الفهم غير التخصصي للدين

Last Updated: 2024/04/07By

الفهم غير التخصصي للدين

د. علي المؤمن

فهم مصادر الدين وما ينتج عنها من عقيدة وأحكام، لا يتم وفق المزاج والميول والرغبات ونمط الحياة، بل من خلال التخصص في معرفة مراد النص ودلالته، وفق قواعد منهجية علمية، تسمى العلوم الإسلامية.

مصدر الإسلام الأساس ومنزِّله هو الله (تعالى)، وفهم الإسلام محصور بقصد الله فقط، وهو المعيار حصراً، ولا مدخلية لقصد الإنسان وأهدافه وتمنياته وميوله واستحساناته في ذلك. وينتج عن هذه الحقيقة أن المعرفة الشرعية تحتاج الى تخصص عميق في فهم قصد الشارع ونصه المقدس والصحيح من سنة نبيه وأهل بيته.

وتزداد أهمية التخصص كلما تراكمت المعرفة الدينية وازدادت الحاجة الى علوم وأدوات جديدة في الفهم الديني، وهو ما يتناسب طردياً مع الابتعاد عن عصر النص. وكما لا يجوز الاستهانة بأي تخصص علمي إنساني؛ فلا يجوز أيضاً الاستهانة بعلوم فهم الدين، في حين تجد أشخاصاً لا يتمتعون بأدنى مستوى من التخصص العلمي الديني؛ يفسرون القرآن والحديث، ويلغون وينفون ويثبتون وينسخون ما يعجب أمزجتهم من الآيات والأحاديث، ويجتهدون في الأحكام، ويقدمون نظريات وطروحات في القضايا العقدية والشرعية والفكرية.

صحيح أن هناك قراءات وتفسيرات واجتهادات وأفهام بشرية، وهو حق كفله الله للإنسان، ليجتهد ويؤول ويفسر؛ لكنها قراءات المتخصصين حصراً، لأن قراءة الدين (نصوصه وأدوات قراءاتها) عمل تخصصي عميق، ولا يمكن أن يخرج عن المنهج الديني ومقصد الدين وفلسفته الإلهية.

والاختلاف في الاجتهادات والقراءات بين المتخصصين لا يعد مثلبة في الدين أو المتدينين، بل هو أمر طبيعي، خاصة مع عدم وجود نص في الواقعة والموضوع، وهو كأي اختلاف بين المتخصصين في العلوم والمعارف الأخرى. فضلاً عن أن اختلاف القراءات بين المتخصصين لا يصل الى الثوابت، أي كليات العقيدة والشريعة وأحكامها العامة التي فيها نصوص قطعية، بل في الموضوعات المتغيرة والجديدة ذات الأحكام الظنية التي يتوصل اليها علماء العقيدة والفقه وفق معايير علم العقيدة واشتراطات عملية الاجتهاد. وهذه القراءة تعبر عن بذل المتكلم والفقيه جهدهما ووسعهما للتوصل الى قصد الشارع أو ما يعرف بالحكم الظاهري. ولا يعني ذلك القطع أو الجزم بالتوصل إليه، لا سيما مع عدم وجود نص، لكنه في الحد الأدنى يمثل مقاربة تخصصية عميقة، وليست عشوائية أو ارتجالية أو مزاجية. أما القطع أو الحكم الحقيقي فلا يتوافران إلّا للمعصوم.

وحيال هذا الجهد العميق الذي يبذله المتخصص، بهدف براءة الذمة الشرعية؛ يمكن تفسير المأثور: ((إن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر))(1)، أي أن الخطأ والصواب مقيدان بالفقاهة والاجتهاد، أي القدرة على استنباط حكم الشرع من مصادره وعبر أدواته التخصصية، وليس باب الفتيا أو البت في المسائل العقدية والفقهية مفتوحاً دون ضوابط، وهو ما أكد عليه المأثور: ((من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه))(2).

ولذلك؛ لا خيار إلّا بالأخذ بالقطع النسبي (القطع بالنسبة للفقية والظن بالنسبة للحكم) الذي ينتجه المتخصص (عالم الكلام والفقيه). وهذا اللون من القطع النسبي يتوافر عند المتخصص حصراً، لأنه بذل الوسع والجهد عبر استخدام أدوات التخصص المنتزعة من جنس الموضوع، للتوصل الى قصد الشارع والحكم الحقيقي، سواء في الموضوعات العقدية أو الفقهية، وحينها يكون فهمه مبرأً لذمته وذمة المكلف الذي يرجع إليه.

قراءة الدين دون تخصص علمي ومعرفي، أو من خلال منهج وضعي (لاديني)، ثم الاستناد اليه في تحديد فهم المسائل العقدية أو الفقهية؛ هو عبث بالمعايير العقلية قبل النقلية، وشبيه بفهم غير الطبيب بالحالات المرضية؛ فالطبيب (المختص) الذي يبذل جهده لتشخيص المرض (معرفة الموضوع)، ثم يشخص علاج المرض (حكم الموضوع)، ويصف الدواء وطريقة استخدامه (يشرح مضمون التكليف وشكله)؛ ربما يخطئ في التشخيص والوصف، ولكن لا خيار غير الاتكال على فهمه، لأنه طبيب مختص، وضرره خطئه غير المقصود أقل بكثير من ضرر ما يتسبب به غير الطبيب الذي يقحم نفسه في تشخيص المرض والعلاج. وهذا ما يتفق في مضمونه مع خطورة اعتماد بعض المسلمين عموماً، والجماعات الدينية التكفيرية المسلحة خصوصاً، على مقاربات وفتاوى غير علماء العقيدة والفقهاء، خاصة ما يرتبط بقضايا الدماء والأعراض والأموال.

والقناعة بالحكم الشرعي أو الموقف العقدي الذي يكشف عنه الفقيه وعالم العقيدة؛ يشبه قناعة صاحب المبنى أو المقاول بحجم الإنشاءات التي يصفها المهندس الاختصاص وفق الخارطة التي يضعها؛ فربما لا يقتنع صاحب المبنى أو المقاول، بالموقف الذي يكشف عنه المهندس، لكن؛ بما أنهما غير مختصين؛ فإن عليهما الأخذ بما يقوله المختص حصراً. وحين يعمد أصحاب الأعمال أو المقاولين مجادلة المهندس وعدم الإذعان للمواصفات التي يضعها المهندس؛ فإن النتيجة ستكون انهيار المبنى.

لقد بات العالم يدعو الى مزيد التخصص بمرور الأيام، كلما ازدادت وتيرة الاكتشافات العلمية سرعة، وإلى احترام منهج التخصص الدقيق والتخصص الأدق، فلا يتدخل المتخصص في شؤون تخصص آخر. فجراح الدماغ ـ مثلاً ـ هو صاحب الرأي الأول والأخير في الفحص والتشخيص والعلاج في أمراض الدماغ. بل أن الطبيب الاختصاص في جراحة الجملة العصبية، لا يعطي رأياً في مشاكل الدماغ، فكيف بمهندس البناء الذي يريد أن يكون له رأي في جراحة الدماغ؟.

بينما نرى الصحافي والسياسي والمهندس والعامل والفلاح والضابط والشاعر والحقوقي والفيزيائي؛ لا يترددون في تقديم فهم شخصي للدين ومعارفه وأحكام الشريعة، ويقول هذا رأيي، وهذا ما أعتقده!، بل أن بعض هؤلاء يحملون ايديولوجية تتعارض مع الدين، كأن يكون صاحب الرأي الاجتهادي في الدين شيوعياً أو عنصرياً أو علمانياً، ولكنه يمتلك الجرأة ليفتي في الشأن الديني التخصصي.

وحتى المسلم المتدين غير المتخصص؛ فإنه لا يمتلك القدرة على تقديم فهم شخصي في الموضوعات الدينية التخصصية، طالما أنه غير متخصص، سواء كانت الموضوعات عقدية أو فقهية؛ فبعض المتدينين يجتهد ويخرج بفتوى ـ مثلاً ـ تنفي وجود نظرية اقتصادية أو سياسية في الإسلام، وآخر يعتقد أن أحكام الإرث لا تتوافق مع العصر، وثالث يبدو له أن هذا الحديث النبوي كذب، وبعضهم يسخر من مبدأ التقليد في أحكام الفقه، في حين أن القراءة الدينية التخصصية بحاجة الى متخصص في جملة من العلوم، بدءاً بعلوم القرآن وعلوم الحديث والرجال وعلوم اللغة العربية و الكلام، وانتهاءً بعلمي الفقه وأصوله.

يدخل ضمن إطار الفهم غير التخصصي للدين أيضاً:

1- استخدام بعض علماء الدين مناهج تجعلهم يجتهدون مقابل النص؛ الذي هو ثابت ديني؛ فيخلطون بين الثوابت والمتغيرات، ويخالفون النصوص التعبدية، ويجنحون نحو الانفلات في فهم مقتضيات العصر، أو ما بات معروفاً بتطبيق مدخلية الزمان والمكان والظروف في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية.

2- الجمود على فهم السلف للدين، وما نقلوه من أحاديث وأخبار، بل اعتماد سلوكياتهم كمصدر تشريعي، فيكون الناتج إسلامات متعارضة بعدد الصحابة والسلف.

3- اعتماد بعض الجماعات المنتسبة للإسلام على أشخاص غير متخصصين في الشريعة، لإصدار فتاوى في أخطر الموضوعات، كالدماء والأموال والأعراض، الأمر الذي أباح لكثير من هذه الجماعات ممارسة كل ما يتعارض مع الدين من أعمال إرهابية وجرائم.

وهناك قضية ملحة تتعلق بإشكالية التقليد في القضايا العقدية؛ فبصرف النظر عن تفاصيل الاختلاف في مقولة حرمة التقليد في الأصول، أو ما يعرف بحرمة الأخذ برأي الغير في المسائل العقدية دون معرفة الدليل، وضرورة نظر المكلّف في الموضوعات العقدية للوصول الى المعرفة اليقينية، فإن التطور الهائل للموضوعات الكلامية وتوسعها عمودياً وأفقياً، واتساع دائرة المعارف الإنسانية، وتراكم الأسئلة العقدية المركّبة، جعل الرجوع الى المختص في القضايا العقدية أيضاً أمر لا مهرب منه، وليس الفقهية وحسب، فضلاً عن أن هذا الرجوع بات قائماً عملياً، وبخلافه ستتوسع دائرة الفوضى الفكرية والإرباك العقدي لدى عموم الناس، لأن عموم المكلفين عاجزين ـ بفعل مختلف الظروف والأسباب والمعوقات ـ عن التوصل من خلال البحث والنظر المعمقين الى المعرفة اليقينية بالقضايا العقدية الكبرى، كالألوهية والوحدانية، والعدالة الإلهية والجبر والتفويض، والولاية التكوينية والولاية التشريعية، والخلق والنشوء، والوحي والتنزيل، والنبوات، والعصمة، والإمامة وغيرها من الموضوعات التي بات كل واحد منها بحاجة الى تخصص دقيق، ولا سيما مع ظهور المناهج المضادة والمعارِضة الحديثة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment