الفهم الموضوعي للظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية

Last Updated: 2024/04/05By

الفهم الموضوعي للظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية

د. علي المؤمن

يُعدّ موضوع «الاجتماع الديني الشيعي» أحد أكثر الموضوعات حساسية وإثارة للجدل على المستويين الشيعي الخاص والإسلامي العام؛ بالنظر لما ينطوي عليه من إشكاليات، وتشابك بين ثنائيات ظلت مثاراً للبحث والجدل منذ نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي قبل 1400 عاماً تقريباً وحتى الآن. وما يراكم الآراء والتفسيرات والمقترحات هو أنّ أغلب أُسس النظام وقواعده وهياكله وسياقات عمله وحركته تعتمد الأعراف والتقاليد الشفاهية؛ أي أنّها ليست مكتوبة من المعنيين بالنظام والمتصدّين لمسؤولياته، إلّا ما ندر، أو أنّها مكتوبة بأقلام غير المعنيين أو المراقبين من خارجه. ولذلك فإنّ ما يكتب في هذا الإطار، وإن خضع لمعادلات علم الاجتماع الديني؛ هو ـ في أفضل الأحوال ـ عبارة عن تكهنات وتحليلات تفتقر إلى الدقة العلمية؛ لأنّها لا تستند إلى معلومات وقواعد بيانية من داخل النظام، ولا تقارب الموضوع وفق منهجية تنسجم والطبيعة المركبة للموضوع.

ثم ما تلبث أن تتحول التكهنات والتفسيرات إلى خلافات داخلية أو بين النظام ومحيطه؛ كلما تدخل فيه غير المتخصصين وغير المطلعين على عمل مؤسسات النظام وتفرعاته، لا سيما السياسيين والإعلاميين والمدوِّنين، وإن لم يكونوا خصوماً. وربما يُفاقم هذه الصورة المشوهة؛ تعمد الخصوم الخارجيين وبعض جماعات الضغط داخل النظام حجب الحقائق عن الناس؛ لتبقى الصورة مشوهة أو ضبابية، والخلافات الداخلية أو مع المحيط قائمة؛ لأنّ الخصوم الخارجيين وبعض العناصر الداخلية يعتاشون على هذه الصورة المشوهة أو تلك الضبابية.

وهنا نلاحظ بسهولة حضور منهجين غير موضوعيين، يكملان بعضهما في إلحاق الضرر بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي:

أحدهما: منهج التقديس والإطلاق والتعتيم، والذي يقحم القداسة في غير المقدس، ويهول في إلزام سياقات النظام وأجهزته، ولا سيما في القضايا ذات العلاقة بكيان المرجعية والحوزة العلمية.

والثاني: منهج الخصومة المفتوحة، الذي يلتقط السلبيات والعثرات والثغرات؛ ليحولها إلى أسلحة في خصومته مع النظام، ولا سيما مع المرجعية الدينية، التي تمثل رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي وقيادته.

ولم تأخذ أغلب الدراسات التي تناولت الظاهرة الدينية الاجتماعية الشيعية بنظر الاعتبار فرادة هذه الظاهرة، ولم تراع خصوصياتها المركبة، حتى تلك التي كتبها باحثون مسلمون وعرب، وبينهم شيعة؛ بل أخضعتها لمناهج علم الاجتماع الديني التقليدي ومفاهيمه ومعادلاته ومصطلحاته، كأية ظاهرة اجتماعية دينية أُخرى؛ ما أدى إلى وقوع هذه الدراسات في فخ التشويه وعدم الموضوعية. وأغلب هؤلاء هم من العلمانيين ومن أصحاب المواقف المناهضة للظاهرة الاجتماعية الدينية، رغم أنهم بذلوا جهوداً أكاديمية مهمة، وساهموا من خلال هذه الجهود في توطين العلوم الاجتماعية، ومنها علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني، لكنهم في عملية التوطين هذه استخدموا المناهج الغربية نفسها، وطبّقوا قواعد علم الاجتماع الغربي على المجتمعات الدينية المسلمة، وكانت مساهماتهم منحازة ضد الدين، وإن كانت تحت عنوان نقد الظاهرة الدينية.

هذا من الناحية المنهجية، أما من ناحية النظر الى الظواهر الاجتماعية، ومنها الدينية؛ فهم انتقائيون وقياسيون، بمعنى أنهم ينتقون حالات اجتماعية شاذة أو خاصة أو لم ترتق الى مستوى الظاهرة، ويعملون على تعميمها ووصفها بالظاهرة، أي أنهم يتحدثون عن ظواهر، لكنها ــ في الحقيقة ــ ليست ظواهر، إنما مجرد حالات. في حين أن علم الاجتماع يدرس الظواهر التي تتصف بالعمومية والثبات والاطراد، شأنها شأن العرف الاجتماعي. أما انتقاء المصاديق الخاصة والمحدودة؛ فيعني أن الباحث منحاز لموقفه الفكري المتعارض مع الدين والظاهرة الدينية، ويعمل على تحقيق أهداف خاصة بعيدة عن الهدف العلمي.

مثلاً؛ عندما يدرسون منظومة الحوزة العلمية والمرجعية الدينية وظواهرها وسياقات عملها، وكيفية فرز المرجع الأعلى أو المرجع المتصدي؛ فهم ينتقون حالات سلبية خاصة، مثل تأثير رأس المال وجماعات الضغط والمصالح والسلطة، ويحوِّلونها الى ظاهرة، ويعززون تحليلاتهم بمصطلحات وقواعد من علم الاجتماع الديني، وهو ما يدعو الى الاستغراب من تضحية الباحث بسمعته العلمية ومصداقيته البحثية من أجل تأكيد موقف مسبق معادي للحوزة والمرجعية وعموم الظاهرة الدينية الشيعية، وكذلك تحقيق أهداف ايديولوجية خاصة.

والحال أن الباحث العلمي الموضوعي، يمكنه التوصل بسهولة الى حقيقة أنّ المرجع الديني الأعلى لا يفرضه المال ولا السلطة ولا جماعات الضغط و(الحواشي)؛ إنما عناصر أخرى، في مقدمتها جماعات أهل الخبرة التي تتكوّن من المجتهدين والفضلاء في الحوزة، وهم أساتذة البحث الخارج وأساتذة السطوح العالية (المكاسب والكفاية). نعم؛ هناك عناصر داخل الحوزة وخارجها تلعب دوراً خلف الكواليس، إلّا أن دورها هامشي، وليس أساس أو مفصلي إطلاقاً، وهو ما يركز عليه أصحاب المنهج المنحاز الى الجبهة المعارضة للدين وظواهره الاجتماعية، من خلال تركيزهم على هذه العناصر الهامشية.

وهكذا بالنسبة لعناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي أو عناصر التكوين الاجتماعي الديني الشيعي؛ فإن الباحث المنحاز الذي يستبطن هدفاً مخاصماً؛ يركِّز على حالات سلبية معينة، كموضوع تصرف بعض (الحواشي) بحركة المال الشرعي ــ مثلاً ــ، ودورها في بنية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بهدف تضخيم الحالات السلبية الخاصة، وصولاً الى التشهير بالمرجعية الدينية الشيعية وعموم النظام الاجتماعي الشيعي، تحت عناوين البحث العلمي والدراسات الاجتماعية الدينية، وصولاً الى هدف ضرب عنصر المال الشرعي الذي هو قوام استقلال المرجعية الشيعية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقوام استمرار الحوزات العلمية والتبليغ الديني والعمل الخيري والتكافل الاجتماعي.

فضلاً عن وجود مؤلفات ودراسات تنزع الى الموضوعية، لكنها من خلال استخدام مصادر مخاصمة أو مناهج مفارِقة؛ فإنها تقع في فخ الجهل والتجهيل. وبالتالي؛ فإن تلك البحوث المنحازة وهذا الجهل، يساهم في خلق الأزمة الطائفية والفتنة الطائفية، لأن ((الإنسان عدو ما يجهل))، فكلّما وصف الإنسان شيئاً يجهله، ثم بنى نتائجه على هذا الجهل؛ فإنه سيقع في أخطاء فاحشة، خاصة إذا كان ينطلق من مواقف مسبقة وأحكام جاهزة يستبطنها. ولعل خطورة هذا الجهل، تتضاعف في البلدان المسلمة التي تحصل فيها احتكاكات مذهبية عادة؛ فهي بلدان متعددة قومياً ومذهبياً، ولها جذور من الصراعات طائفية وقومية التراكمية، ولذلك؛ ينبغي الحذر عند توصيف المكونات المختلفة بعضها بعضنا الآخر، والذي ينبغي أن يقف على المعرفة الموضوعية الدقيقة، وليست المعرفة التي تحمل أحكاماً مسبقة، أو المعرفة السطحية العاطفية؛ للحيلولة دون إثارة الحساسيات الطائفية والاجتماعية. فمثلاً؛ إذا كان البحث يرتبط بالتصوف والفرق الصوفية؛ فيجب الاستعانة بمصادر هذه الطرق نفسها، والاستماع الى باحث من داخلها، وليس إلى مستشرق يصف ويفسِّر هذه الحركات الصوفية وفق مزاجه ووعيه، وليس الى باحث سلفي وهابي يحمل موقفاً تكفيرياً مسبقاً. وهكذا فيما يتعلق بفهم المرجعية الدينية وفهم الطقوس والشعائر الشيعية وفهم طبيعة عمل المزارات وطبيعة عمل جماعات المقاومة والأحزاب الشيعية، كل هذه يجب أن نرجع فيه الى باحث متخصص من داخل هذه المؤسسات، أي باحث من داخل الظاهرة، لكي تكون معرفة الظواهر الدينية والاجتماعية الدينية وتحليلها والكشف عنها، معرفة دقيقة.

ويمكن تشبيه بذلك بالرجوع الى كتاب «الأخلاق البروتستانتية» للمفكر الاجتماعي “ماكس فيبر”؛ فالذي يقرأ كتابه، سيجده دقيقاً في وصفه وتحليله؛ إذ أعطي صورة واضحة عن الطائفة البروتستانتية، لأنّه ابن الطائف البروتستانتية وابن مؤسستها وابن الأخلاق البروتستانتية. وهكذا باقي الباحثين مثل «كارل ماكس» عندما أصدر دراساته عن المسألة اليهودية والايديولوجية العلمانية أيضاً؛ وهكذا «دوركهايم» والآخرين؛ فهم عندما يتحدّثون عن مجتمعاتهم فإنّهم يبدعون في توصيفها وتحليلها.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment