وليس أدلّ على ذلك من قول الإمام علي(ع): «والله، ما معاوية بأدهى منّي، ولكن يفجر ويمكر».
كما إن المفهوم العربي للسياسة الذي استوردته معظم أنظمة البلدان الإسلامية هو كارثة حقيقية أصابت المسلمين في الصميم، وعززت نظرتهم السلبية وبلورتها إلى كراهية وعداء، مما أدى إلى حدوث فجوة واسعة بينهم وبين كل ما يمت إلى السياسة بصلة، فالفكر السياسي العربي فكر جائر وخبيث، يصور السياسة كمعركة من أجل الوصول إلى سدّة الحكم، وجميع الطرق غير الشريفة سالكة إليها. فهذا «دزرائيلي» يرى بأن السياسة هي (فن حكم البشر على طريق خداعهم) ([1]). أو أنها في رأي «موغنثا» تمثل (الكفاح للحصول على السلطة) ([2]) بغض النظر حتى عن أدنى المفاهيم الأخلاقية والإنسانية. إضافة إلى آراء «ميكافيلي» التي دعا من خلالها إلى اعتماد كل الوسائل، حتى غير الشريفة، من أجل الوصول إلى المآرب والأهداف التي من الممكن أن تكون غير شريفة أيضاً، ورَفَع شعار: (الغاية تسوّغ الوسيلة)… بالشكل الذي برزت مصاديقه العلمية في معظم أرجاء المعمورة.
بين الدين والسياسة
الأديان بشكل عام نظام حياتي متكامل ومنهاج ارتباط مبرمج بالحاكم المطلق. والإسلام الذي ختم الأديان، ومثّل مرحلة تكاملية وصلت إليها المجتمعات الإنسانية، بلور هذه الصفة الشمولية وحوّلها إلى الواقع العملي في الصدر الأول. والإسلام منهج كامل مترابط يشمل جميع التصورات والنظم، ويطرح رأيه في جميع مقومّات الحياة البشرية وجزئياتها، ويضع الحلول كل مشاكل الفرد والمجتمع، فهو ـ على هذا الأساس ـ تصوّر عقائدي، ونظام سياسي وعسكري واقتصادي، وبرنامج أخلاقي، ومنهاج عبادي روحي، يكفل العلاقات والارتباطات بين الأفراد والمجموعات الإنسانية.
أما «السياسة» فهي جزء لا يمكن فصله بتاتاً عن مجمل خصائص التصور الإسلامي، فهي نابعة من صميم رسالته السماوية. والعمل السياسي في الإسلام يضمن تطبيق القوانين الإلهية وصيانتها كما أنزلت على الرسول الأعظم(ص). ويحقق الأهداف التي نزلت من أجلها الأديان وبُعث الرُسُل. وقد نشأ مفهوم (فصل الدين عن السياسة) في أوروبا كردّ فعل على سلطة رجال الكنيسة وتدخلهم السافر في الشؤون السياسية إبّان العصور الوسطى (476 ـ 1453م) وفي هذا الصدد يقول «درابر»: «… ولم تكن الربانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة، فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي… وتسرّب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية في فساد الأخلاق والدعارة والفجور»([3]).
ويصف «جروم» الراهب النصراني وضع القساوسة والكنيسة في عصور الانحطاط الأوروبي قائلاً: «إن عيش القسوس وتعميمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطّت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق وبصكوك الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وإجازات خل المحرّمات والمحظورات»([4]). ثم اتخذ الأمر شكلاً آخر، إذ لم تكتف الكنيسة بنفوذها وسلطتها هذه، بل دخلت في نزاعات حادّة وعنيفة مع الإمبراطورية الرومانية، ابتداءً من القرن الحادي عشر. وانتهى الصراع بالانتصار الحاسم لرجال الدين الكاثوليك، حتى أصبح «البابا» يعزل «الإمبراطور» وينصب الأمراء، ويتلاعب بشؤون الدولة ومقدّراتها([5]).
وكان لهذه الانحرافات الخطيرة الأثر الأكبر في حدوث ردّة واسعة في أوساط النصارى، أدّت إلى بروز الأفكار المعادية لرجال الدين والمطالبة بفصل الكنيسة عن الدولة. وفي أعقاب ذلك حققت الردّة المناهضة لسلطة «البابا» إنجازات ملحوظة في هذا المضمار، بحيث حصل نيكولا ميكيافلي (1469 ـ 1527م) على تأييد واسع لآرائه. ثم ظهرت بعد ذلك، الأنظمة الملكية المطلقة، والديمقراطية المستبدة، وانتهت بالمادية الإلحادية والماركسية، التي تمثل العداء للدين. وحمل القرنان التاسع عشر والعشرون شتى الأفكار العلمانية من إلحادية وطوبائية وبراغماتية وقومية.
وانسحب مجمل هذه الأحداث والمفاهيم على الوضع في المنطقة الإسلامية، وبرز العديد من دعاة العلمنة وفصل الدين عن السياسة، فيما أفلحت جهود «كمال أتاتورك» في إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا، وتبعه «رضا بهلوي» بإجراءات لا تقل عنه في إيران. كما انتشرت الروح القومية والشعور العرقي في معظم البلدان العربية والإسلامية وخاصة في بلاد الشام ومصر والعراق. ولعبت السيطرة الاستكبارية والنفوذ الثقافي والفكري الدخيل دوراً أساساً في انتقال هذه العدوى، حتى أضحت فكرة المنهاج الترابطي الشمولي للإسلام غريبة على معظم المسلمين. وتحوّلت السياسة من معلم أساس يرتبط بالرسالة الإسلامية إلى مفهوم غريب ومرعب لدى الكثير من المنتسبين للإسلام. وحاولت الأيدي الدخيلة إفراغ الدين الإسلامي من محتواه الحقيقي وعزله في زاوية ضيّقة، أطلقوا عليها «الارتباط الروحي بين الفرد والرب» بعيداً عن المجتمع وشؤون الحياة الأخرى كالاقتصاد والسياسة.
يعبّر أحد رموز الحركة الإسلامية المعاصرة عن هذا الواقع المرير، بقوله: «كانت الصلاة، وشعار «الله أكبر» تمنح المؤمنين قوّة، وعزّة، وصموداً، واستقامة في ساحات المعركة. فكيف اختفت حيوية هذا الشعار في حياة الأمة اليوم؟ وكيف فقدت الصلاة دورها في ساحات القتال؟ وكيف أصبحت الصلاة والأذان لا تعني شيئاً في حياة الأمّة يهابه أعداء الله… أخفق الاستعمار في فصل الدين عن السياسة نظرياً ـ في الأقل ـ في الأوساط الواعية المؤمنة من المسلمين، وظلّت الطبقة الواعية المؤمنة من هذه الأمة تؤمن بأن السياسة شأن من شؤون الدين، وأنه في الصميم من الدين. ولكن مما لا شكّ فيه إن الاستعمار نجح في فصل العقيدة عن السياسة حتى على الصعيد النظري في هذه الأمة. وفي رأيي إن فصل العقيدة عن السياسة أخطر من فصل الدين عن السياسة، إذ المسلمون يفهمون السياسة بصورة مستقلة تماماً عن الناحية الإيمانية والاعتقادية، ويفهمون العقيدة كذلك بمعزل عن السياسة على شكل حقلين منفصلين. وكأن السياسة تجري في عالم مستقل عن مشيئة الله تعالى، ووفق قوانين ومعادلات بشرية، وبموجب ميزان القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وليس لله تعالى مشيئة ولا إرادة في عالم السياسة…
هذه المدرسة السياسية التي أثّرت في نفوسنا وفي فهمنا السياسة من حيث لا نشعر (هي) مدرسة يهودية قديمة ومعروفة، كانت ترى أن الله تعالى لما خلق الكون والإنسان، تخلّى عن الحكم والقبض والبسط والأمر في حياة الناس، وأصبح الإنسان هو الذي يحكم ويقبض ويبسط ويأمر في حياته… وتحولت هذه العقيدة إلى أساس علماني في فهم السياسة وتحليلها ومناقشتها وترقّب النتائج السياسية والتنبؤ بها. ثم تسلل هذا المفهوم العلماني اليهودي عن السياسة إلى مجتمعنا الإسلامي، وأصبحنا نتعامل معه كحقيقة ثابتة لا نقاش فيها» ([6]).
إنّ الصفة الترابطية التي يتميز بها المنهج الإسلامي الشمولي هي أوضح الدلائل على عدم إمكان فصل الدين عن السياسة، إذ يتعذر تبعيضه وتجزئته، أو تبني قسم منه ولفظ القسم الآخر، أو الإيمان ببعضه والكفر ببعضه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ]… أفتُؤمنونَ ببعض الكِتابِ وتكفرونَ ببعضٍ فما جزاءً من يفعل ذلك منكم إلاّ خِزيّ في الحياة الدُّنيا ويومَ القيامة يُردّونَ إلى أشدّ العذاب…[ ([7]). فلا يمكن، إذن، الأخذ بالإسلام كدين روحي فحسب وعقيدة شخصية، أو مجرد ممارسات عبادية بحتة، دون الأخذ به كنظام سياسي أو نهج اقتصادي واجتماعي. لا يُفهم بتاتاً أن يكون دين الدولة الرسمي «الإسلام» بينما يكون النظام الاقتصادي «اشتراكياً» والنهج السياسي «قومياً» أو يكون الإنسان مسلماً ماركسياً، أو مسلماً علمانياً في الوقت نفسه. والمسألة هنا تمثل إمّا الانتماء الكامل للإسلام وإما لغيره. وبمعنى أدق: الأخذ به كوحدة عقائدية وتشريعية وحضارية متكاملة غير قابلة للتجزئة، بحيث لا يمكن التزام بعضه كالأمور العبادية، واستجداء النظم والقوانين من غيره.
والسياسة في الإسلام بجوهرها الحقيقي هي ممارسة عبادية يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، بشرط توفر عناصرها الأساس، كنيّة القربة والتوكل والإخلاص والمبدأية.
الألوهية والتوحيد
إنّ الإيمان بواجب الوجود المطلق ووحدانيته الخالصة هو جوهر العقيدة الإسلامية والأساس الأول للنظرة التوحيدية للكون والحياة. وتستند قاعدة التوحيد على تعبيد المخلوقات للموجود المطلق اللامحدود… ]وما خلقتُ الجنَّ والإنسّ إلاّ ليَعبُدونِ[ ([8])، وتحرير الإنسان من الشِرك به. فصفات الله تنفي بشكل قاطع وجود أي شبيه أو مثيل له ]ليس كمثله شيءٌ[ ([9])، لأن التعددية هي من مميزات المخلوقات المحدودة النسبية. وأساس النظرة التوحيدية للكون هو رفض كل الآلهة والمعبودات المصطنعة والوضعية. وهذه النظرة تحصر جميع الموجودات في العالم الأكبر بمجموعة واحدة مترابطة متكاملة. الخلق والتنظيم، وكل موجود يعمل لشاكلته وهدفه الذي رسمه الباري المصور، ويسير في منظومة متناسقة ودقيقة للغاية، بالشكل الذي يكمّل بعضه بعضاً. وتكدح جميع المخلوقات والموجودات، الجامدة والمتحركة معاً، وفقاً لهذا النظام باتجاه هدف موحّد ومركز مشترك.
ويعني رفض الآلهة المزيفة على مرّ التاريخ تحرير الإنسان من الداخل والخارج، وتحطيم كل القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدم الإنسان وكدحه إلى ربه وسيره الحثيث نحوه، سواء تمثلت هذه القيود والحواجز على مستوى آلهة ومخاوف وأساطير، وتحجيم للإنسانية بين يدي قوى مختلفة، أم تمثلت على مستوى ملكيات تكرّس السيادة على الأرض لطاغوت، فرداً كان أم فئة أم طبقة، على حساب الناس، ودون نموّهم الطبيعي، وتفرض عليهم بالتالي عرقات التبعية والاستعباد ([10]). يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: ]قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكُمْ ألاّ نعبُدَ إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتَخِذَ بعضُنا بعضاً أرباباً مِنْ دون الله…[ ([11]).
أما الاعتقاد التوحيدي في اتجاهه الاجتماعي فهو يصوّر المجتمع للإنسان الموحّد، كأسرة كبيرة واحدة وكهيأة أيديولوجية موحدة. ومن هنا، فإن هذا الاعتقاد إذا ساد المجتمع كان من شأنه أن يذهب بكل ما هنالك من نقص وتعدّ وإفراط وتقصير، ويبطل الأثرة والتمييز والطبقية، ويبني من الناس أمة وسطاً تقوم على السنن العادلة، فضلاً عن توحيدها لجميع أبعاد الوجود الإنساني وجعلها متلاحمة ومتلائمة، وتمنع من تقسيم الشخصية الإنسانية وتلاشيها، ثم ينبسط نور هذه الوحدة والتلاحم على عامة صِلات الإنسان بحياته وأعماله واتجاهاته ([12]).
مفهوم الولاية ومراتبها
تستمد الولاية الاجتماعية والسياسية في الإسلام شرعيتها من الولاية المطلقة الكلية. ويستبعد الشارع الإسلامي مفهوم استمداد الولاية على البشر من أفراد البشر أنفسهم، إذ يصطدم هذا المبدأ بعدة مشاكل وعقبات تمثل المؤاخذات الموضوعية على نظام الديمقراطية (منح الفرد حق التشريع والتولية). من هنا؛ فإنّ مصدر الولاية الأرضية (وفقاً لبنيتها وامتداداتها الشرعية) هو الله سبحانه وتعالى، الذي يستمد منه العمل الإسلامي القدرات وتشريعات العمل والتطبيق. وهذه الولاية المستمدة تتمثل بدورها في ثلاثة امتدادات، هي: «النبوة» و«الإمامة» و«ولاية الفقيه»، والقائمة على الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله، بصرف النظر عن الاختلافات الموجودة في هذا الجانب بين المذاهب الإسلامية. والنظام السياسي في الإسلام «يؤمن القسط والعدالة، والاستقلال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والتلاحم الوطني» ([13]).
وتستند النظرية السياسية وقاعدة الحكم في الإسلام على أربعة أسس ومصادر تشريعية تتمثل مراتب الولاية، هي:
- الحاكمية المطلقة:
السيادة الكونية هي لله سبحانه وتعالى قبل كل شيء مصدر جميع القدرات والسلطات والتشريعات، الخالق المصور والمدير المنفرد، ذي العلم المطلق والقدرة المطلقة. «وتعني هذه الحقيقة أن الإنسان حر ولا سيادة لإنسان ولا لطبقة ولا لأي مجموعة بشرية عليه، وإنما السيادة لله وحده، وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان([14]). فالتشريع الإسلامي صادر من الله تعالى، لا من إنسان ولا من مجموعة (زعيم أو حزب أو برلمان). ويشير القرآن الكريم في العديد من آيات الذكر إلى الحاكمية والولاية الإلهية المطلقة: ]… ما لهُمْ من دُونهِ وليٍّ ولا يُشركُ في حُكمِهِ أحَداً[([15])، ]… ما تعبدونَ مِنْ دُونه إلاّ أسماءً سمَيتموها أنتم وآباؤُكُمْ ما أنزل الله بها من سُلطانٍ إن الحُكمُ إلاّ لله أمرَ ألاّ تعبُدوا إلاّ إيّاهُ ذلك الدِّينُ القيِّمُ ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعملون[([16])، ]ثُمَّ رُدُّوا إلى الله مولاهُمُ الحقِّ ألاّ له الحُكمُ…[ ([17]).
- الاستخلاف:
حاكمية الله على الأرض لا يمكن أن تتجسد في ذاته المقدسة نفسها، فالله جلّ وعلى بحكم وجوده لا يتجسد ولا يتقمص هيئة معينة. فلذا شرّف الإنسان بالخلافة والنيابة على الأرض ]… هُوَ أنشأكُمْ مِنَ الأرضِ واستعّمَرَكُمْ فيها…[ ([18]) وفوضه بمهمة تنفيذ الإرادة الإلهية في المجتمع البشري، واعتبر سبحانه وتعالى استخلاف الإنسان أمانة كبيرة عجزت المخلوقات الأخرى عن تحمل أعبائها. ]إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبالِ فأبينَ أن يحمِلنها وأشفقنَ مِنها وحملها الإنسانُ…[ ([19]).
وتمثل استخلاف الله للإنسان في بادئ الأمر بآدم (ع) كنبيّ ومفوض خاص بأعباء الرسالة ]وإذْ قالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً…[ ([20]). ومن بعد آدم لأشخاص معينين من بين الجماعة البشرية، ومنح الله العقل للإنسان ليجتهد بمهام إدارة الأرض وحكمها وإعمارها واستثمار نعم الله فيها. ومن هنا، فإنّ شرعية حكم البشر لأنفسهم مستمدة فقط من الحاكمية المطلقة، باعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض([21]). ومن بين عامة المجتمع الإنساني خص الله تعالى بعض الأفراد لتمثيل إرادته وتطبيق شريعته… ]هو الَّذي جعلكُمْ خلائِقَ في الأرض ورفع بعضكُمْ فوقَ بعضٍ دَرجاتٍ…[ ([22])، ]وجعلنا مِنهُمْ أئِمةً يِهدونَ بأمرنا…[ ([23]).
وعملية الاستخلاف السماوي للإنسان على الأرض بمفهومها الواسع تعني:
- انتماء الجماعة البشرية محور واحد هو المستخلف (الله تعالى) بدلاً عن كل الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيد واحد مقتدر ومالك واحد للكون.
- إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء المختلفة التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوتية.
- تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط. فما دام الله سبحانه وتعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، فالناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، ويقوم التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح فقط دون اعتبارات أخرى.
- الخلافة استئمان، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ بدون إدراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار ممارسة دور الخلافة([24]).
ومهمة حمل الأمانة وتطبيق شريعة الله تعالى على الأرض لا يمكن أن تتم دون العمل لإقامة الحكم الإلهي الذي يضمن تنفيذ الفرائض وحدود ما أحل وحرّم. ولذا فإن العمل السياسي في الإسلام يستمد وجوبه وضرورته من خلال هذا المفهوم، لأنه يسعى لتطبيق أوامر الله عزّ وجلّ ونواهيه. كما إن الله تعالى عندما منح الإنسان حق خلافته لم يفوضه أمر إتّباع أي شريعة أو نظام كيفما شاء واتفق أو اشتهى الإنسان، بل أمره بسلوك طريق محدد ومعين رسمه هو باعتباره مصدراً لجميع السلطات والقدرات.
ب- التنزيل:
الوحي والتنزيل من الأمور الغيبية التي تختص بها الأديان. فالله تعالى يشرّع قوانينه للبشرية منذ وجودها على الأرض عن طريق الوحي الذي يطرح التعاليم والأسفار ويفصل القوانين والتشريعات. ]وما يَنطبِقُ عن الهوى*إنْ هُوَ إلاَ وحيٌ يُوحى[([25]). والتنزيل هو عبارة عن هذه التعاليم التي تتخذ شكل الأوامر أحياناً، والكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل والفرّقان أحياناً أخرى ]وإنَه لَتَنزيلُ رَبِّ العالمينَ*نَزّلَ به الرُّوحُ الأمينُ*على قلبِكَ ليتكونَ مِنَ المُنذرينَ[([26]).
والقرآن الكريم الذي أوحي به للرسول محمد (ص) هو الدستور العام للمجتمع الإسلامي والمرجع الأول للتشريع، وهو مصون من التحريف والتزوير والنقصان ]إنّا نزّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لحافظونَ[([27]). والقرآن قانون شامل للحياة، ولا يختص بجانب واحد منها، وله قرار جازم في كل أمر من أمور الكون، وفيه التشريعات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والعبادية، والمناهج العلمية والإدارية والجزائية. ]… ونزّلنا عليكَ الكِتابَ تبياناً لكلِّ شيءٍ وَهُدىً ورحمةً…[ ([28]). ولا بُدّ للقرآن أن يكون كاملاً وجامعاً باعتباره منزلاً من الحاكم المطلق الكامل، إذ لا يصدر عن الكامل إلاّ الكامل. من هنا، فالتنزيل الحكيم الموحى إلى الرسول(ص) هو المنهج الأساس الذي يسير التحرك الإسلامي وفقاً لتعاليمه وأوامره بشكل قاطع ودقيق، وهو أيضاً القانون الوحيد الذي يعتمده الحكم الإسلامي دون باقي القوانين الوضَعية والبشرية السائدة في عالم اليوم.
إن الذي يضمن صلاح التشريع الإسلامي في كل عصر ومصر هو قدرته على استيعاب التطور، والحالة المتجددة التي يتميّز بها. فالتشريع الإلهي الإسلامي لا تنتفي الحاجة إليه بزوال الأوضاع والعوامل العارضة أو تغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية. والفكر السياسي الإسلامي المستوحى من الشريعة بأمانة وأصالة لا يمكن أيضاً أن يكون محدوداً بزمن دون آخر، ولا بجماعة دون أخرى، ولا بمكان دون مكان، لأن مصدر هذا الفكر وصيغته وهدفه لم يكن محدداً بأي حد، ولم يكن مقيداً بأي قيد، ولن يتعارض مع الوقائع والأحداث الممكنة، لذا جاء الفكر السياسي الإسلامي صالحاً لتنظيم علاقات المجتمع الإنساني مهما كان نوعها وأيّاً كانت أطرافها، وفي كل فترة من فترات التاريخ، وكل مكان من العالم([29]).
- النبوة:
اختار الله ـ كما أسلفنا ـ مجموعة من البشر في أزمان وأماكن مختلفة ليكونوا سفراءه وخلفاءه الخاصين ومبلّغي رسالته: ]… فبعثَ الله النبيينَ مُبشرينَ ومُنذرينَ وأنزل معهم الكِتاب بالحقِّ ليحكُمَ بين الناس…[ ([30]). وأوحى سبحانه وتعالى إلى الأنبياء بمهامهم وطبيعة حركتهم، وأنزل عليهم أحكامه وتشريعاته. فنشأت الأديان التي مصدرها واحد جميعاً، على الرغم من اختلاف أسمائها ولوائحها وأنبيائها، إذ يخاطب الله نبيه الكريم قائلاً: ]إنّا أوحينا إليكَ كما أوحينا إلى نُوحٍ والنبيينَ من بعدِهِ وأوحينا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحَقَ ويعقوبَ والأسباطِ وعيسى وأيوبَ ويُونُسَ وهارونَ وسليمانَ وآتينا داوُدَ زبوراً[([31]). فصدر جميع الأسفار السماوية واحد، ومهمة جميع المرسلين واحدة أيضاً.
«وتوالت الرسل على هذا المنهج الواحد، يختلف في تفصيلات الشريعة ويتفق في أصل التصور، وفي الغاية الأساسية الكبرى، وهي: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه»([32]). والمطلب الأساس لدعوة الأنبياء هو إقامة حكم الله في الأرض، وإشاعة العدل بين جموع الإنسانية المعذبة والمنحرفة. والرسول هو حامل دعوة السماء والمكلف بإعادة الدور الخلافي الصالح للإنسان. ولم تكن دعوة الأنبياء دعوة لاستئناف الرابطة العبادية بين الفرد والله فقط، وإنما هي دعوة شاملة وثورة على الواقع الفاسد، وقلب الأوضاع الجاهلية. وفيها جانب سياسي كبير للغاية، وفي هذا يقول الإمام الشهيد الصدر: إن النبوة هي «ظاهرة ربانية تمثل رسالة ثورية وعملاً تغييرياً وإعداداً ربانياً للجماعة لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن ستلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامة لكي يحقق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية والاستغلال»([33]).
وختم الله أنبياءه بالرسول الأعظم محمد (ص) الذي جاء بالإسلام ليكون آخر الأديان ومصدقاً بالشرائع الربانية التي سبقته، ومهيمناً عليها في الوقت نفسه: ]هو الذي أرسلَ رسولَهُ بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهرهُ على الدينِ كُلّهِ ولو كره المُشركونَ[([34])، ]… رسول الله وخاتَمَ النبيين…[ ([35]). ومنذ البدايات الأولى للدعوة الإسلامية كان النبي (ص) يضع نصب عينيه تأسيس الدولة وإقامة حكومة العدل الإلهي، ولم يخرج تحركه هذا عن النطاق الشامل لجميع مجالات الحياة، وكان العمل السياسي هو الجانب المتميز في تحرك الرسول (ص) أو بكلمة أدق، لم يكن في تحركه (ص) أي فصل أو تباين بين جانب وآخر، بل إن جميع هذه الجوانب كانت متداخلة ومتلازمة ويكمل بعضها بعضاً. وبعد الهجرة إلى (يثرب) المدينة، عمل الرسول (ص) على وضع دعائم دولته بمجرد اكتمال عناصرها القانونية، وأخذ يمارس دوره كحاكم سياسي ورئيس دولة إلى جانب وجوده الديني كمرسل من قبل الله سبحانه وتعالى.
وفي المدينة أقدم الرسول (ص) على عدة أعمال هي بمثابة مباشرة طبيعية لدوره الديني والزمني، منها:
أولاً: المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وتنظيم شؤونهم الإدارية والاقتصادية.
ثانياً: عقد الاتفاقيات والمواثيق السياسية والعسكرية مع القبائل والطوائف الأخرى.
ثالثاً: تشكيل الجيوش والأجنحة العسكرية، وتجهيزها لخوض المعارك والحروب مع المشركين والكفرة وأعداء الإسلام ممن سوّلت لهم أنفسهم نقض العهود والاتفاقات، فقاتل أهل مكة، وقاتل اليهود، وقاتل الروم وغيرهم. وقد جاء في إحصاءات المؤرخين أن الرسول(ص) خاص (85) حرباً وغزوة في مدة قدرها عشرة أعوام.
رابعاً: إرسال الرسائل والمبعوثين السياسيين والسفراء إلى ملوك ورؤساء العالم يدعوهم إلى دخول الإسلام وقبول حكومة الله. ومن بين هؤلاء «قيصر» و«كسرى» و«النجّاشي»، و«المقوقس» و«عبدا بني الجندي» و«رفاعة بن زيد الجذامي» و«أسقف نجران وأمير عمان» وغيرهم. كما وقّع (ص) المعاهدات والأحلاف العسكرية والسياسية والاقتصادية مع بعضهم. ويقول أحد الكتاب في هذا المضمار: «كانت هذه السفارات والكتب النبوية عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية»([36]).
خامساً: تعيين القضاة والولاة ورسم برنامج دقيق لهم في شؤون الإدارة والسياسة والقضاء.
سادساً: إقامة حدود ما أحلّ الله وما حرّم من جزاء وقصاص وفدية… الخ.
سابعاً: وضع اللبنات الأساس للحكومة ودستورها وأجهزتها المختصة ودواوينها الإدارية والعسكرية والمالية والاقتصادية.
وهذه الممارسات تشير بجلاء إلى أن الرسول(ص)، وبحكم موقعه كنبيّ وقائد للأمة، كان يتعاطى العمل السياسي بكل وضوح ونشاط… وبكل ما لكلمة من معنى.
من هنا، فالولاية على البشر تتعلق بالنبي(ص) بعد الله تعالى مباشرة وبأمر منه: ]إنّما وليُّكُمُ الله ورسُلُهُ[([37]) و]النَّبيُّ أولى بالمُؤمنينَ من أنفُسِهِمْ…[ ([38]).
- الإمامة:
بعد وفاة الرسول الأعظم(ص) تحولت الطاعة وولاية الأمر إلى من استخلفه وفقاً للصيغة الشرعية المنزلة من الله: ]أيُّها الذينَ آمنوا أطِيعوا الله وأطِيعوا الرَّسولَ وأوْلي الأمرِ مِنكُمْ…[ ([39]). وانقسم المسلمون بعد وفاته (ص) إلى قسمين رئيسيين… تحولاً فيما بعد إلى مذهبين يلتقيان في الأصول العامة للدين وجميع مكوناته، ويفترقان في بعض الأمور التفصيلية. وتمثلت الولاية والقيادة السياسية على هذا الأساس في رأيين أساسيين:
الأول: هو ما يعرف بـ«الشورى»، وقد تبنّاه بشكل عام أهل السُنّة الذين اعتبروا أن ولاية الأمر بعد الرسول هي للخليفة المنتخب من قبل الأمّة، والذي أفرزته مشاورات بين أهل الحل والعقد. ويكون ولي الأمر (الخليفة) في هذه الحالة رئيساً للدولة الإسلامية، ويقع على عاتقه: قيادة الجيش، وإقامة الحدود، وإدارة شؤون الأمة وتنظيم أجهزة الحكومة.
الثاني: هو «النص»، ويعتبر الشيعة (الإمامية) بأنّ الإمامة هي استمرار للنبوة بجميع وظائفها ومهامها وعصمتها، باستثناء ما يرتبط بالوحي وطريقة الاتصال بالله تعالى، وأمور جزئية أخرى، والإمام هو الذي نُصَ عليه من قبل الله عزّ وجلّ.
ولا يرى الشيعة للانتخاب أو الاختيار اعتباراً ما دام الشخص المنصوص عليه موجوداً على الأرض؛ إذ تمثلت ولاية الأمر والإمامة من بعد النبي (ص) في الإمام «علي بن أبي طالب (ع) وفقاً للوصاية والأمر الإلهي والنصوص المتواترة تعيينه خليفة للرسول ووليّاً للمسلمين كما يعتقد الشيعة. وانتقلت الإمامة بالطريقة ذاتها إلى الأئمة من بعده، وآخرهم الإمام المهدي المنتظر «محمد بن الحسن العسكري» الذي غاب بإذن الله، وما زال حيّاً يرزق (على رأي الغالبية العظمى من المسلمين)، وسيظهر بأمر الله تعالى لينشر القسط والعدل في الأرض بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. والإمام ـ في اعتقاد الشيعة ـ هو المرجع الديني والروحي للمسلمين والقائد السياسي والزمني لهم. والدليل الموجب لوجوده والنص عليه هو الدليل والسبب نفسه الذي دعا لبعث الأنبياء وإرسال الرسل. والأئمة: «هم أولوا الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وإنهم الشهداء على الناس، وإنهم أبواب الله والسبيل إليه والإدلاّء عليه، وإنهم غيبة علمه، وتراجمه وحيه، وأركان توحيده وخزان معرفته… وإنّهم الذينَ أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»([40]).
وعلى الرغم من أن الأئمة (ع) لم يتسلّموا مباشرة زمام الحكم بعد رحلة النبي(ص)؛ فقد بقي الأئمة في مركزهم الطبيعي، وأصبحوا الرمز الحقيقي والتجسيد العملي للتحرك التغييري ورفض كل ألوان الانحراف والظلم والاستغلال. ولسنا هنا بصدد الاستدلال على إثبات أحد الرأيين (الشورى، والنص) أو نفيهما، ففي ذلك يمكن مراجعة عشرات الكتب والمجلدات التي كتبت في هذا الشأن. ونرى من خلال ما تقدم، بأن القيادة السياسية والولاية انتقلت من النبي(ص) إلى الأئمة (عليهم السلام) الذين استخلفهم من بعده، بغض النظر عن بعض التباين الوارد بين المذاهب الإسلامية، كما سلف.
4- ولاية الفقيه:
بعد انتهاء عصر الإمامة بغيبة الوصي الثاني عشر؛ كان لابدّ من نيابة خاصة وعامّة للامام (ع) تتجسد فيهما ولاية الأمر وقيادة المجتمع. ووفقاً لتوصيات الرسول الأعظم (ص) واشارات الأئمة … فإن الولاية والمرجعية العظمى يجب أن تتمثل بالعلماء في عصر الغيبة: «…إنما يخشى الله من عباده العلماء…»[1]. وقال النبي (ص): «علماء امتي كانبياء بني اسرائيل»[1] وفي رواية اخرى: «أفضل من أنبياء بني اسرائيل»، و«الفقهاء أمناء الرسل».[1] وقال الإمام علي (ع): «العلماء حكام على الناس»[1]
ويتحمل المجتهد الفقيه الجامع للشرائط أعباء القيادة السياسية والمرجعية الكبرى في الفتوى والتقليد، والتي يتميز بها المسلمون الشيعة عن إخوانهم السنّة، ويستدل الشيعة (الامامية) بوجوب تقليد المجتهد والرجوع إلىه في مختلف الشؤون الحياتية بحديثي الإمام «الحسن بن على العسكري» و«محمد بن الحسن» المهدي المنتظر. يقول الامام العسكري (ع): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»[1]، وجاء عن الإمام المهدي (عج): «وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثي، فإنّهم حجتي علىكم، وأنا حجة الله علىهم».[1]
من هنا؛ فالفقهاء هم مراجع الدين وولاة الامور وساسة العباد بعد الأئمة، ولهم الفصل في القضايا والحكم على الناس. ولابدّ في عصر الغيبة من مواصلة العمل لتطبيق حكم الله وحدوده على الأرض ورعاية مصالح الأمة دينياً وزمنياً. والفقيه الذي يتصدى للمسؤولية الأولى، وينهض بأعباء التحرك السياسي، وتتمثل فيه المرجعية المطلقة، ويجمع المسلمون على قيادته، فإنه يعتبر الحاكم الأعلى للأمة في مختلف مجالاتها، ويجب على الجميع إطاعته والتسليم له، مادام يسير وفق الخط الأصيل. وهوالمكلّف أيضاً بالسعي لاقامة الدولة ورئاستها… كجزء من واجباته باعتباره نائباً للامام وخليفة للرسول (ص). ولا يشترط في الفقيه أن يكون من الاقليم الفلاني أو القومية الفلانية، بل إن لجميع المسلمين الحق في تسلّم مهام القيادة ورئاسة الدولة إذا توفرت في أحدهم المواصفات المطلوبة (التي سيأتي ذكرها)، وكذلك الحال في مسألة الانقياد والاتباع. ولابدّ أن تتجسد ولاية الفقيه العامة، في شخص واحد، تبعاً لحكمي العقل والنقل؛ فلا يجوز مطلقاً مزاحمة الولي في ولايته العامة.[1]
الحكومة الإسلامية
بديهية ضرورة الحكومة (بمفهومها العام) في المجتمع الإنساني أمر اتفقت علىه البشرية بمفكريها وعامّتها[1] مند سالف الأزمان. فهي حقيقة علمية وحاجة موضوعية مسلّم بها. أما الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر، فقد كانت إلى ماقبل سبع سنوات تقريبا مجرّد نظريات وأفكار مطروحة في الكتب والأذهان، بينما يرى الإسلاميون أن إقامتها أمر ضروري وجوبي لا مناص منه، فالإسلام في تكوينه التشريعي ومحتواه القانوني الذي يشمل المجالات الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية كافة، لا يمكن أن يتعدى حدوده النظرية دون الاعتماد على أجهزة تنفيذ وحكم تضمن بسط الأحكام والقوانين الإسلامية على الواقع العملي. كما أن الدولة في الإسلام هي من قواعد النظام الاجتماعي، والكفيلة بنشر القسط والعدل بين المجتمع البشري، وانهاء حالة الفوضى التي ما شأنها خلق حالات سلبية خطيرة، كالتشتت والفرقة وفقدان الراعي. ولا يمكن للإسلام أن يقرّ مثل هذه الحالات بأي شكل من الأشكال.
وتجمع الادلة على ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية، اضافة إلى ما يفرضه العقل السليم والواقع نكتفي بالإشارة إلى خمسة منها:
أولاً: الأمر الإلهي: يأمر الله تعالى في الكثير من آيات الذكر الحكيم بتشكيل الحكومة والإدارة، من أجل تطبيق ما أنزله من قوانين وأحكام: «…ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».[1]«إنا أنزلنا إلىك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس…»[1]، والذي أنزله الله هو الاسلام ودستوره العام (القرآن الكريم). والآيات المتقدمة تؤكد بوضوح ضرورة اقامة حكم الإسلام.
ثانياً: سيرة الرسول: سنة الرسول (ص) وسيرته حجة على المسلمين وهي من مصادر التقنين والتشريع. والرسول (ص) أول من أسس الحكومة (كما مرّ سابقاً) وعل على تطبيق احكام الله، وأمر بذلك أيضاً.
ثالثاً: ضرورة وجود السلطة التنفيذية: من أجل أن يكون القانون الاسلامي مادة لاصلاح البشر واسعاده فإنه يحتاج إلى سلطة تنفيذية وأجهزة حكومية وإدارية إذ لا ينفع التشريع وحده دون أن تعقبه سلطة تنفيذية، فهي التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل للاسلام.[1]
رابعاً: ضرورة الاستمرار في تنفيذ الأحكام: ان ضرورة تنفيذ الأحكام لا تقتصر على عصر النبي (ص)، بل الضرورة مستمرة حتى يوم يبعثون، لأمن الاسلام لا يحدّ بزمان ولا بمكان. وإذا كان حلال محمد (ص) حلالاً إلى يوم القيامة وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجيز أن تعطّل حدوده وتهمل تع إلىمه، ويترك القصاص والدفاع عن الأمة الاسلامية ومقدّراتها. ولا يمكن أن تكون القوانين التي صدع بها الاسلام وجهد في نشرها وبيانها وتنفيذها محدودة بفترة معينة. فهل حدّد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ وهل يعمل الناس بعد ذلك بما يشاؤون؟. إن من يؤمن بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية إنما ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الاسلام أصلاً ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وينكر بالتالي شمولية الدين الاسلامي وخلوده.[1]
خامسا: طبيعة القوانين الاسلامية: ماهية قوانين الاسلام تدلنا على أنّها جاءت لتكوين دولة، فيها ادارة، وفيها اقتصاد سليم، وفيها حركة واعية. والأحكام الشرعية فيها من القوانين المتنوعة مايضمن اسعاد البشر واقامة نظام اجتماعي متكامل تسد في ظله جميع حاجات الانسان. وعند امعان النظر في حقيقة هذه الاحكام، كالم إلىة والدفاعية والقضائية ــ مثلاً ــ نرى أنها تبقى معطلة تماماً بدون أجهزة ذات قوة واقتدار كافيين لوضعها موضع التطبيق العملي.[1]
ومن نتائج غياب الوجود الحكومي للاسلام؛ تمكن ارباب الكفر والحقد على اثارة الشبهات وكيل الاتهامات والافتراءات ضد الدين الحنيف، والهجوم علىه بكل قوة وسهولة، دون أن يملك المسلمون ازاء هذه الحالة من أمر الدفاع عن تراثهم ووجودهم وفكرهم شيئاً، اللهم إلا النزر الىسير. قال تعالى في محكم كتابه الكريم: «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون»[1]
ومن مهام الحكومة الاسلامية الأساس تطبيق التعالىم القرآنية والشرعية… بالشكل الذي يضمن تحقيق الرقى والرفاه المادي والمعنوي لأبناء الأمة، والدعوة للاسلام ومحاولة نشر تعاليمه إلى العالم (أم ما يعرف بمبدأ تصدير الثورة)، والعلمل الجاد من أجل بناء الحكومة العالمية الواحدة. وبكلمة اخرى، فإن الحكومة الاسلامية ليست غاية في نفسها، إنما هي مجرد وسيلة ذات قيمة نيلة، باعتبارها تسعى لتأمين الهدف السامي، الذي هو تعبيد البشر لله واخراجهم من عبادة المخلوقات إلى عبادة المصور الاعظم.
أما شكل الحكم الاسلامي أو بنيته النظامية فقد مرّ في مراحل متعددة، ابتداء من عهد الرسول الاعظم (ص) والخلافة الراشدة، ومروراً بالدول التي اصطبغت بصبغة الاسلام، الاموية والعباسية والفاطمية والعثمانية… ووصولاً إلى الدولة الاسلامية الحالية (في ايران)، فضلاً عن التجارب الأخرى في بقع مختلفة من العالم الاسلامي، هذا، إذا ما أغضينا عن الأخطاء الفاحشة التي بنيت علىها دول الامويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين، والانحرافات الخطيرة التي اصيبوا بها.
وقد تطورت هيكلية الدولة الاسلامية من فترة إلى اخرى، حتى تبلورت في النظام الاسلامي الحاضر الذي يجسد الصورة الحية لبنية الادارة الحديثة. (انظر المخطط رقم 1).
شروط الحاكم الاسلامي
يشير الامام على (ع) في احدى خطبه إلى طبيعة عمل الحاكم الاسلامي وما يجب أن يتميز به من مواصفات: «اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك… لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذو قوماً دون قومٍ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»[1]
وقد اتفق معظم علماء الاسلام ومفكروه على جملة من السمات والمميزات التي يجب أن يتمتع بها مراجع المسلمين وولي أمرهم، أهمّها:
1- الفقاهة: فضلاً عن الأحاديث والروايات الواردة في ضرورة كون ولي الأمر فقيهاً عالماً بشؤون الشريعة، فإنّ في الفقيه من المميزات العلمية والاجتهادية ما يكفيه للاستنباط والافتاء في مختلف مجالات الأحكام الاسلامية، والمعرفة الكاملة بأسرار القوانين الشرعية.
2- الكفاءة: وهو من الضرورات الطبيعية التي يفترض توفّرها في كل حاكم، فضلاً عن الحاكم الاسلامي. والكفاءة هنا تعبير شامل يعني القدرة الكاملة على الادارة والتدبير والشجاعة والجرأة، والفهم الشامل لشؤون العصر والواقع الانساني، والوعي السياسي والاجتماعي، والخبرة الكافية في كل ما يمت بصلة إلى عمله.
3- العدالة: وتشمل التقوى والنزاهة اللازمتين للحكم بين الناس بالقسط بعيداً عن الاهواء والتأثيرات الذاتية والخارجية. وما لم يكن الحاكم الاسلامي مخلصاً صادقاً هارباً من شهواته ونفسه الأمارة بالسوء، ومبتعداً عن الصغائر والمعاصي، فإنه لا يستطيع نشر هذه المفاهيم الفاضلة في أوساط الأمة؛ إذ أن فاقد الشيء لا يعيطه.
4- الذكورة: التركيبة الفسيولوجية والسايكولوجية للرجل أهّلته لهذا المنصب الحساس، الذي بفرض القيمومة والقوة وتحكيم العقل «الرجال قوامون على النساء»[1]، بالإضافة إلى ما جاء في الأحكام الإسلامية بشأن القضاء والفتوى والشهادة والإرث. ولا يعني هذا بأي شكل من الأشكال أن الإسلام يظلم المرأة أو يزدريها أو ينظر إلىها نظرة احتقار وصغار، بل هو نابع تماماً من مبدأ وضع المناسب في المكان المناسب، وتقسيم إدارة المجتمع وشؤون الأسرة البشرية.
5- الأعلمية: يشترط بعض الفقهاء في كون الأعلمية تدخل ضمن مجال التفقه واستنباط الحكم الشرعي، بينما يرى الآخرون بأن الأعلمية يقصد بها الامتياز بالدراية الفائقة بشؤون الحكم والسياسة والفهم الاجتماعي، بالشكل الذي لا يتوفر في الآخرين.
6- البلوغ: المعني به التمييز الكامل، وتخطّي مرحلة الصبا من الناحيتين البايولوجية والرشد.
7- العقل: أي؛ سلامة التفكير وعدم الجنون.
8- الحرّية: إذ لا يمكن للعبد أو المملوك الذي لا يملك حتى من أمره شيئا أن يملك أمر الناس.
9- طهارة المولد: أي أن يكون ذا ولادة طيبة لا ابن زنا أو بغاء.[1]
10- سلامة الأعضاء والحواس: أن يكون سالم الجسم صحيحاً، ليس فيه عاهة في أحد الأعضاء وحواسه، مما يعيقه عن ممارسة مهماته.
خصائص النظرية الإسلامية
للمدرسة السياسية في الإسلام عدّة خصائص ومميزات تختلف فيها عن سائر المدارس السياسية الوضعية الأخرى، نظراً للطبيعة الدينية التي تنحصر فيها. ومن جملة هذه الخصائص:
1- الإيمان بالغيب:
الغيب هو الأساس الأهم الذي تقف علىه دعائم الإسلام «الذين يؤمنون بالغيب»[1] والسياسة، باعتبارها أحد المجالات التي يشملها الاسلام، لا تهمل مطلقاً في حساباتها الجانب الغيبي، فالسياسي المسلم يعتمد –مثلاً- في عمله على الله ويتوكل علىه في كل حركة وسكنة. وفي حسابات الربح والخسارة لا يركز على العوامل المادية أو الدنيوية، بل يضع الدفع الإلهي وإليد الغيبية نصب عينه دائماً. ولا يعني هذا بأي شكل من الاشكال ترك العمل والتحرك، والنتظار رحمة الله وعنايته فقط، بل لابدّ من التخطيط الدقيق والبرمجة والاجتهاد والمثابرة، إلى جانب التوكل على الله والتماس تسديده «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون…»[1]
2- العالمية:
الدين بطبيعته يرفض مختلف المسميات الموضوعة، كالقومية والعرقية والاقليمية وما شابه.ولذا، فإن الدعوة الاسلامية لا تنحصر في جماعة أو قبيلة أو جنسية أو لون، بل هي دعوة عالمية اممية لا تعرف الحدود والحواجز: «قل يا ايها الناس اني رسول الله إلىكم جميعا…»[1]، «وما ارسلناك الا كافة للناس…»[1]، «وما ارسلناك الا رحمة للعالمين»[1]
والانتماء للاسلام؛ انتماء حقيقي لا شكلي، يمزق فيه الانسان كل اردية الجاهلية والعصبية والانتساب لغير دين الله وشرعه وأوامره. يقول الرسول الاعظم (ص): «ايها الناس، ان الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها. ألا إنكم من آدم وآدم من طين»[1]، «ألا ان خير عباد الله عبد اتقاه… لا فضل لعربي على اعجمي ولا احمر على أسود الا بالتقوي»[1]؛ فالسياسة الاسلامية سياسة عالمية ودعوة اممية تهتم بجميع المسلمين وبلدانهم في كل أرجاء الأرض على اساس الإخوة في الله والدين، وتنظر إلى البشرية نظرة واحدة على اساس التماثل في الخلق.
إن العودة الغريبة للاسلام ولقوانينه إلىوم لم يألفها أحد بعد. فالدفاع عن حقوق المسلمين في بلد ما يتصوره بعضهم تدخلاً في شؤون تلك البلاد. أو ان الدفاع عن الدولة الاسلامية ودعمها والانتساب لها والولاء لولي الأمر من قبل مسلمين في بلاد اخرى يتخيلونه ارتباطاً سياساً أو ذيلية أو خيانة أو ماشابه، بينما يفرض التصور الاسلامي أن يكون جميع المسلمين كالجسد الواحد والبنيان المرصوص، وك إلىد الواحدة على من سواهم، يمرون بمشاكل متماثلة، ويعانون آلاماً متشابهة، ويتطلعون إلى آمال واحدة على من سواهم. ولا يقف الاسلام عند هذا الحد، بل يتخطاه إلى دعوة المجتمع البشري بلا استثناء للانضواء تحت لوائه وتأسيس دولته العالمية.
3-ارادة الأمة وحقوقها:
الأمة في ظل القانون الاسلامي تتمتع بكامل حقوقها وفي جميع المجالات الحياتية، ولها السيادة والحاكمية المطلقة على نفسها في ضوء التشريع الالهي. والمدرسة السياسية في الاسلام تمنح ثقتها التامة للامة، وتبذل طاقاتها وقدراتها على العمل والاصلاح. والفرد في اطار الدستور الاسلامي له مطلق الحرية في ممارساته وآرائه، لأنه ولد حراً بفطرته وطبيعته وليس بمستعبد لأي شخص أو كيان: «لا اكراه في الدين…»[1]، «فذكر انما انت مذكر، لست علىهم بمصيطر»[1]
ولكل أفراد الأمة الحق الكامل في الممارسات السياسية وتسنم المناصب الادارية، في حالة توفر الشروط اللازمة فيهم، ولهم حق التعبير عن آرائهم، وتقديم النصح والمشورة، وانتقاد السلطات بشكل مثمر وبنّاء ويعود بالخير على الجميع. وللأمة أيضاً حق اختيار ممثليها في السلطات التشريعية والتنفيذية والمناصب الادارية والقيادية الاخري. وفي المجالات الأخرى كطراز المعيشة والكسب (المشروع) والحياة الخاصة، فإن للفرد الاختيار التام والمجال المفتوح[1] في إطار الشريعة السمحاء. وبكلمة اخرى، فإنّ ارادة الانسان محترمة بالكامل في اطار التصور الاسلامي، وقوقه مصانة، تماماً، بشرط عدم التأثير على الآخرين وسلب حرياتهم، أو تخطي القانون والعرف العام. كما إن الحرية لا تعني تعريض النظام الاسلامي إلى الخطر والتخريب والسقوط. ويفترض أن تكون المصلحة الاسلامية العامة هي الأساس في ممارسة الحقوق استثمار الحريات.[1]
4- المساواة والعدالة:
نظام العدالة الاجتماعية في الاسلام لا يفرق بين فرد وآخر على أساس طبقي أو قبلي أو عرفي، أو وضع اجتماعي وسياسي واقتصادي معين، ولا وجود للمحسوبية والمنسوبية في هذا المنهج، فالجميع متساوون أمام أي تشريع وقانون، سواء أكانوا ارستقراطيين أم صع إلىك، أثرياء أم معدمين،حكاماً أم محكومين، رؤساء أو مرؤوسسين، أبراراً أم فجاراً: « إلى الله مرجعكم جميعاً…»[1]، ويقول الرسول الأعظم (ص): «ان الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط»[1]، و«الناس سواسية كأسنان المشط»[1]، ويقول الامام على (ع): «الناس إلى آدم شرع سواء»[1].
ولا يمكن أن يكون التباين في المكانة الاجتماعية أو المنصب السياسي أو الوضع الإقتصادي سبباً في التفاضل أمام الدستور الاسلامي، فالجميع مسؤولون ومتعادلون في هذا الجانب، ابتداءً من ولي الأمر ورئيس الدولة وحتى أقل الرعية. وقد اشار دستور الجمهورية الاسلامية في ايران إلى ذلك بوضوح تام: «القائد أو أعضاء مجلس القيادة متساوون أمام القانون مع سائر أفراد الشعب»[1].
ومبدأ التساوي يشمل أيضاً جميع الحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل فرد من أبناء الأمة الاسلامية (رعاة ورعية). وينبع هذا المبدأ من الاسس التي فطرت علىها البشرية وبني علىها الدين الحنيف، الذي جاء لينشر القسط والعدل في الأرض، حيث يتساوى الناس جميعاً في الأصل والتكوين والخلق والمشاعر والحاجات. ومسألة التمييز بين أبناء المجتمع الواحد أمام الشرع إنما هو اعتداء على كرامة الانسان، واحتقار للتشريع نفسه. وكما يقول الرسول (ص) واصفاً المجتمع الجاهلي: «إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا علىه الحد»[1].
5- النزاهة والوضوح:
المدرسة السياسية في الاسلام تتصف بالنزاهة في جميع ممارساتها وتشريعاتها، فلا مجال لأي أسلوب من اس إلىب المكر والخداع والغش، سواء في الوسائل أو في الأهداف. والوسائل والأهداف واضحة وجلية ولاغبار علىها، وهي محددة في القرآن والسنة، لأن القران لا يحدد الهدف وحسب، وإنما يعين المنهج في تنفيذ هذا الهدف وتحقيقه في الواقع. ولابدّ أن تكون الوسائل شريفة مادامت الغايات سامية، لأن الوسيلة ينبغي أن تكون من جنس الغاية.
كما تتميز المدرسة الاسلامية في العمل السياسي بوضوح الرؤية في الفكر أيضاً، فعندما تطرح فكرة أو شعاراً للتبنّي العملي والتطبيق والتنفيذ، فإنّما يكون ذلك بشكل واضح وصريح ومبسط، وتكون الأوامر والتوجيهات الصادرة من قبل المتصدّين للعمل ناصعة تماماً، ولا تقبل التأويل والغش.[1]
والنزاهة والوضوح هما من صميم المنهج الاسلامي في السياسة، ويحث الاسلام على اعتمادهما وتأكيدهما في كل تحرك وممارسة عملية أو رؤية فكرية. ومن خلال تطبيق هذين المفهومين واشاعتهما في أوساط الأمة… تعمّ الثقة وروح التفاؤل والخلوص بين مختلف طبقات المجتمع، وعلى وجه التحديد بين الرعاة والرعية. وهذا هو دين الاسلام ومراده وهدفه السامي.
6-المرونة والثبات:
التشريع الاسلامي يحتوي على أحكام ثابتة لا مجال لتغييرها أو الاجتهاد بشأنها، باستثناء ما يستند فيه على قاعدة (الحرج) في الظروف الشاذة المحدودة، وأحكام اخرى مرنة بنسب متفاوتة يمكن النظر إلىها بتباين نسبي من فقيه إلى آخر. وفي الجانب العملي والممارسات السياسية، فالنظرية الاسلامية تستند على هذه الدعامة الشرعية أيضاً، فالعمل السياسي الاسلامي يرفض تماماً مبدأ الاستسلام والمساومة، ولا يفهم معنى للتعب والكل والتراجع، أو الجبن والتقهقر أما الصعوبات والعراقيل. بل ان المواصلة والحث على تحقق الهدف المنشود وروح الإقدام والتضحية هي من الصفات البارزة التي يتميز بها المبدأ الاسلامي.
ومن اجل بلوغ الاهداف الاساس الثابتة فإنّ النظرية الاسلامية تفسح المجال الكامل للاجتهادات والوسائل والبرامج الموافقة أصلاً لاسس النظرية. فبعض المعاملين الاسلاميين اتخذوا الطريق المسلح من الخطوة الاولى، وآخرون اعتمدوا التثقيف السياسي البحت، ومنهم من دخل في صراعات سليمة للغرض ذاته. وآخرون اعتمدوا الاسلوب التنظيمي المرحلي وهكذا وكل هذه الوسائل شرعية مادامت تتفق مع اصول النظرية الاسلامية التي تعتبر اكثر مرونة في هذا الجانب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
([1]) كليم صدقي ـ الحركة الإسلامية/ص 47.
([3]) أبو الحسن الندوي ـ ما خسر العالم بانحطاط المسلمين.
([5]) النسبة هنا مجازية، ويقصد المتكلم بها عامة الأمة.
([6]) من محاضرة ألقاها سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي في مؤتمر «رابطة الشباب المسلم»، المنعقد في لندن في نيسان 1979/ دروس من الثورة الإسلامية في إيران في حقل الدعوة.
([7]) القرآن الكريم ـ سورة البقرة (آية 85).
([8]) سورة الذاريات/ آية (56).
([10]) راجع المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ الإسلام يقود الحياة/ ص 26 ـ 27.
([11]) سورة آل عمران/ آية (64).
([12]) راجع الحياة ـ الجزء الأول/ ص 248.
([13]) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ المادة الثانية.
([14]) الإسلام يقود الحياة/ ص9.
([17]) سورة الأنعام/ آية (62).
([19]) سورة الأحزاب/ آية (72).
([21]) حول موضوع الاستخلاف راجع بالتفصيل بحث سنن التاريخ لآية الله السيد كاظم الحائري مجلة الحوار الفكري والسياسي العدد (30 ـ 31).
([22]) سورة الأنعام/ آية (165).
([24]) الإسلام يقود الحياة/ ص 135 ـ 136.
([25]) سورة النجم/ آية (3 ـ 4).
([26]) سورة الشعراء/ الآيات (192 ـ 194).
([29]) للمزيد راجع لمحات من الفكر السياسي ـ المركز الإسلامي/ ص 52.
([30]) سورة البقرة/ آية (213).
([31]) سورة النساء/ آية (163).
([32]) الشهيد سيد قطب ـ المستقبل لهذا الدين/ص 22.
([33]) الإسلام يقود الحياة/ص 61.
([35]) سورة الأحزاب/ آية (40).
([36]) عبد الله عنان ـ مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام/ ص 208.
([40]) الشيخ محمد رضا المظفر ـ عقائد الإمامية/ ص 67 ـ 69.
مصادر البحث
- دستور الجمهورية الاسلامية في ايران
- الحكومة الاسلامية، الامام الخميني
- الاسلام يقود الحياة، الشهيد السسيد محمد باقر الصدر.
- أساس الحكومة الاسلامية- السيد كاظم الحائري
- المستقبل لهذا الدين، الشهيد سيد قطب
- الاسلام وأوضاعنا السياسية، الشهيد عدبالقادر عوده.
- المدخل إلى دراسة التشريع الاسلامي-الشيخ محمد مهدي الآصفي.
- حول الدستور الاسلامي، الشيخ محمد على التسخيري
- معالم الحكومة الاسلامية، الشيخ جعفر السبحاني.
- الاسلام فكرة وحركة وانقلاب، فتحي يكون
- من الفكر السياسي، المركز الاسلامي.
اضافة إلى المصادر الواردة في الهوامش.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua