النزوع نحو اكتشاف المستقبل

Last Updated: 2024/04/07By

النزوع نحو اكتشاف المستقبل

د. علي المؤمن

هل يمتلك الإنسان القابلية على التحكم بمستقبله ومستقبل الدائرة التي يعيش فيها، أم أنه عاجز عن الإمساك به باعتبار محدودية مداركه وحركته وإرادته؟ وهل التحكّم بالمستقبل مفهوم واقعي، أم أنه يرتبط بقضايا الغيب وحسب؟

الحقيقة أنّ الإجابة عن هذين التساؤلين اللذين شغلا البشرية منذ أن أدركت حاجاتها ووعت قيمة حياتها، لا تتم عبر إطلاق كلمتي: نعم أو لا، وبصورة تنطوي على التعميم والتبسيط؛ لأنّهما تساؤلان يستبطنان العديد من القضايا المركَّبة التي تدخل في حيز العقيدة والكلام والفلسفة والفقه والعلوم الاجتماعية.

وبصرف النظر عن نوع الإجابة النظرية التي تستقل بها كل جماعة بشرية، بحسب رؤيتها الكونية وايديولوجيتها أو قبلياتها العقيدية والمثيولوجية، فإنّ التاريخ الإنساني يؤكد فطرية النزوع العملي نحو اكتشاف المستقبل. فقبل أن يعرف الإنسان أيّ منهج علمي أو معادلة موضوعية بشأن المستقبل، فإنّه سعى إلى التحكم به ومواجهته، من خلال أبسط الأساليب؛ لأنّ هذا الزمن القادم ظل هاجساً ملحاً رافق البشرية في رحلة الحياة، منذ أبعد العصور، لما يشكل من رهان مصيري على البقاء والاستمرار. وظل هذا الهاجس يستبطن مشاعر متناقضة من الأمل والطموح والخوف والتشاؤم؛ لأنّه الكائن المجهول الذي لا بدّ أن يأتي محملاً بالمفاجآت. وعلى هذا الأساس، ظل الإنسان مدفوعاً بفطرته إلى الاستعداد للمستقبل بصورة عملية، ومحاولاً اقتحام أسراره، والتبصر بمفاجآته وخفاياه، لتجنب صدماتها وآثارها السلبية، وتعميق صورها الإيجابية.

وحين توسعت مدارك الإنسان، عمد إلى محاولة اكتشاف مجاهيل المستقبل بمناهج أكثر تطوراً، فابتكر التنجيم والتكهن والتنبؤ وغيرها، حتى أصبح المنجمون والكهنة والمتنبؤون أكثر حظوة لدى الزعماء والشعوب من الصالحين والحكماء والفلاسفة، بل وحتى الأنبياء، بالنظر لما ينطوي عليه اكتشاف المجهول القادم من أهمية كبرى لدى الجميع دون استثناء.

وفي المقابل سعت الأديان السماوية الأُولى إلى صرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في التبصّر بالمستقبل، فوضعت له مناهج تربط المستقبل بالغيب ورؤيا الأنبياء، وتحدد ميدان حركته وفعله في إطار الإرادة الإلهية والجزاء الأُخروي. ثم جاء الإسلام ليختم الرؤية الدينية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، ويمنح الإنسان منهجية صادقة في التعرف على المستقبل، ويدفعه نحو البناء والتقدم والنهوض الذي يحقق له هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة، والكدح لملاقاة الرب الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

بيد أنّ المسلمين في عصور التراجع والانكفاء انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، التي أدّت بهم إلى ألوان بشعة من التنكر للحاضر والمستقبل، والتشبث غير الواعي بالماضي.

ولم يكن الحكماء والمؤرخون وعلماء الطبيعيات بمعزل عن محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد انتهت محاولاتهم إلى وضع معادلات ومعايير، تنطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهر علم التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأُوروبية والتقدم، وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة. ورغم أنّ الدراسات المستقبلية التي برزت في (منظومة الشمال) تمسكت في مبادئها النظرية بسنن التاريخ وفلسفة التقدم ومعايير التطور وفقاً لنظرة علمية إستراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، إلّا أنّ الدافع والغاية النهائية والمحرك يبقى ذاته الذي دفع الإنسان الأول إلى اكتشاف المستقبل؛ والذي تغير إنّما هو المناهج والأهداف التفصيلية، على اعتبار أنّ النهضة الحديثة لمنظومة الشمال حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية خاضعة لتصورها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.

وباتت الدراسات المستقبلية رهان الغرب في السيطرة على المستقبل، بل عدّها “آلفن توفلر” ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات في المستقبل، وأطلق عليها تسمية (إستراتيجية البقاء)، وكأنّه يريد القول: إنّ المجتمع الذي يفتقد التخطيط الإستراتيجي في إطار دراسة المستقبل دراسة علمية معمقة، ومواجهة متغيراته، هو مجتمع لا يريد البقاء، أو أنّ احتمالات بقائه ستتقلص بشدة، إذ إنّ موجات التغير السريعة وصدماتها المتلاحقة، ستسحق هذا المجتمع بعجلاتها الرهيبة. وهذا التحذير رغم منطلقه المادي الدنيوي، فإنّه تعبير آخر عن سنة كونية قائمة، وكما يقول الإمام علي(ع): ((من استقبل الاُمور أبصر، ومن استدبر الاُمور تحيَّر)).

وبالنتيجة، فإنّ الإنسان الذي يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد لنفسه مكاناً حتى في الهامش؛ لأنّ البقاء في الهامش سيكون بقرار من دائرة التحكم، التي يمسك بها من استقبل الأُمور وأبصرها وعرف الزمان واستعدّ له.

ولا يمكن للاستعداد للمستقبل أن ينجح بأساليب عفوية ودراسات عشوائية آنية، أو بالوعظ والإرشاد والحديث عن الآمال والأماني، بل بمناهج علمية مستقاة من رؤيتنا الكونية التوحيدية، ومن أُصولنا الإسلامية، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها. وإذا كان الغرب قد ابتكر الدراسات المستقبلية (Future Studies) وفقاً لتصوره وغاياته، فإنّه بذلك ينسجم مع تطلعاته وما يريده من المستقبل. من هنا، تتعمق نقطة الافتراق مع المستقبلية الإسلامية في المنطلقات والمحركات والغايات.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment