الفكر الاسلامي والتقدم العلمي والتكنولوجي

Last Updated: 2024/04/05By

الفكر الإسلامي والتقدم العلمي والتكنولوجي

د. علي المؤمن

أولى الإسلامُ العلمَ اهتماماً خاصاً، ومنحه موقعه الحقيقي الذي يميزه في دائرة الحضارة الإنسانية. وقد تجلى هذا الاهتمام في مبادئ الإسلام ومفاهيمه وألوان الهداية والإرشاد التي قدّمها للبشرية ـ وليس أدل على ذلك من الخطاب الإلهي الذي افتتح به التنزيل: «إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم*علّم الإنسان ما لم يعلم»، رغم أن أجواء الجزيرة لم تكن تدرك آنذاك أبعاد هذا الخطاب.

وراحت عناصر الخطاب الإسلامي تتكامل وتتبلور بمرور الزمن، لتنعكس على مسار التاريخ بصورة رؤى ومناهج وأهداف، وبالتالي لتنتج نماذج حضارية متفردة تركت بصماتها على مسيرة العلم الإنساني برمته. وتفسير الانجاز الحضاري للمسلمين على أساس المفاهيم والمناهج التي يطرحها الإسلام، ليس تفسيراً جزافياً أو تعسفياً؛ لأن الموقع الذي منحه الإسلام للعلم كان المنطلق والمحرك الأساس لذلك الانجاز. وقد نصّ القرآن الكريم على نوعية الأدوات التي منحها اللَّه تعالى للإنسان؛ ليستثمرها في اكتساب العلم، وكأن الباري تعالى بقوله: «واللَّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون سيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة» يدفع الإنسان من خلال منحه هذه الحواس باتجاه المعرفة والعلم. هذا فضلاً عن تأكيدات القرآن الكريم والسنة الشريفة على طلب العلم والحصول على المعرفة وأحداث التقدم العلمي لدفع المجتمع الإسلامي نحو الرقي والتحضّر، هذه التأكيدات التي لا نجد نظيراً لها في أي دين آخر: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».. «إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء»، وكذا ما جاء في الحديث: اطلبوا العلم..، في نصوص كثيرة..

ويقول هذه التأكيدات على موضوعة العلم لا تمثل وضعاً عابراً، وإنما يكشف عن ربط هادف بين العلم ومجالات متعددة ترتبط بالنظرة الإسلامية التوحيدية للكون، ففي آية «هل يستوي…» مثلاً يضع القرآنُ العلم معياراً لتقييم الإنسان ومستواه، في حين حصرت آية «إنما يخشى…» خشية اللَّه تعالى بأهل المعرفة والعلم. وإلى جانب ذلك حفّز القرآن العقل الإنساني على الإبداع والاكتشاف والتبصّر، من خلال آليات النظر والتفكّر والتدبّر؛ لتكون الحصيلة مجموعة متكاملة من النظريات والمناهج والقوانين والأفكار التي يُستخدمها الإنسان في بناء حياته وضمان حاضره ومستقبله على أفضل صورة: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».. «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم».. «أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها».

ولم يقف «الإسلام عند حدود تبيين أهمية العلم والتأكيد عليه وضرورته، بل عمل على توضيح الخطوط العامة للمنهج العلمي الصحيح الذي يقود نحو التقدم الحقيقي الذي يريده اللَّه تعالى للبشر، وأنماط هذا المنهج ونماذجه وخصائصه، وما قد يؤدي إليه الانحراف عن المنهج العلمي الصحيح، فضلاً عن تأثير الإنسان وبيئته الاجتماعية ورؤية هذه البيئة للعلم وحقائقه، في صياغة المنهج العلمي وأساليب تطبيقه، لما في قوله تعالى: «فيتعلّمون منهما ما يفرِّقون به بين المرءِ وزوجه… ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم».. «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد».. «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون».. «ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من ولي ولا نصير».. «والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلُّ من عند ربنا».. «ما لهم من علمٍ إلاّ إتّباع الظن».. «نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم».. «ومن الناس من يجادل في اللَّه بغير علم ولا هدى».. «يرفع اللَّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات».

وفي فترة العصور المظلمة التي حجبت الضوء عن الغرب وأغرقته في متاهات الجهل والخرافة، اندفع المسلمون بفعل المنهج العلمي الرصين الذي كشفه لهم الإسلام، والعقل المبدع المتبصّر المتحرر من إرث الخرافة والجهل، ومعادلة العلاقة المتوازنة بالفكر الإنساني في مجالاته العامة (المحايدة)، ولاسيما الفكر الفلسفي والعلمي للحضارة اليونانية، اندفع المسلمون لتشييد صرح حضارة علمية راقية هيمنت على الواقع الإنساني من القرن الثامن وحتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حتى شكّلت القفزات التي حققتها هذه الحضارة في مختلف مجالات الحياة، ولا سيما في مجال العلوم التطبيقية والبحتة، كالكيمياء والفيزياء والبصريات والفلك والرياضيات وغيرها، ثورات حقيقية على مسار العلوم والمعارف البشرية منذ وجود الإنسان على الأرض، حتى اضطر الأوروبيين والصينيين للاستعانة بخبرات وطاقات المسلمين لإدارة مشاريعهم العلمية. فضلاً عن نماذج التأثير البارزة في مجال الفلسفة والحكمة، كالتيار الفلسفي الأوربي المتأثر بفلاسفة الأندلس وأطلق على نفسه «الرشديين اللائين»، والذي كان أحد أهم أسباب الفلاسفة النهضة الأوروبية ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي.

وقد يكفي ذكر بعض النماذج المشرقة التي ستبقى علامات فارقة في تاريخ العلم، الخوارزمي في الجبر والمقابلة، جابر بن حيان في الكيمياء، الحسن ابن الهيثم في البصريات والفيزياء، وابن سينا في الطب والجراحة والميكانيكا، والبيروني في الفيزياء، والطوسي في الفلك والهندسة، والعاملي في الحساب، ثم البوزجاني والكرخي والغافقي والرازي وابن النفيس والدينوري، وغيرهم من الرايات المنشورة العملاقة التي لا زالت ترفرف في سماء العلم والمعرفة العلمية، والتي مهدت المستشرقون بأنهم أكملوا في اكتشافاتهم الكبرى ما بدأه المسلمون.

هذه التجربة العلمية التاريخية الرائعة التي حققها المسلمون خلال سبعمائة سنة، هي حفل خصب للدراسة واستخلاص العبر، وهي رصيد ضخم من الخبرة العلمية المتراكمة، بالنظر إلى أن هذه التجربة كانت تجري فصولها وتنمو مفرداتها في إطار مرجعية أساسية، وهي المرجعية العقيدية المتمثلة بخاتم الأديان، ولم تكن تلك التجربة تدور في فضاء مفتوح أو فراغ معرفي، ومن هنا فهي ركيزة مهمة للانطلاقة العلمية الإسلامية الجديدة التي تستند إلى المرجعية ذاتها. وفي ‘طار الاستفادة من هذه التجربة يمكن استخدام المنهج المقارن، بحيث تعقد المقارنة بين الواقع الذي صنعه المسلمون في تلك الفترة وواقع المسلمين الحالي، والبيئة التي أفرزت ذلك الواقع، وطبيعة اعتماد المسلمين لمرجعيتهم العقائدية في تحديد مسارات وأهداف التقدم العلمي المنشود، وأساليب توظيف المعرفة العلمية التي حققت لهم تلك القفزات، ومعادلات تعاملهم مع الخبرة الإنسانية العلمية، وغيرها من الموضوعات التي نستطيع من خلالها قياس واقعنا وتبيّن مرحلتنا.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment