النظام السياسي الإسلامي الحديث بين الديمقراطية والثيوقراطية

Last Updated: 2024/04/07By

النظام السياسي الإسلامي الحديث بين الديمقراطية والثيوقراطية

د. علي المؤمن

منهجيات تعاطي النظام السياسي الإسلامي الحديث مع الأفكار والتجارب التي أنجزها العقل البشري على مر التاريخ، وتحديداً في مجال الاجتماع السياسي، تبقى بحاجة إلى المزيد من التوسع والعمق؛ لتكون بمستوى أهمية الموضوع، وما يمثله من تحدٍ كبير يواجه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وتجربة التطبيق الحالية للنظام الإسلامي المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويمكن أن تكون المعالجات – هنا – خطوطاً عريضة، قادت إلى نتائج أو حقائق موضوعية أساسية، نلخصها في هذه الخاتمة.

الحقيقة الأولى تتمثل بتعدد الخيارات التي تمتلكها البشرية على مستوى النظام الاجتماعي – السياسي، فهي ليست أمام خيارين فقط لا ثالث لهما: الديمقراطية (حكم الشعب) والدكتاتورية (الاستبداد)، فإن لم تحكمها الديمقراطية حكمتها الدكتاتورية والشمولية والاستبداد، أي إن نقد الديمقراطية أو رفضها يعني الدعوة للدكتاتورية، وأن الخيارات الأخرى غير موجودة. هذه الحتمية غير صحيحة نظرياً وواقعياً؛ لأن البشرية تمتلك كثيراً من الخيارات التي تتلاءم والبنية الفكرية والعقيدية والثقافية لكل مجتمع. ولو تم حصر الخيارات أمام مجتمع ما في الديمقراطية والاستبداد، فلا شك في أن خيارها الأفضل هو الديمقراطية وهذا ما ينطبق – بالنسبة للمسلمين – على المجتمعات التي يشكّل فيها المسلمون أقلية، أي المجتمعات غير المسلمة، ولكن المجتمعات المسلمة لديها خيار النظام الإسلامي الذي يتوافق وتكوينها التاريخي وثقافتها ومعتقداتها والتزامها الشرعي.

ولعلّ من المناسب – هنا – الإشارة إلى قضية قد تبرز من بين ثنايا البحث، وهي قضية نقد خيار الديمقراطية بالنسبة إلى المجتمعات المسلمة، فقد لا يكون مستساغاً في الوسط الذي يرى نفسه (مسلماً متنوراً) أن يقوم باحث عرف بانفتاحه الفكري بنقد الديمقراطية فكراً وتجربة، والتوقف عند نظام سياسي إسلامي، مؤصل عقائدياً وفقهياً، إلى مستوى الاستقلالية في المصطلحات والمفاهيم وهياكل السلطة وحركتها، مع الاستفادة من التجارب الإنسانية المحايدة فكرياً، أي التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية والنظرية السياسية الإسلامية، والمنسجمة مع ثقافة المجتمع والناجحة. وكون ذلك النقد قد لا يكون مستساغاً ينطلق من اعتبار أن الديمقراطية فكر (وتجربة في الغالب) قد أصبحت شيئاً مقدساُ، والمخلّص الوحيد من عالم الفساد السياسي والاستبداد والدكتاتورية، والوصفة السحرية لكل عذابات البشرية.

والحقيقة هي أن تحوّل الديمقراطية إلى ايديولوجيا مقدسة في أذهان بعض المثقفين المسلمين، وإلى آلهة تقود حركة الدولة، تجعل من المواطن ضحية اللعبة التي تمارسها الأحزاب والجماعات باسم هذه الآلهة؛ بهدف الإمساك بحركة الدولة. وهذا يقود إلى الحديث عن حقيقة أخرى، تتعلق بالديمقراطية المطبقة في معظم البلدان الإسلامية، فهذه الديمقراطية صورية ولا تشبه الديمقراطيات التقليدية في مضامينها، وفي أشكالها غالباً، بالنظر إلى موقع الدين والشريعة في أنظمة هذه البلدان، وكذلك بالنظر إلى أن المجتمعات المسلمة التي تعيش تكويناً تاريخياً خاصاً، وإرثاً ثقافياً، وبنية فكرية واعتقادية مختلفة عن مجتمعات الديمقراطيات التقليدية، من الصعب فرض الديمقراطية عليها قسراً، فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن تطبيقها إلا في ظل أنظمة ليبرالية رأسمالية علمانية، وهذا لا يشكّل نقصاً في الديمقراطية ولا في المجتمعات المسلمة، وبالتالي ففرض الديمقراطية بروحها وفلسفتها، سيكون ممارسة استبدادية مركّبة، تحقق رغبة الأقلية السياسية الحاكمة، باسم الأكثرية الشعبية المحكومة.

وليس صحيحاً مصادرة الديمقراطية بكل ما فيها من حسنات وسيئات، أو تعارضها أو لقاؤها مع الفكر السياسي الإسلامي؛ بل لا بد من تفكيك عملية النقد، وفقاً للمجتمع السياسي الذي طبّقت فيه أو طبّق جزء منهما أو يراد تطبيقها فيه. فهناك مجتمعات قد تصلح فيها الديمقراطية أو نوع من أنواعها بنسبة 90 بالمائة، وحينها ستكون سلبياتها خاضعة لمستوى التطبيق، أي إن هذه السلبيات ستنخفض إذا ما أحسن تطبيق ذلك النوع من الديمقراطية. وهناك مجتمعات قد تصلح فيها الديمقراطية بنسبة 10 بالمائة فقط، تبعاً لبنيتها وإرثها، حينها ستكون الديمقراطية كارثة على الدولة والمجتمع والمواطن، ولن تكون المساوئ حينها مجرد سلبيات في التطبيق. وستكون الديمقراطية في مثل هذه الدول وهماً، ومفاهيم نخبوية يتشدق بها المثقفون، وآليات تستثمرها العائلات السياسية والاقتصادية (الأحزاب والشركات) لتحقيق مصالحها باسم الأكثرية الصامتة.

وحين يتحدث البحث عن خيارات أمام المجتمعات المسلمة على مستوى الأنظمة الاجتماعية السياسية، فإنه ينطلق من المقاييس البشرية نفسها، وليس من منطلق التكليف الشرعي للإنسان المسلم، إذ لا تتكافأ الخيارات حينها؛ لأن الإنسان المسلم مكلّف بأداء مهمته كخليفة للَّه على الأرض وما يترتب على ذلك من مسؤوليات، وفي مقدّمها تطبيق الشريعة التي أرادها الله للبشرية. وخيار النظام الإسلامي يشتمل على صيغ تعبّد للإنسان طريقه في الدنيا إلى الآخرة، وبالتالي فهو نظام كامل يستوعب كل مجالات الحياة، ويرافق الإنسان من ولادته وحتى موته وبعثه، ولا يقتصر على كونه مذهباً أو نظاماً سياسياً، كما هو الحال مع الأنظمة الوضعية (الأرضية).

ولا يمكن للنظام السياسي الإسلامي أن يكون ديمقراطياً أو دكتاتورياً أو ثيوقراطياً أو أي نظام حكومي آخر، كما لا يمكن أن يكون نظاماً توفيقياً أو توليفياً؛ ليس من منطلق مجافاة الديمقراطية أو معاداة الدكتاتورية والثيوقراطية؛ بل لأن النظام الإسلامي مستقل ومن نوع آخر، ولا يحمل تسمية أخرى غير تسمية «النظام الإسلامي»، وإن اشترك مع بعض الأنظمة الأرضية في بعض المساحات. فلقاء النظام السياسي مع النظام الثيوقراطي في فكرة المشروعية الإلهية لا تجعله نظاماً ثيوقراطياً ولا قريباً منه؛ لأن مفهوم النظام الإسلامي لهذه الفكرة يختلف عن مفهوم النظام الثيوقراطي، فضلاً عن تعارض النظامين في مساحات كثيرة، كدور الأمة ودور علماء الدين وهيكل النظام السياسي وغيرها. كما أن لقاء النظام السياسي الإسلامي مع النظام الديمقراطي في بعض التطلعات والأهداف الإنسانية العامة، وفي المفهوم العام للجمهورية، والحقوق والحريات العامة والسياسية، وغيرها، لا يعني أنه نظام ديمقراطي، إذ إن للنظام الإسلامي رؤى خاصة في داخل مساحات أخرى، كالقواعد النظرية والفكرية، وموقع الدين، وعملية التشريع، ونظام الحكم وغيرها. وكون النظام الإسلامي ليس ديمقراطياً لا يشكّل نقيصة في النظام الإسلامي، وكون النظام الديمقراطي ليس إسلامياً لا يعدّ نقيصة في النظام الديمقراطي؛ لأنهما نظامان مستقلان في فلسفتيهما وقواعدهما الفكرية وكثير من آلياتهما؛ ولأنهما من بيئتين مختلفتين فكرياً وثقافياً واجتماعياً.

ومحور السلطة في النظام الإسلامي لا يشبه – أيضاً – أياً من الأنظمة الأخرى، وإن اشترك مع النظامين الرئاسي والبرلماني في بعض المساحات، فالقائد الولي الفقيه أو الإمام هو محور السلطة في النظام الإسلامي، ومن هنا أطلق عليه تسمية «النظام القيادي». وبذلك يشكّل النظام الإسلامي، على مستوى مناهج العلوم الاجتماعية والسياسية والقانونية إضافة جديدة لمواد «علم الاجتماع السياسي» و«النظم السياسية» و«القانون الدستوري».

ومحاولات التوفيق القسري بين النظام السياسي الإسلامي والأنظمة الأخرى، والخروج بمسميات وأنظمة هجينة، كالنظام الإسلامي الديمقراطي والنظام الإسلامي الثيوقراطي أو الثيوقراطية الإسلامية الديمقراطية، تعنى منهجياً إقحام عقيدة ورسالة سماوية ونظام ديني لتتواءم وتجارب تاريخية وأفكار اجتماعية بشرية. وحتى لو استثمر النظام الإسلامي بعض آليات تلك الأنظمة (الديمقراطية تحديداً)، فلن يكون ذلك مسوّغاً نظرياً وواقعياً للتسمية بأسماء تلك الأنظمة أو إضافة أسمائها إلى النظام الإسلامي. ومن ذلك تشبيه بعض المفكرين والباحثين نظام ولاية الفقيه بالنظام الثيوقراطي ونظام الشورى بالنظام الديمقراطي. والتشبيهان – كما أثبت البحث – يجانبان الحقائق. وعموماً فإن النظام الإسلامي هو الصيغة الإلهية للحكومة البشرية، أو الشريعة في صورتها العملية، كما أرادها الله لأهل الأرض، والله أعلم بمصالحهم، فهو الذي خلقهم وحدد لهم دورهم وشرّع القوانين التي تنظم حياتهم. وبالتالي فإن النظام الإسلامي يستقي غاياته وأهدافه ومنطلقاته الفكرية ومضمونه وشكله وآلية ممارسته للسلطة، من مصدرين مقدسين، هما: القرآن الكريم والسنة الشريفة (سنّة رسول الله وأئمة أهل البيت، وفقاً لرأي مدرسة الإمامة). بينما النظام الديمقراطي تجربة بشرية أنتجتها مناهج خاصة ومصادر مختلفة.

والمعيار في قياس سلامة النظام الإسلامي ليس ديمقراطيته أو مدى تمسكه بالمضامين والأدوات الديمقراطية، وليس المعيار كذلك نجاحه المادي أو عصريته بالمعنى الوضعي للعصرية؛ بل المعيار في قياس سلامة النظام الإسلامي هو مستوى تحقيقه للتكليف الرباني، وانطباق أحكام الشريعة الإسلامية على غاياته وأهدافه وأدائه وممارساته. أي إن الفكر الديمقراطي لا يمكن أن يكون معياراً لتقويم نظام ديني في فكره وأدائه؛ بل وفي تقويم أي نظام اجتماعي بشري آخر، فالديمقراطية ليست نهاية العقل الإنساني لكي تكون خصماً وحكماً وميزاناً. وحتى في المقاييس البشرية، فإن المعيار في تقييم أي نظام اجتماعي وسياسي هو ما يضمنه للإنسان من حقوق وحريات وسعادة وأمان، بالصورة التي تنسجم مع ثقافته وتطلعاته.

والنظام السياسي الإسلامي الحديث يجمع بين أصالة النظرية والتشريع، وعصرية الآليات وأساليب ممارسة السلطة، وهو تعبير عملي عن قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب متطلبات العصر، وعلى الاستجابة لحاجات الإنسان الجديدة، وضمان النظام الاجتماعي الأفضل له، والذي يمكن من خلاله أن يحقق سعادة الدنيا والآخرة. وبذلك يحاول النظام السياسي الإسلامي أن يكون في مضامينه، وأساليبه، وتوازنه، ودور الأمة فيه، متفوقاً على الديمقراطيات التقليدية، حتى بالمقاييس البشرية السائدة. وربما يتفرد هذا النظام في كون الأمة بنفسها هي التي اختارته، كما اختارت ولاية الفقيه والدستور والقادة والمسؤولين، وكان في هذه المجالات وغيرها خيار الأمة الحر، عبر الاستفتاءات والانتخابات العامة.

وقد عمل النظام السياسي الإسلامي الحديث عبر نظريته وفقهه وآلياته على معالجة إشكاليتين جوهريتين في الفكر السياسي الإسلامي الموروث والمعاصر، تعبّر كل منها عن ثنائية مهمة:

الإشكالية الأولى: تتمثل بثنائية الشورى وولاية الفقيه، إذ قدم دستور الجمهورية الإسلامية حلولاً نظرية وعملية مستوعبة لطرفي الثنائية، أعطته صورة نظام ولاية الفقيه القائم على الشورى، سواء المفهوم الموروث للشورى، أي اعتماد آراء أهل الحل والعقد في ممارسة السلطة، أو المفهوم المعاصر له، والذي يرتكز على مقولة الحقوق والحريات العامة للأمة، وفي مقدّمها المشاركة السياسية. وخلاصة صورة هذا النظام هو أنه نظام أفرزته وأقرّته الشريعة الإسلامية، فبات مجسداً لإرادة الشريعة وتعاليمها، ووكيلاً عنها من جهة، ومجسداً لإرادة الأمة وتطلعاتها من جهة أخرى، ومن – هنا – فإن حكومة النظام الإسلامي إذا أخطأت فهو خطأ التطبيق والأداء وليس خطأ الشريعة أو النظرية. أما الحاكم (الفقيه) فإن الشريعة تعيّنه نوعياً وتشير إلى مواصفاته ثم يكشف عنه الناس ويختارونه، في إطار عملية مفاضلة بين الحائزين على هذه المواصفات. وبالتالي فإن النظام الإسلامي هو وكيل الأمة لدى الشريعة وليس وكيل الأمة على نحو مطلق؛ كي يكون التشريع في إطار الشريعة وضوابطها. كما أن ولاية الفقيه تمثل مسؤولية الأمة أمام الشريعة. وفي الوقت نفسه فإن الولي الفقيه مسؤول عن أدائه، إزاء الشريعة والأمة معاً.

الإشكالية الثانية: تتمثل بثنائية الفقه السياسي لمدرسة الخلافة (أهل السنة) والفقه السياسي لمدرسة الإمامة (الشيعة). هنا يمكن القول إن التعبير الدستوري لنظرية ولاية الفقيه والتي ترشّح عنها النظام السياسي الإسلامي الحديث، تمكّن – إلى حد كبير – من التقريب بين المدرستين، بصرف النظر عن الخلافات في المجالين الكلامي والفقهي. والحقيقة هي أن الموضوع الذي له مدخلية كبيرة في الخلاف بين المدرستين يرتبط بالجانب الكلامي، ويتمحور حول موضوع الإمامة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment