المجتمع الديني النجفي

Last Updated: 2024/04/07By

المجتمع الديني النجفي

د. علي المؤمن

في إطار الاجتماع الديني الشيعي العراقي، هناك اجتماع ديني شيعي متفرد وأكثر خصوصية، وهو الاجتماع الديني النجفي، وهو الاجتماع الذي يتمدد في بنيته وظواهره على الاجتماع الديني العراقي نفسه، وتجاوزه غالباً، بوصفه اجتماع العاصمة الدينية العلمية التاريخية للشيعة في العالم. ولذلك، فإنّ التعرف على بنية الاجتماع الديني النجفي وظواهره العامة والخاصة، تسهل معرفة خصوصيات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنّ الحضور المركزي المتجذر لرأس المنظومة (المرجعية الدينية) وجهازها الديني العلمي (الحوزة العلمية) في البيئة الجغرافية السكانية للنجف الأشرف؛ حوّل ظواهر الاجتماع النجفي المتراكمة إلى جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الديني الشيعي بصياغته التاريخية والعالمية، كما جعل سوسيولوجيا النجف واحدة من أعقد السوسيولوجيات في العالم؛ إن لم تكن هي الأعقد.

إنّ الاجتماع الديني النجفي هو اجتماع عالمي بعناصره الإنسانية والفكرية والميثولوجية، وبثقافته الاجتماعية؛ أي أنّ تكوينه الإنساني تكوينٌ عالمي؛ لأنّ النجف تحوّل تلقائياً إلى أرض هجرة مكثفة، منذ تمركز الحوزة العلمية فيه قبل حوالي ألف سنة، والتي حوّلت جغرافيا النجف إلى مركز جذب واستقطاب قوي للشيعة من كل أنحاء العالم لدراسة العلوم الدينية، بفضل مؤسسها الشيخ الطوسي، القادم من مدينة مشهد الإيرانية. فضلاً عن أنّ وجود مرقد الإمام علي ظل محور استقطاب للشيعة أيضاً، لا سيما مع ظهور العمارة الأُولى للمرقد على يد آل شهريار، الأُسرة العلمية القادمة من مدينة قم الإيرانية، والتي أسست لنظام السدانة للمرقد، وظل أفرادها سدنة له طوال قرنين تقريباً.

وفي الوقت نفسه كانت هناك أُسر عربية عراقية، ولا سيما تلك التي تعود جذورها إلى عشائر الكوفة والحيرة، وكذا البغدادية التي انتقلت مع الشيخ الطوسي، تمارس دورها في المساهمة بتأسيس حاضرة النجف. ثم أعقبها هجرة أفراد من القبائل النجدية والحجازية، والذين تحوّلوا إلى أُسر نجفية كبيرة. وهكذا كان للأُسر الإيرانية والعراقية والنجدية والحجازية الفضل في تأسيس الاجتماع الديني النجفي. وبرغم أنّ الانتماء الاجتماعي لهذه الأُسر كان حضرياً وريفياً وبدوياً، إلّا أنّ طابع الاجتماع البدوي تكرّس في النجف بمرور الزمن وبتكاثر هجرة القبائل النجدية والحجازية؛ بسبب وقوع النجف على حافة مجموعة بوادي شاسعة، هي بادية النجف الممتدة إلى بادية السماوة، وبادية الأُردن الممتدة إلى بادية كربلاء وغرب العراق والشام، وبادية نجد الممتدة إلى بادية الحجاز.

وقد كانت القبائل البدوية العربية التي سكن بعض أبنائها النجف؛ قبائل نجدية وحجازية سنية غالباً، ثم تحولت إلى التشيع بفعل قناعتها الدينية بالمذهب، وليس بالوراثة؛ ما جعلها أُسراً شيعية متدينة. وظلت هذه الأُسر ذات الأُصول البدوية تشكل الحماية المسلحة للنجف، بعد أن تركت الترحال واستقرت، واشتغل أبناؤها غالباً في التجارة والكسب، مع احتفاظهم بكثير من عادات البدو وتقاليدهم، ولم يدخلوا الحوزة العلمية إلّا نادراً. ولعل أغلب أُسر طرف (محلة) «المشراق» وطرف (محلة) «العمارة» تعود جذورها إلى هذه القبائل.

في حين كانت الأُسر الإيرانية، الشيعية أساساً، تهاجر إلى النجف لطلب العلم الديني ودخول الحوزة العلمية غالباً، وليس من أجل الاستقرار المعيشي؛ أي أنّها أُسر متدينة بالأساس. أمّا العشائر والأُسر العراقية، سواء الحضـرية أو الريفية، والشيعية أصلاً أو السنية المتشيعة؛ فإنّ هجرتها إلى النجف كان لأسباب دينية غالباً؛ أي طلباً للعلم أو مجاورة مرقد الإمام علي. وهذا لا يعني أنّ بعض أبناء الأُسر ذات الأُصول البدوية لم يدخلوا سلك طلبة العلوم الدينية، أو أنّ بعض أبناء الأُسر الإيرانية لم يدخلوا معترك التجارة والكسب والمهن. واستمر الاجتماع الديني والسياسي والثقافي النجفي في حالة مخاض طوال خمسة قرون، بسبب التحولات الديموغرافية فيه؛ حتى أخذ يتبلور خلال القرون السادس عشر إلى الثامن عشر الميلادي.

الذي أُريد قوله: إنّ الطابع الديني التأسيسي للنجف بفعل هجرة المتدينين الشيعة إليه؛ بهدف مجاورة مرقد الإمام علي أو دراسة العلوم الدينية، أو بفعل هجرة السنة المتحولين إلى التشيع، جعل مظهره الاجتماعي مظهراً دينياً؛ وليكون مجتمعه هو مجتمع الحوزة العلمية والمرجعية الدينية. هذه المعطيات تقود إلى مجموعة نتائج:

1 ـ إنّ الأُسر المؤسِسة للنجف هي أُسر عراقية وإيرانية ونجدية وحجازية غالباً. أمّا المهاجرون الآخرون من باقي بلدان العالم؛ كالبحرين ولبنان وأفغانستان والهند وتركيا والقوقاز؛ فقد هاجروا في مراحل لاحقة، وكان دورهم في تشكيل المجتمع النجفي محدوداً.

2 ـ قام الاجتماع الديني النجفي العالمي على قاعدة إذابة القوميات والوطنيات لمصلحة المذهب ومجتمع المذهب (الطائفة)؛ فالمهاجرون الذين ينتمون إلى عشرات القوميات والوطنيات، تعايشوا ابتداءً، ثم تجانسوا، ثم تضامنوا، ثم ذابوا ببعضهم؛ ليشكلوا نسيجاً اجتماعياً واحداً لا يمكن التمييز فيه بين العربي النجدي البدوي، والفارسي الخراساني الحضري، والعراقي الفراتي الريفي. ولذلك، تتفرد النجف في القابلية على إذابة عادات المهاجرين وتقاليدهم بعد مرور فترة على استقرارهم فيها.

3 ـ إنّ الأُسر التي شكّلت المجتمع النجفي هي أُسر متدينة أساساً، أو تزامن تدينها مع استقراها في النجف. ولذلك، ظلت جزءاً من الحوزة العلمية والمرجعية النجفية، أو أنّها حليفة للحوزة والمرجعية وحامية لهما.

4 ـ كانت الأُسر الفاعلة اجتماعياً هي الأُسر ذات الأُصول البدوية غالباً. لذلك، ظل طابع البداوة هو الغالب في النجف؛ لكنها بداوة من نوع خاص، أي أنّها بداوة بمظهر حضري وثقافة مذهبية وسطية، وهو ما انعكس أيضاً على طبيعة الشخصية النجفية: العاطفية، الطيبة، الكريمة، الصاخبة، المتهورة في شجاعتها، المسكونة بنزعة التفوق والتميز. ويمكن تلمس هذه المواصفات بشكل جلي في طبيعة مراسيم إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في النجف.

5 ـ إنّ الاندماج بين أفراد الأُسر النجفية من الكَسَبة والتجار وعلماء الدين، والمصاهرات والشراكات الاجتماعية بينهم؛ تجعلهم يعرفون خصوصيات بعضهم الآخر، ويتعاملون على أساسها تلقائياً؛ فهم ينشؤون معاً ويلعبون معاً ويكبرون معاً. لذلك، تظل نظرة الكاسب النجفي إلى الفقيه النجفي هي نظرة الصديق والند والنظير، بعيداً عن حالة القداسة للزي الديني غالباً، على عكس نظرة أبناء المجتمعات الشيعية الأُخر إلى الزي الديني. وقد استثمر الشيوعيون والبعثيون الوجه السلبي لهذا الواقع؛ لضرب وحدة المجتمع النجفي، إذ كان الشيوعيون النجفيون أول من جرّأ الناس على العلماء وطلبة الحوزة في النجف، ثم سار البعثيون النجفيون على خطاهم، ولكن بقسوة أكبر ومساحة أوسع.

6 ـ إنّ أضلاع مثلث الرمزية في المجتمع النجفي، هم:

  • الرمز الديني: ابن الحوزة، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) الدينية، أو ما يصفه بعض المتخصصين بالأرستقراطية الدينية.
  • الغني: ابن السوق، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) التجارية والمالية، أو ما يسمى الأرستقراطية المالية.
  • الوجيه: ابن الطرف (المحلة)، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) الاجتماعية، أو ما يسمى بالأرستقراطية الاجتماعية.

وقد ظل الوجيه (ابن الطرف)، والغني (ابن السوق) يحميان الرمز الديني (ابن الحوزة)، ويحافظان على وجود الحوزة ومنتسبيها؛ سواء بدافع المصلحة الدنيوية أو دافع العاطفة الدينية أو دافع مشاعر حماية الجار، ولا يسمحان بالتجاوز على الحوزويين القادمين من خارج العراق أو من خارج النجف (المهاجرين). ولكن هذه الحالة العامة لم تكن تمنع بروز حالات خاصة محدودة؛ ركز عليها الشيوعيون والبعثيون، ولا يزالون منذ أربعينات القرن الميلادي العشـرين، والمتمثلة بالاعتداء والتجاوز على الحوزة العلمية ومنتسبيها، بدوافع إيديولوجية وسياسية. ولذلك، ينبغي هنا الإشارة إلى حقيقة مفصلية تتمثل في مخاضات الاستحالة الاجتماعية التي لا يزال النجف يعاني منها منذ العام 1958، بفعل سياسات الحزبين الشيوعي والبعثي في فرض وقائع اجتماعية قسرية جديدة عليه؛ بهدف ضرب المجتمع النجفي في صميم تركيبته التاريخية الموروثة، والتي ظلت تشكل الحماية الاجتماعية للمنظومة الدينية الشيعية طوال عشرة قرون.

ومن المناسب ـ أيضاً ـ أن نعيد هنا ذكر مفارقة تاريخية، وهي أنّ حاضرة النجف الأشرف وحوزتها قد أسسهما الشيخ الطوسي المشهدي الإيراني في العام(449 هـ/ 1057 م)، وكان سدنة الروضة الحيدرية (مرقد الإمام علي بن أبي طالب) ورؤساؤها آل شهريار القمّيين الإيرانيين؛ فإنّ حاضرة قم وحوزتها أسسهما آل الأشعري الكوفيين العراقيين في العام (73 هـ/693 م)، وحوّلوها من قرية فارسية سنية إلى حاضرة عربية شيعية، وكان جميع علمائها الأوائل من الكوفيين العراقيين، وأبرزهم: الشيخ أحمد بن إسحاق الأشعري الكوفي، الذي كان يسمى «شيخ القمّيين».

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment