المرجعيات الشيعية المطلقة المعاصرة

Last Updated: 2024/04/07By

المرجعيات الشيعية المطلقة المعاصرة

د. علي المؤمن

لعل وحدة القرار المرجعي القوي الذي يؤدي ــ عادة ــ الى وحدة قرار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقدرته على مواصلة عملية النهوض، هي في مقدمة القضايا التي يبقى النظام بحاجة إليها في حاضره ومستقبله. فالضرورات العقلائية المرتبطة بالشأن التدبيري والإداري والقيادي، تقود الى أهمية أن يكون للمجتمع الشيعي في الجانب الزمني الدنيوي، أي الشأن العام، زعيماً واحداً أو مديراً مدبراً كفأً واحداً، وهي غير القضايا العلمية والفقهية الكثيرة المختلف عليها وفيها، ويتم تناولها بحرية كاملة وانفتاح، ويكون التقدم والتفوق فيها للرأي الأرجح عادة، وهذا هو سبب حيوية الفقه الشيعي، وفيه يمارس جميع الفقهاء والمراجع أعمالهم العلمية والدينية والاجتماعية الى جانب المرجع الأعلى المتصدي بمطلق الحرية. أما وحدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وعالميته وتماسكه؛ فإنها تتطلب أن يكون هناك فقيه واحد يدير النظام أو فقيهين في مكانين مختلفين حداً أعلى، لا أن يكون لمائة فقيه الصلاحيات نفسها في الشأن العام في زمن واحد ومساحة حركة واحدة.

وهذه القضية التنظيمية التدبيرية الإنسانية العقلائية لا يحتاج إثباتها الى عناء، فضلاً عن عدم تعارضها مع الأصول الشرعية، وهو ما تعارفت الحوزة العلمية على تسميته بالمرجعية المطلقة، أي المرجعية الواحدة المتفردة في قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو مفهوم عرفي لا يوجد له مصاديق في الواقع الشيعي دائماً، إنما تمر بعض الفترات التي تكون فيها ثنائية مرجعية قيادية، كما هو الحال منذ نهايات العقد العاشر من القرن الماضي وحتى الآن، بوجود المرجعيتين الأكبر اللتين تتشاركان قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، والمتمثلتين بمرجعيتي آية الله  السيد علي السيستاني و آية الله  السيد علي الخامنئي.

ولا شك أن استشراف مستقبل المرجعية الدينية العليا، من ناحية المصاديق؛ من الأمور التي ظلت تشغل الساحة الشيعية بعد العام 2010، وخاصة بعد تعرض المرجعين الأكبر السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي الى أكثر من وعكة صحية. ويتركز الحديث غالباً عن المرجع أو المراجع الذين سيأخذوا مكانهما، أو بالأحرى المرجع الشيعي المطلق الذي سيتزعم النظام الاجتماعي الديني الشيعي وزعامة الحوزة العلمية، وهو احتمال يبقى ضعيفاً، بناء على معطيات الحاضر، لأن مستقبل ما بعد السيستاني والخامنئي لن يشي بظهور مرجع واحد مطلق، يسد فراغهما، فضلاً عن أن يكون شبيها ببعض المراجع المعاصرين الراحلين الذي تفردوا بزعامة الطائفة الشيعية زعامة مطلقة وتقليد أغلبية الشيعة ولا يكون له منافس أو شريك في مساحات التقليد والزعامة الدينية، في البلد الذي يقيم فيه والبلدان الأُخر. ، وتحديداً المراجع الأربعة: السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني (ت 1946)  والسيد حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1961)، والسيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1970)، والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1992)، الذين لم تتوافر فرصة المرجعية المطلقة خلال القرن العشـرين الميلادي إلّا لهم، من بين عشرات مراجع الدين والفقهاء البارزين.

ومجموع الفترة التي كان فيها للشيعة مرجعاً مطلقاً خلال القرن الميلادي العشرين تبلغ (35) عاماً فقط، وهي الفترة التي تزعّم فيها هؤلاء الأربعة الواحد تلو الآخر الطائفة الشيعية. بينما كان هناك مرجعان أو ثلاثة يشتركون في الوقت نفسه في مساحات التقليد والزعامة، خلال فترة الأعوام الـ (65) الأُخر. وما يلي نبذة عن هؤلاء المرجعيات المطلقة الأربعة؛ بهدف تكوين صورة واضحة عن مفهوم المرجعية المطلقة:

1 ـ السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني في النجف الأشرف، وقد تزعم الشيعة بعد وفاة المرجع الأعلى الشيخ فتح الله الإصفهاني (شيخ الشـريعة) في العام 1935، والشيخ الميرزا محمد حسين النائيني في النجف الأشرف في العام 1936، ثم الشيخ عبد الكريم الحائري في قم في العام نفسه. وقد استمر الإصفهاني زعيماً مطلقاً للشيعة مدة عشـر سنين، أي حتى وفاته في العام 1946.

2 ـ السيد حسين الطباطبائي البروجردي في قم، تزعم الشيعة بعد وفاة السيد أبو الحسن الإصفهاني في النجف الأشرف في العام 1946، وبقي زعيماً مطلقاً للطائفة مدة أحد عشر عاماً، أي حتى تبلور زعامة السيد محسن الحكيم في النجف في العام 1958. وبقي المرجعان (البروجردي والحكيم) شريكان في زعامة الشيعة وموقع المرجعية العليا لمدة ثلاث سنوات تقريباً، أي حتى وفاة السيد البروجردي في العام 1961؛ إذ ثنيت الوسادة بعد ذلك إلى السيد محسن الحكيم.

3 ـ السيد محسن الطباطبائي الحكيم في النجف الأشرف، تزعم الشيعة بعد وفاة السيد حسين البروجردي في قم في العام 1961 والسيد عبد الهادي الشيرازي في النجف الأشرف في العام نفسه، بعد أن كان السيد الحكيم يشارك السيد البروجردي الزعامة الدينية. وبقي السيد الحكيم زعيماً مطلقاً للطائفة من العام 1961 وحتى وفاته في العام 1970؛ أي لمدة تسع سنوات.

4 ـ السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في النجف الأشرف، تزعم الطائفة بعد وفاة السيد محسن الحكيم في العام 1970 والسيد محمود الحسيني الشاهرودي في النجف الأشرف في العام 1974. واستمرت زعامته المطلقة خمس سنوات، أي حتى بروز المرجعية الكبيرة للسيد روح الله الخميني بعد العام 1979 في قم، بل في أنحاء إيران، الأمر الذي أدى إلى تناصف السيد الخوئي والإمام الخميني المرجعية الدينية العليا للشيعة لمدة عشر سنوات. وبعد وفاة الإمام الخميني في العام 1989، برزت المرجعية الكبيرة للسيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني في قم لتتناصف المرجعية العليا مع السيد الخوئي، واستمر الوضع هذا حتى وفاة السيد الخوئي في العام 1992.

وكانت مرجعية السيد الخوئي آخر مرجعية شيعية عالمية مطلقة، وقد استمرت بالتفرد بالزعامة الدينية حتى العام 1979، ولم يتفرد بعدها أي مرجع ديني بالزعامة الدينية للشيعة. فبعد وفاة الإمام الخميني في العام 1989 والسيد الخوئي في العام 1992؛ برز عدد من المرجعيات الكبرى في قم والنجف وطهران، كالسيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني في قم، والسيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، والسيد علي الحسيني السيستاني في النجف الأشرف، والسيد علي الحسيني الخامنئي في طهران؛ لكن أيّاً منها لم تتفرد بالزعامة الدينية للشيعة في العالم.

وسبق أن حصل هذا التناصف أو التقاسم في المرجعية العليا خلال مراحل أُخر من القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. فبعد وفاة المرجع المطلق السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء العام 1889؛ توزعت المرجعية العليا بين أكثر من مرجع، ثم تبلورت في بداية القرن العشرين بين مرجعيتين عالميتين متشاركتين في النجف الأشرف، هما مرجعية الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي. وبعد وفاة الشيخ الخراساني في العام 1908 لم يتفرد السيد اليزدي بالمرجعية العليا؛ إذ برز الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي مشاركاً معه. وبعد وفاة المرجعين خلال سنة تقريباً، برز الشيخ فتح الله الإصفهاني مرجعاً أعلى في النجف الأشرف، ولكن كان ينافسه مراجع آخرون. وبقي الحال على ما هو عليه حتى تفرد السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني بزعامة الطائفة في العام 1936؛ فكان أول مرجع ديني يتفرد بزعامة شيعة العالم منذ وفاة السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي في العام 1889، والذي كان آخر سيد للطائفة في القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد مدة (47) عاماً، لم تجمع خلالها الشيعة على زعيم واحد.

والحديث عن المرجعيات المطلقة ليس حديثاً عن ظاهرة فكرية أو نهضوية، وليس مقارنة بين إنجازات المراجع أو زعاماتهم النهضوية والسياسية وحجم تضحياتهم، ولا عن قومياتهم وجنسياتهم أو عن العلاقة بين حوزتي النجف وقم؛ بل عن حلقة تاريخية معاصرة من حلقات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، اكتسحت خلالها المرجعيات الشيعية الأربع المذكورة ساحات التقليد والنفوذ الديني في عموم العالم، ولا سيما الساحات الشيعية الكبرى، والتي تشمل بلداناً ذات كثافة سكانية شيعية كبيرة، كالهند وباكستان وإيران، والتي تضم لوحدها (200) مليون شيعي تقريباً، إضافة إلى العراق وتركيا ولبنان والخليج وروسيا وآذربيجان وباقي دول التواجد الشيعي؛ لتكون هذه الحلقة أُنموذجاً لفهم طبيعة التفرد والتعددية في المرجعية العليا.

ولا يعني تفرد السيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد حسين البروجردي، والسيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي بالمرجعية العليا في فترات زمنية محددة من القرن العشرين الميلادي، لا يعني عدم وجود مراجع دين كبار آخرين معاصرين لهم، يقلدهم عشرات ملايين الشيعة في العالم؛ لكن هذه المرجعيات الرديفة لم تتفرد بالزعامة الدينية للطائفة على مستوى العالم. وهناك من المؤرخين من يرى أنّ بعض هذه المرجعيات الرديفة تفردت في وقتها بزعامة الطائفة، كالشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني، والسيد محمد كاظم اليزدي، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محمود الشاهرودي، والإمام الخميني. وكما ذكرنا؛ فإنّ عدم التفرد بالزعامة الدينية الشيعية لا علاقة له بأعلمية المرجع وجهاده وتضحيته ودوره النهضوي وكفاءته القيادية ووعيه وحركيته. فالإمام الخميني ـ مثلاً ـ رغم أنّه الزعيم المطلق للنهضة الشيعية الإسلامية المعاصرة، ومؤسس العصر التاريخي السادس من عصور الشيعة الستة؛ لكنه لم يتفرد بالزعامة الدينية المحضة؛ بمعني أنّه لم يتفرد بساحات التقليد في كل العالم؛ بل كان يتناصفها في الأعوام 1979 إلى 1989 مع السيد الخوئي، إلى جانب مراجع كبار آخرين كالسيد الگلپايگاني، الذي كان حينها بمثابة زعيم الحوزة العلمية القمّية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment