القضية المهدوية أحد عناصر قوة الشيعة

Last Updated: 2024/04/07By

القضية المهدوية أحد عناصر قوة الشيعة

د. علي المؤمن

المهدوية ليست قضيةً نظريةً أو ثانويةً من منظار الإسلام، بل هو مبدأ عقدي ديني أساس من جهة، وواقع اجتماعي ديني قائم من جهة أخرى، فضلاً عن حضوره العميق في الفكر الديني والفكر الإنساني على حدٍّ سواء. والبحوث التي تتناول موضوع المهدوية، وخاصة في إطار مدرسة آل البيت، على مختلف مناهجها، ليست بحوثاً نظرية ترفية، ولا تهدف الى الجدل الفلسفي والكلامي، لأن الإيمان بالإمام المهدي هو امتداد للإيمان بأصل الإمامة الممتدة عن أصل النبوة، والموصول بأصل الربوبية والإلوهية.

وإذا كان مبدأ المهدوية عند أغلب مدارس المسلمين، وكذا الأديان الأخرى، السماوية والأرضية، التي تؤمن بعودة المخلص وظهور المنجي، هو مبدأ نظري وموضوع كلامي؛ فإنه بالنسبة لمدرسة آل البيت مبدأ عقدي وواقعي؛ فالمهدي في عقيدة الإمامية له اسم وسلسة نسب وتاريخ ولادة وتاريخ غيبة، وله سفراء ووكلاء وصِلات ولقاءات وأحاديث ورسائل في غيبته الصغرى، وله امتداد موضوعي على الأرض في غيبته الكبرى، ممثل بنوابه العامين، وهم المحدثون والفقهاء العدول. وهذا الامتداد هو الذي أشاد هيكل النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده هؤلاء النواب، والذين منحهم الأئمة ولاية الفتوى والقضاء والحسبة والمال الشرعي والحكم في عصر غيبة الإمام المهدي، أي أنّ وجود الإمام المهدي لا يتعلق بالمعتقدات النظرية والجدلية لمدرسة آل البيت وحسب، بل يرتبط ارتباطاً مباشراً بالاجتماع الديني لأتباعها، وبحياتهم اليومية، لأنه هو الذي يمنح النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، شرعية الوجود والعمل.

وككثير من المعتقدات الدينية المستندة ـــ في إيمان المؤمن بها ـــ الى قاعدة الغيب: ((الذين يُؤمنون بالغيب))؛ فإن الأصل في الإيمان بوجود الإمام المهدي الغائب، وإنه حي يرزق، وبظهوره وعصره، هو الإعجاز الغيبي. وحقيقة الأمور الغيبية هي في علم الله، ويبقى العقل البشري قاصراً عن معرفة حقيقة حكمته في خلقه وشرائعه وعقائده، وفي الظواهر التي يتحكم بها، كما أن العقل قاصر عن فهم ملايين الظواهر الكونية والأرضية، بل قاصر عن التوصل الى حل أبسط المشاكل التي لا تزال تقض مضجع البشرية. وعدم رؤية الظواهر والوقائع، وعدم الإحساس بآثارها أو عدم فهم أسرارها، لا يعني عدم وجودها وعدم فائدتها وعدم أهميتها، بل يعني أن عقلنا لم يتوصل بعد الى وعيها وحل ألغازها وأسرارها. أما لماذا لم يتوصل العقل البشري؛ فهي حكمة أخرى وسر آخر من أسرار الله في خلقه، و((عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)) أو ((عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم))، وهما قاعدتان لا يختلف عليهما عاقلان.

ويؤمن المسلمون، بما شرّعه الله في كتابه الكريم، وبما أشار إليه الحديث من عقائد وأحكام، ويتعبدون بها، حتى وإن لم تتوصل عقولهم الى إدراك أسرارها، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها سر بعثة الرسول الخاتم في مكة وليس في الهند مثلاً، وأن هذا النبيَّ عربيٌّ وليس صينياً، وأن نسله من بنته السيدة فاطمة وليس من أولاده الذكور الذين درجوا في حياته. ثم أسرار واقعتي الإسراء والمعراج وحقيقتهما، وحكمة أن عدّة الصوم ثلاثين يوماً وليس عشرين يوماً، وأنه يقع في شهر رمضان وليس شعبان، وأن صلاة الصبح ركعتان والمغرب ثلاثة وليس العكس، وأن الطواف حول الكعبة سبعة أشواط وليست خمسة، وأن عدد أئمة آل البيت إثنا عشر وليسوا تسعة.

نعم؛ هناك آراء كثيرة حول أسرار هذه الوقائع والمعتقدات والأحكام وعللها ومقاصدها، لكنها ليست بالضرورة كاشفة عن العلة الحقيقية التي يعلمها الله فقط، ولم يتوصل العقل الى حكمتها حتى الآن. وبما أنّ جوهر الدين هو الإيمان بالغيب والإعجاز الإلهي؛ فيجب أن يتعبّد المسلم بكل أحكامه ومعتقداته، وليس ببعضها دون الأُخرى ((وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلّا هُوَ)). وبالتالي؛ تأتي المقاربات البشرية، عبر الأدلة النقلية أو العقلية والفلسفية، للتوصل النسبي الى عللها وكنهها وحقائقها وآثارها، ومنها موضوع الإمام المهدي، وهو ما اجتهد فيه كثير من علماء المسلمين والباحثين، منذ بدء غيبته الصغرى في العام 255 ه وحتى الآن.

وإذا كانت الأدلة النقلية التي تتطابق مع عنصر الإعجاز الغيبي، تؤكد أن الوجود الزمني للإمام المهدي في عصر الغيبة واجبٌ، وظهوره حتمي، وعصره لابدّي، وأن عدمه ممتنع ومحال، وأن حالات نظيرة أخرى، لاتزال قائمة أيضاً منذ آلاف السنين، كعمر نوح وغيبة الخضر وعروج عيسى، وأن الخضر حي يرزق في الأرض؛ فإن الأدلة العقلية، الكلامية والفلسفية، بما فيها الدليل الاستقرائي؛ تقود الى أن غياب الإمام المهدي وطول عمره ممكن، ولا يتعارض مع الفرضيات العقلية والفلسفية، بل أنها تعضِّد وجوده وظهوره.

وفي النتيجة؛ فإن القضية المهدوية ليست قضية نظرية، بل هي قضية ميدانية حاضرة في الواقع الشيعي بأغلب تفاصيله؛ فالقيادة المرجعية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، تستند في نشوئها ووجودها إلى مبدأي نيابة الإمام والولاية الممنوحة للفقيه، وهما يرتبطان ارتباطاً مباشراً بالقضية المهدوية.  ويتلخص الأصل التشريعي لنشوء قيادة النظام الشيعي في عصر الغيبة، في تفويض الإمام المهدي ـ خلال غيبته ـ للفقهاء بأنّ ينوبوا عنه في الزعامة الدينية والاجتماعية للشيعة، لحين عودته، وهو أساس رجوع الشيعة إلى الفقهاء والولاء لهم، وأنّ الخروج عليهم هو خروج على الإمام الغائب. وفضلاً عن هذا التولي؛ فإنّ تكليف الشيعي خلال عصر الغيبة، هو التمهيد لعصر الظهور، عبر مختلف الوسائل، ولا سيما التمهيد الإيجابي الذي تكرس في الفكر والواقع الشيعيين خلال المئة عام الأخيرة، والذي يتمظهر في التمهيد العلمي والثقافي والتكنولوجي والسياسي والعسكري.

هذا الواقع الجديد الذي خلقه مبدأ نيابة الإمام؛ يقود الى أهمية معرفة الفرق بين المهدي عند الشيعة والمهدي عند السنة؛ فهناك فرق جوهري كبير في الموضوع المهدوي بين السنة والشيعة؛ فالشيعة يؤمنون بظهور مهدي له اسم، أبوه معروف، سلسلة نسبه معروفة، تاريخه معروف، له حضور واقعي، في حين أن السنة يؤمنون بظهور مهدي، ولكن من هو هذا المهدي؟ ما هو تاريخه؟ ما هو نسبه؟ والأهم من كل ذلك ماهي صلاحياته ودوره في فترة غيبته؟. كل هذه الأمور لا تجيب عليها المذاهب السنية.

الأمر الآخر؛ إن المذاهب السنية لا تربط مستقبلها ولا نظامها الاجتماعي الديني بشخصية الإمام المهدي الغائب، وإنّما تربط كيانيتها ونظامها الاجتماعي الديني بالمؤسسة الدينية الحكومية القائمة في أي عصر ومكان، بينما يربط الشيعة شرعية وجود نظامهم الاجتماعي الديني بمبدأ الإمامة، وعبر هذا القائد الغائب، الذي ترك فيهم نواب خاصون أربعة ووكلاء، ثم نواب عامون بعد انتهاء عصر الغيبة الصغرى.

وقد ظل هذا العنصـر يتعرض لحملات كبيرة من التشويه والتشكيك والنفي، سواء من المذاهب الإسلامية الأُخر، رغم أنّ القضية المهدوية قضية إسلامية عامة، ولا تخص مذهباً دون آخر، أو من بعض العلمانيين الشيعة الذين يرون فيها قضية غير محسوسة وغير مقبولة عقلاً. إلّا أنّ المستهدف من وراء التشكيك بالعقيدة المهدوية ونفيها، ليس الجانب العقدي والنظري، بل الملازمات الواقعية للقضية المهدوية، بوصفها عنصر دعامة أساسية للواقع الشيعي، وأنّ انهيارها يعني انهيار ركيزة قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهذا هو الهدف المطلوب عند خصوم الشيعة.

ولكن هل ستنهار المرجعية الشيعية بانهيار العقيدة المهدوية؟ يعتقد خصوم الشيعة بأن أقصر طريق لضرب التشيع وتدمير النظام الاجتماعي الديني الشيعي، هو طريق ضرب العقيدة المهدوية، كونها تمثل القوام التشريعي لوجود المرجعية الدينية، التي هي الزعامة الدينية الاجتماعية للشيعة وقيادة نظامهم الاجتماعي الديني، استناداً الى مبدأ نيابة الفقيه عن الإمام الغائب، وأن أسهل طريق لضرب العقيدة المهدوية هو نفي حقيقة ولادة الإمام المهدي. أي أن نفي ولادة الإمام المهدي سيؤدي الى انهيار العقيدة المهدوية، لانتفاء وجود المهدي أساساً، وانهيار العقيدة الإمامية الإثني عشرية، وانهيارها يؤدي حتماً الى انهيار منظومة المرجعية الدينية الشيعية، باعتبارها تنوب عن الإمام المهدي في غيبته، وأن انهيار منظومة المرجعية، سيؤدي الى انهيار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وأن انهيار هذا النظام يعني تشرذم الشيعة عقدياً وفقهياً واجتماعياً، وبالتالي؛ نهاية التشيع وطائفته الاجتماعية، أي الشيعة.

لذلك؛ نشاهد تركيزاً خلال العقود الماضية على ضرب العقيدة المهدوية عند الشيعة، من خلال نفي وجود الإمام المهدي، وأنه لم يولد، وقد صدرت عشرات الكتب والدراسات، وأُقيمت عشرات الندوات والمؤتمرات لهذا الغرض، وأُنيط ببعض ذوي الأصول الشيعية، من علمانيين ومتحولين، مهمة الكتابة والحديث في الموضوع، لاعتقاد خصوم الشيعة بأن ذوي الأصول الشيعية ربما يكونون أكثر تأثيراً في الرأي العام الشيعي، من الخصوم الطائفيين التقليديين.

والحقيقة أنّ هذا السيناريو لا يصمد أمام العوائق، لأن المرجعية الدينية ونيابة الفقيه عن الإمام، ليست نيابة عن شخص الإمام المهدي حصراً، بل هي نيابة عن منظومة الإمامة برمتها، وهي امتداد لمنظومة الإمامة واستمرار لها في عصر غيبتها؛ إذ أنّ أحاديث وراثة العلماء للأنبياء وحاكمية المحدثين والفقهاء ونيابة الفقهاء عن الإمام، سابقة لعصر الإمام المهدي، كما في روايات الرسول محمد: ((العلماء ورثة الأنبياء))، والإمام علي: ((العلماء حكّام على الناس))، والإمام الصادق: ((فإني جعلته عليكم حاكماً))، والإمام العسكري: ((فعلى العوام أن يقلدونه))، حتى أنّ علماء الحديث يضعِّفون الحديث الصادر عن الإمام المهدي خلال غيبته الصغرى: ((فإنهم حجتي عليكم))؛ ما يعني أن ما يعتد به من الأحاديث التي تؤكد موقع الفقيه وولايته، وكونه مرجعاً دينياً وزمنياً للشيعة، لم تصدر عن الإمام المهدي، وهي سابقة عليه بفترات زمنية طويلة، وأن أحاديث الأئمة بهذا الشأن كانت عامة، ولم تخصص النيابة عن شخص الإمام المهدي.

وإذ تؤكد الأدلة، الروائية منها والتاريخية، ولادة الإمام المهدي وحياته، ومنها أدلة لقائه سفراءه الأربعة وبعض صحابة الإمام العسكري خلال غيبتة الصغرى؛ فإنّ الجدال في وجوده الإمام المهدي خلال غيبته الصغرى لمدة (72) عاماً، لا معنى له. أما اختفاؤه عن أعين عامة الناس، بعد وفاة أبيه الحسن العسكري وبوصيته؛ فهو أمر طبيعي جداً، كاختفاء آلاف الزعماء والمجاهدين والمطارَدين سنين طويلة في السراديب أو في البراري أو في الأماكن النائية، اتقاء شر السلطة أو من يطاردونهم.

وقد يُشكل بعض الباحثين على إمكانية استمرار حياة الإمام محمد بن الحسن المهدي بعد نهاية غيبته الصغرى، أي بعد بلوغه (72) عاماً، وأنه ربما توفي بعدها، وهو أمر بايولوجي طبيعي، دون الحاجة الى كرامة وإعجاز. وبغض النظر عن تعارض هذا الإشكال مع الثابت من الأدلة الروائية، ومع موضوع الإعجاز والحكمة الإلهية الغيبية؛ إلّا أنها، كغيرها من الفرضيات، لا تتعارض مع مبدأ نيابة الفقهاء عن الإمام أو عن منظومة الإمامة بكلمة أدق، ولا تؤثر في الأصل التشريعي للنيابة وتطبيقاتها، ولا تخل في العقيدة الشيعية الإمامية الإثني عشرية، ولا في قيادة الفقيه للشيعة ونظامهم الديني الاجتماعي.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment