المجتمع الشيعي الإيراني

Last Updated: 2024/04/07By

المجتمع الشيعي الإيراني

د. علي المؤمن

يُعدّ المجتمع الشيعي الإيراني تاريخياً، ثالث مجتمع يعتنق التشيع، بعد مجتمعي الحجاز والعراق، وهو في الحال الحاضر الكتلة السكانية الشيعية المنظمة والنوعية الأكبر، وهو حلقة الوصل الفاعلة بين شيعة شرق وشمال آسيا، وخاصة شيعة الهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان والقوقاز، والشيعة العرب، وخاصة شيعة العراق والخليج ولبنان، وبكلمة أُخرى؛ فإنّ المجتمع الشيعي الإيراني هو الجامع المشترك بين الشيعة الفرس والشيعة العرب؛ بالنظر لما يضمه من مشتركات إنسانية واجتماعية وثقافية مع الطرفين.

ويتداخل المجتمع الشيعي الإيراني مع المجتمع الشيعي العراقي تداخلاً كبيراً، على المستويات الإنسانية والاجتماعية والثقافية. وينطوي هذا التداخل، المتفرد ربما على مستوى العالم، على مفارقة متعارفة في معادلات علم الاجتماع الديني؛ فالمجتمعان الشيعيان العراقي والإيراني هما الأكثر قرباً من بعضهما، والأكثر تكاملاً وتكافلاً وتبادلاً للحماية والدعم، في المجالات الدينية والسياسية والمالية وغيرها، ولكن، في الوقت ذاته، هما الأكثر تنافساً في المجالات نفسها. ويعود هذا التنافس إلى كونهما المجتمعين الأكثر أهمية وفاعلية وإنتاجاً على المستوى المذهبي، ويتمتعان بالمؤهلات العلمية الدينية والاجتماعية الدينية المتشابهة التي لا تتوافر في غيرهما من المجتمعات الشيعية. وهذا التنافس ظل ـ دائماً ـ دافعاً للفاعلية والإنتاج الكمي والنوعي من المجتمعين، كما ظل أيضاً عرضة للاستغلال من الخصوم، من أجل ضرب المجتمعين.

ويتميز المجتمع الشيعي الإيراني، منذ العصـر البويهي وحتى الآن، بأنّه مجتمع الدولة، وقوام الاجتماع السياسي للبلاد، وهو ما لا يتوافر في أي مجتمع شيعي معاصر آخر. كما تتميز جغرافيا المجتمع الشيعي الإيراني بأنّها ـ منذ العصر الأُموي ـ مأوى للشيعة العرب، وخاصة ذرية رسول الله وأئمة آل البيت، المهاجرين إليها تخلصاً من قمع السلطات الأُموية والعباسية والعثمانية وما تلاها من حكومات محلية طائفية، ولذلك؛ يشكل الإيرانيون من أصل عربي، بمن فيهم العلويون (السادة)، نسبة كبيرة جداً من عدد سكان إيران، وفق تجارب فحص الـ DNA.

ولم يشكل المجتمع الإيراني حماية اجتماعية شاملة للشيعة العرب الفارين وحسب، بل كان يدعو البارزين من العلويين (السادة) ـ أعني المنتمين نسبياً إلى الإمام علي بن أبي طالب ـ المهاجرين إلى التصدّي لقيادته الدينية والسياسية. ولذلك، كانت الدولة العلوية في طبرستان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، والتي أسسها الإيرانيون بقيادة العلويين المهاجرين، أول دولة شيعية في التاريخ (بعد دولة المختار في العراق)، وتلتها دول أُخر كثيرة. وظلت الدولة الإيرانية منذ العصـر البويهي، دولة شيعية بكل تفاصيلها العقدية والسياسية، وبكل ممارستها ومظاهرها. وتكرس ذلك بعد بدء العصـر الصفوي، ولا يزال، وهو ما جعل المجتمع الإيراني يعيش حالة المواطنة بشكل طبيعي، دون أي تمييز مذهبي، ولا يعاني من الفصام الاجتماعي السياسي مع الدولة.

کما يتميز المجتمع الشيعي الإيراني بقدرته على الإدارة الحكومية وعلى التخطيط والنفوذ، وهو يستحضر خبرته التراكمية التي تعود إلى العصر الذي كان فيه الفرس والرومان يتقاسمان النفوذ في العالم، كما تتغلب فيه صفات الصبر والنفس الطويل والعمق والحكمة والدقة في العمل، والتريث في رد الفعل. وتتمازج هذه الصفات، الخاصة بالمناخ الاجتماعي الإيراني، مع الصفات العامة التي ينزع إليها عموم الشيعة، وفي مقدمتها النزعات العاطفية الشديدة والوجدانية. وهذه السمات الخاصة والعامة بمجموعها، تجعل المتخصصين يعتقدون بأنّ المجتمع الشيعي الإيراني هو بمثابة العقل المركزي للشيعة. وقد أصبح التشيع بالنسبة للفرد والمجتمع الإيراني، بمرور الزمن، هويةً متكاملة على كل الصعد الاجتماعية والثقافية والعبادية والعقدية والسياسية، وليس مجرد هوية مظهرية وعقدية وعبادية، على العكس من المجتمعات الشيعية التي تعاني القمع، والسبب يعود الى الوحدة التكاملية بين السلطة الشيعية التراكمية والأكثرية السكانية الشيعية الساحقة، وهي ثنائية لا يحظى بها أي مجتمع شيعي آخر، وإن باتت المجتمعات العراقية بعد العام 2003، واللبنانية بعد العام 2006، واليمنية بعد العام 2012، تقترب من هذه الظاهرة، لكنها لاتزال بحاجة الى مزيد الوقت.

ويُعدّ المجتمع الشيعي الإيراني ـ منذ قرون ـ المصدر الرئيس لتمويل المرجعية والمؤسسة الدينية الشيعية وإعمار المراقد والمزارات، ودعم عموم النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وتلعب أسواق (بازارات) طهران وتبريز ومشهد وإصفهان وتجارها دوراً رئيساً في هذا المجال، ويساعد على ذلك تشجيع السلطة السياسية في إيران، منذ العصـر البويهي، للتجار الإيرانيين، بدعم مؤسسات النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment