الفكر الإسلامي وظواهر الحاضر والمستقبل

Last Updated: 2024/04/05By

الفكر الإسلامي وظواهر الحاضر والمستقبل

د. علي المؤمن

يشهد عصرنا آلاف الظواهر الساخنة على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والايديولوجية والأخلاقية والعلمية والتكنولوجية، وهي ظواهر تعيش ثورات وتطورات سريعة للغاية، وتنبئ عن مضامين مختلفة للحياة في المستقبل. وتتطلب معرفة هذه الظواهر جهوداً استثنائية (واسعة في حجمها ونوعية في حركتها)، وهو الحل الوحيد الذي نستطيع من خلاله دخول الزمن القادم بعزم وثقة بالنفس، ونحن نتأبط مشاريعنا ومخططاتنا، وحينها ـ فقط ـ يمكننا الحديث عن بديلنا أو مشروعنا الحضاري.

ولا شك في أنّ معرفة العصر الذي نعيش فيه أو سنعيش فيه هو مدخل تطبيق معادلة دور الزمان والمكان في العملية الاجتهادية. كما أنّ للتخطيط وتوفير الشروط علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لا نتحدث عن تخطيط فني أو تقني فقط، بل تخطيط شامل ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، والذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وهنا تكمن مساحة المراجعة التي ننشدها. فنحن لا نهدف إلى أن تقوم الشريعة بملاحقة تطورات الزمن، ولا نريد للفقه أن (يتعصرن)، ولا للشريعة وعلومها أن يلاحقا الزمن، بل أن يسبقاه، كما نريد للعصر أن يتفقه، أي أن يجد أمامه فقهاً قائماً سبقه يجيب عن كل تساؤلاته ويستجيب لكل تحدياته. حينها، لن يجد الزمن والعصر أمامهما سوى الانحناء أمام الشريعة والفقه والخضوع لهما.

هذا الهدف ليس ضرباً من الخيال أو الترف العلمي، بل هو الحقيقة القائمة الآن بكل تفاصيلها، فقضايا المستقبل حاضرة أمامنا.. نشاهدها ونلمسها، رغم أنها لم تتحول إلى واقع فعلي؛ لأننا نعيش في المستقبل، أقصد أنّ العالم المتقدم علمياً ومنهجياً يعيش في المستقبل الآن، وليتنا كنّا أيضاً نعيش الزمن نفسه، ولكن متلفّعين بأصالتنا، ومتسلحين بشريعة الله الخالدة التي لا يحدها زمان أو مكان. وبالتالي، فالمراجعة تهدف إلى التحول في النظرية وإلى الإصلاح في الفكرة من خلال الأدوات والآليات التي تقرها الشريعة؛ للدفع نحو المستقبل والإمساك بعملية التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري، وانتهاءً بتحقيق مقولة: (الإسلام يقود المستقبل).

إنّ مقدمة تطبيق هذه المقولة هي أن تكون الشريعة والفقه مؤثرين وليسا متأثرين، مع الإقرار بأهمية التأثر الإيجابي وواقعيته وعدم إمكانية الفرار منه، وأن يصنع الإسلام التغيير لا أن يلاحقه، فملاحقة التغيير وتطورات الزمن تعني أنّه سيبحث عن إجابات لأسئلتها وسيضطر لمواجهة ضغوطها، أمّا إذا صنع الإسلام التغيير والتطور والمستقبل وصاغ الزمان والمكان وفقاً لرؤيته، فإنّ كل الإشكالات الفكرية وكل التساؤلات الفقهية والعقيدية ستكون واضحة أمامه إن لم تكن جاهزة.

ثُمَّ، إنّ تناول الشريعة وعلومها ومجمل الفكر الإسلامي لقضايا المستقبل، ليس عبوراً على الزمن ولا تجاوزاً للحاضر، ولا نقصد بذلك مجرد صوغ فرضيات وهمية أو موضوعات غير واقعية، بل نقصد به استعداد الفكر الإسلامي للمستقبل، بعد أن فرضت ظواهر الحاضر وتطوراته السريعة والتخطيط الذي تستند إليه أن تعيش البشرية في المستقبل.

وكمثال ـ في سياق ما تقدّم ـ فإنَّ تناول الفقه لما ستفرزه مخططات وبحوث علماء الهندسة الوراثية (الجنتيك) والبايولوجيا والفضاء والمعلوماتية (الانفورماتيك) والاتصالات والتنمية والسكان والطب وغيرها، من أسئلة وإشكالات كبيرة، يعني أنّه مندك في الواقع؛ إذ إنّ البشرية ستقطف ثمار هذه المخططات والبحوث بعد 30 أو 20 عاماً، لا سيما وأنّ بعض هؤلاء العلماء قد فتحوا باب البحث والتجربة على مصراعيه، دون محددات أخلاقية أو حتى إنسانية، وبذلك تجاوزوا السماء وتعاليمها، بل تجاوزوا حتى التعاليم الإنسانية التي تعارف عليها سكان الأرض. وباعتبار أنّ هذه المشاهد المستقبلية من جملة المشاهد التي لا يستطيع المسلمون صنعها أو المساهمة في صنعها، بالنظر لعدم مواكبتهم التطور الذي تعيشه هذه العلوم، فمن المفروض ـ إذاً ـ أن يجد الفقه حلولاً وتكييفات لإشكالياتها.

وينسحب هذا الواقع على الجانب الفكري أيضاً، فمثلاً تطورات المستقبل (المنظور) سينتج عنها واقع فكري جديد، سواء على مستوى النظام السياسي للدولة ونظمها التقليدية في الاجتماع السياسي والاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم أو على مستوى العلاقات الدولية وغيرها، وما سيترتب على ذلك من نهاية للسياسة ـ كما يقول بعض المفكرين ـ ونهاية للايديولوجيا، ونهايات أُخر ـ كما يقول مفكرون آخرون.

ولعلّ التغيير العملي سيسبق الفكر والنظرية والايديولوجيا بمراحل طويلة، وستكون النظرية إفرازاً للتطبيق، والفكر إفرازاً للواقع العملي، وليس العكس، مما يعني أنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية والأفكار والفلسفات والمناهج النظرية سيقتصر دورها على المتابعة والتحليل، وستفقد قدرتها على التنظير (والأدلجة) وصناعة الواقع والتغيير. بيد أنّ الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة يمكنها تجاوز هذه الأزمة والقفز على تحدياتها، من خلال المراجعة المستمرة للفكر والاطلاع الدقيق على الواقع، بل يمكن للتحول النظري فيهما أن يكون أساساً للتغيير (العملي)؛ بالنظر للبُعد الإلهي الذي يدخل في تكوين بنية الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة.

يفرض هذا التحول أن يعيش علماء الشريعة والمفكرون المسلمون قضايا العصر بكل تفاصيلها، ويفهموها فهماً شمولياً، ويستعدّوا لتطوراتها ومعطياتها المستقبلية؛ لكي يجتنبوا ما سيتسبّب فيه المستقبل لهم من صدمات وذهول، ومن ثم تراجع قياسي وضياع وهزيمة شاملة للأُمّة.

وأُؤكد على أنها ستكون هزيمة شاملة؛ لأنّ التشابك المستقبلي في القضايا والظواهر والأشياء سيأخذ مسارين أُفقي وعمودي، وسيرمي التشابك الأُفقي بظلاله على الجغرافيا السياسية والسكانية والثقافات والمجتمعات والأفكار والأديان والمذهب، أمّا التشابك العمودي فسيشتمل على الموضوعات والمشاكل والتحديات. ومن هنا؛ فأيّ تراجع في أيّ مجال سيترتب عليه تراجع وهزيمة في المجالات الأُخر.

إنّ جملة الأدوات والآليات التي تنظم عملية المراجعة ومراحلها وتحدد مساراتها، هي التي تتدخل في تشكيل بنية المنهجية التي تتخذها عملية المراجعة، وهي منهجية تجمع بين كونها فنية وتقنية من جهة وفكرية ونظرية من جهة أُخرى، أي أنها منهجية مستنبطة من ثوابت الشريعة أو مقبولة لديها، وليست مستعارة من علوم ونظريات وضعية أُخر. وبالتالي، يمكن لأصالة المنطق والهدف والوسيلة أن تضمن أصالة النتاج. وتحتوي هذه المنهجية على جملة من المسارات المتكاملة، يتلخص أولها في: (الإحياء) و(الإصلاح) و(التجديد)، ويتمثل بتمحيص الفكر الإسلامي، التراثي والمعاصر، وتنقيته، واستخراج المادة التي تدخل في البناء الفكري الجديد.

ويقوم المسار الثاني بملء المساحات التي تركتها الشريعة الإسلامية لأصحاب الاختصاصات، وهي مساحات فراغ تشريعي وفكري أو تفويض تشريعي وفكري، وترتبط بالموضوعات المستجدة والمتحوّلة، أو التي ستستجد وتتحول، وهو مسار مفتوح لعمليات (التنظير) و(التأسيس)، و(الاستنباط)، وأداته الرئيسة: (الاجتهاد).

ويتجه المسار الثالث نحو (التأصيل)، و(الأسلمة) من خلال استطلاع الأفكار والنظريات والموضوعات الجديدة التي أفرزتها بيئات فكرية أُخر، والتي يمكن أن تشكل إضافات ضرورية للفكر الإسلامي، بعد عرضها على مبادئ الشريعة وأحكامها ومقاصدها، وتحييدها ثم تأصيلها وأسلمتها، بالصورة التي تجعل منها رؤية جديدة مختلفة تنسجم مع التصور الإسلامي.

وهناك مسار آخر ينزع نحو التطبيق والشكل العملي، ويختص باكتشاف الأساليب التي من شأنها إخضاع الواقع للنظرية أو إخضاع الزمن للشريعة.

ووفقاً لهذه المنهجية، فإنّ عمليات الإحياء والإصلاح والتجديد والتأسيس والتنظير والتأصيل والأسلمة، لها مصاديقها ومجالات إطلاقها وتطبيقها، كما أنّ لكل منها مساحاتها الفكرية والواقعية الخاصة، ولا يمكن تعميمها جميعاً على كل مساحات الفكر والواقع؛ لأنّ حقائقها نسبية، ولكن يبقى أنّ جميع النتاجات التي تفرزها هذه العمليات، والتي تشكّل بنية الفكر الإسلامي وفقاً لاستدعاءات المستقبل، لا بدّ من صياغتها صياغة موحّدة؛ ليكون الفكر المنتَج عبارة عن منظومة فكرية واحدة مترابطة في مضامينها، ومتناسقة في شكلها.

والحقيقة، أنّ التجديد وكذلك الإصلاح الفكري سنة إلهية تحدثت عنها النصوص الإسلامية بوضوح تام، وفتحت لها الشريعة أبوابها؛ ليبقى البناء الخالد بمرونته واستحكامه، فهو بحيث تتحطم على ثباته كل التحديات المعرفية والفكرية والحضارية التي تهدد كيان الإسلام؛ ولتصوغ (الشريعة) بناءها الحضاري الذي يناسب كل زمان ومكان.

ولعل أحاديث شريفة مثل: ((إنّ العلماء ورثة الأنبياء))، و((إنّ الله يبعث لهذه الاُمّة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها))، و((إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول، وعليكم أن تفرّعوا))، هي أدلة واضحة على دعوة الإسلام لتجديد معارفه وفكره (في مساحة المتغيرات بالطبع)، وتجديد وعي الأُمّة وخطابها، واستمرار حركة الاجتهاد والاستنباط، والانفتاح على الحياة ومراقبة الواقع وتطوراته. كما أنّها تدل على وجود مرجعية ثابتة للإصلاح والتجديد والتنظير والأسلمة، وتتمثل في الأُصول المقدسة: القرآن الكريم والسنة الشريفة (الصحيحة)، وهي مرجعية لا يمكن تجديدها أو الاجتهاد في مقابلها. وهناك مرجعيات أُخر لا تمثل سلطة ثابتة، بل هي مرجعية متحرّكة للتكامل، كالتراث الكلامي والفكري والفقهي، وما يضمه من نظريات وآراء وقواعد ومناهج، إضافة إلى أدوات فهم الأُصول المقدسة، كالعقل والإجماع وغيرها.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment