العَلمانية المستوطنة
العَلمانية المستوطنة:
بين الإيمان المسيحي والشريعة الإسلامية
د. علي المؤمن
المحتويات
أسئلة العلمانية المستوطنة 6
ماهية المسيحية التي أقصتها العلمانية 9
المسيحية: بين اختطاف الثيوقراطيين، وإقصاء العلمانيين 11
الإسلام الأُموي وبذور العلمانية المسلمة 14
النهضة العلمانية ضد المسيحية الأوروبية 22
العلمانية قاعدة الاحتلال الاستعماري الغربي المستدام 26
العلمانية بين شريعة محمد وشريعة عيسى 30
العلمانيون يفتون بتعطيل الشريعة الإسلامية 34
العلمانيون الشيعة الجدد وتكرار الأوهام 38
العلمانية المتدينة والتدين العلماني 42
اختبارات صعبة أمام العلمانيين العرب والمسلمين 47
العلمانية والقواعد المجتمعية والسياسية الإسلامية 50
- تعارض الدولة العلمانية ودولة المسلمين 52
- تعارض النظام الاجتماعي العلماني والنظام الاجتماعي للمسلمين 54
- ظهور الجماعات الإسلامية رداً على الأحزاب والأنظمة العلمانية 56
- حكم الجماعات الإسلامية داخل الأنظمة العلمانية 57
ماذا يريد العلمانيون من المسلمين؟ 60
أسئلة العلمانية المستوطنة
“العَلمانية”، هي عقيدة أوروبية، نشأت على قاعدة تفكيك التحالف بين سلطة الدولة والسلطة الدينية، وهو التحالف التخادمي الموروث الذي أسسه الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م). ويستلزم ذلك التفكيك:
- تجريد الملك من سلطته الثيوقراطية الروحية التي تشرعن لها الكنيسة، وإعادته الى طبيعته البشرية العادية
- تجريد الكنيسة المسيحية عن سلطتها التشاركية في التحكم بقرار الدولة، واجتماعها السياسي والثقافي والمعرفي، ومؤسساتها السياسية والتشريعية والتعليمية والقضائية والعسكرية.
وعلى أنقاض هاتين العمليتين، ولدت العقيدة العلمانية، أي أنها عقيدة صنعها مناخ الصراعات التراكمية الأوروبية بين تحالف الكنيسة المسيحية والملكيات الثيوقراطية من جهة، وبين الطبقات المثقفة والمتعلمة الناقمة على الاستبداد السياسي الشمولي وهيمنة الكنسية من جهة أخرى. وقد استمرت تلك الصراعات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أكثر من أربعة قرون، أي من القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي.
أما “العلمانية المستوطنة”؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.
وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الاستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة إنتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.
وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي أنتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا يدور حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها “العلمانية المستوطنة”.
ماهي خصوصية البيئة الأوروبية التي أنتجت العقيدة العلمانية؟
وماهي طبيعة وتركيبة الديانة المسيحية التي انقلب عليها الأوروبيون؟
وكيف ساعد الموروث العقدي الوثني الأوروبي في تقبل الأوروبيين للعلمانية؟
ماهي جذور العلمانية في موروث المسلمين؟
وهل يمكن فصل الشريعة الإسلامية عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والقانوني للمسلمين، كما تمكن الأُوروبيون من فصل الديانة المسيحية عن الدولة وتشريعاتها؟
هل نجح الغرب في مساعيه لتوطين علمانيته في البيئات المحلية العربية والمسلمة؟
وهل هناك عوامل تساعد على توطين العلمانية الغربية في البيئات المحلية المسلمة؟
وهل هناك علمانية عربية ومسلمة ناجعة أنتجتها النخب المحلية؟
هذه الأسئلة وغيرها؛ سنجيب عليها في هذه الدراسة
ماهية المسيحية التي أقصتها العلمانية
المسيحية التي أقصتها العلمانية من الحياة والتشريع وأي دور في مؤسسات الدولة، تختلف اختلافاً جوهرياً عن الإسلام وشريعته، فهذه المسيحية هي تركيب صناعي تم في روما القسطنطينية، وليس لها شريعة شاملة على كل مجالات الحياة، كما عليه الإسلام، وهو ما يجعل الثورة العلمانية ضد المسيحية، هي ثورة ضد المؤسسة الكهنوتية المسيحية القسطنطينية، بهدف إعادتها الى قواعدها الروحية التي لا يوجد غيرها في المسيحية الأصلية، وليس ضد الشريعة المسيحية التي ليس لها وجود أصلاً.
وتختلف المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، اختلافاً بنيوياً عن المسيحية السائدة، وهي المسيحية البولسية القسطنطينية الرومانية، التي تبلورت في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الاستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي، الأمر الذي يتعارض كلياً مع تعاليم السيد المسيح.
لقد مثلت المسيحية البولسية القسطنطينية الرومانية، خلطة عجيبة، جمعت بين:
- تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.
- عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً، وتمكن بولس عبر هذه العقيدة من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. وبولس هو بالأصل يهودي روماني، كان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.
- شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.
- أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية
- عرفان غنوصي
- مثيولوجيا وثنية رومانية
- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لا تنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.
ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، خلال المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما في العام 324؛ يعد التأسيس الثاني للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ “العصور الوسطى”، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس إمبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية.
ولذلك؛ لا توجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر؛ كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.
المسيحية: بين اختطاف الثيوقراطيين، وإقصاء العلمانيين
تبين مما سبق أن الأوروبيين حين اعتنقوا الديانة المسيحية، فإنهم حوّلوا المسيحية الى ديانة أوروبية داعمة للإمبراطوريات والملكيات والإقطاعيات في أوربا ومشرعِنة لها، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الاجتماعي السياسي السائد في أوربا، فلم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وإنجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لا تنطبق بتاتاً على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.
وإذا كان الأوروبي بطبيعته وتكوينه التاريخي، شخصية متعالية ومستكبرة وطامعة، فلماذا اضطر الى الأخذ بديانة شعوب كانت مستعمَرة ومستعبَدة؟!، فالرومان الغزاة ـ مثلاً ـ الذين كانوا يحتلون بلاد الشام في عصر الإمبراطور قسطنطين، كانوا أول من آمن بالديانة المسيحية، وتخلوا عن الديانة الرسمية الوثنية، بعد قرون من ممارسة الاضطهاد ضد المسيحيين، ذلك لأن الرومان الأوروبيين لم يدينوا بمسيحية عيسى، بل قاموا باختطافها كما أسس لها بولس، ثم زاوجوا بينها وبين موروثهم الديني الوثني، بعد أربعة قرون على بعثة السيد المسيح، وأصبح الإمبراطور قسطنطين ملكاً قديساً رسولاً، واستطاع من خلال سلطته الكنسية أن يفرض سيطرته على كل أراضي الدولة الرومانية الشرقية والغربية، وباتت معارضته معارضةً للأب والابن والروح القدس.
حينها بدأت ديانة الإمبراطورية الرومانية، أي المسيحية الأوروبية الجديدة، تفرض تعاليمها على المسيحيين الأصليين في غرب آسيا، وتضطهد من يعارضها منهم، وتحرق كنيسته وتقتله. وبالتدريج باتت المسيحية الرومانية الممثل المطلق للمسيحية، والطوطم الرابح الذي يغزون تحت رايته أراضي الشعوب الأخرى. وبات التبشير بالمسيحية وذريعة اضطهاد المسيحيين في دول أوربا الأخرى، هما شعارا الرومان من أجل توسيع امبراطوريتهم، واحتلال الشعوب الأوربية الأخرى، وفرض المسيحية الرومانية عليها. وكل هذا يسقط فرضية تأثر الإمبراطور قسطنطين بوالدته المسيحية “هيلانة”، ويعزز فرضية الأطماع الاوربية التوسعية، واستخدامها المسيحية مسوغاً للسيطرة على أراضي الشعوب الأخرى واستعبادها.
ولذلك؛ فإن الصراعات الدموية بين الشعوب الأوروبية، كانت تمنع ظهور ديانة أوروبية عالمية أو نبي أوروبي عالمي فيها، لأن هذا النبي الأوروبي سيرجّح شعباً أوروبياً على آخر، ويكون مدعاة للتمدد الاستعماري، بذريعة نشر الديانة. فكانت الشعوب الأوروبية تنغلق على دياناتها المحلية، وهي وثنية غالباً، لأنها تنسجم مع طبيعة النظام الاجتماعي السياسي لكل شعب. ولم يتخلص من هذا الانغلاق سوى الامبراطور الروماني قسطنطين، الذي وجد في المسيحية ديانة أجنبية غير أوربية، وتنتمي الى شعب يحتله هو ويضطهده، ويمكنه بسهولة اختطاف هذه الديانة، واستغلالها واستخدامها، وتحويلها الى ديانة عالمية بزعامة رومانية. وبذلك يسقط في يد الاوربيين ما يمكن أن يحتجوا به من أن الإمبراطورية الرومانية تريد نشر ديانتها المحلية الرومانية، وكأنّ قسطنطين أراد أن يقول للعالم: لا أريد من استعماري لكم سوى نشر التعاليم الروحية والأخلاقية لديانة السيد المسيح، فهي ديانة لا تمت لروما والقسطنطينية بصلة، ولا تنتمي الى المثيولوجيا الرومانية، بل ديانة مستوردة من غرب آسيا التي احتلها.
وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها.
ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الاستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الاستعمار الأوروبي.
والمفارقة هنا، إن المسيحية الأوروبية الاستعمارية اتجهت نحو غرب آسيا، حيث بلاد المسيحية الأصلية النقية، وعمدت منذ الحروب الصليبية وحتى الاستعمار الحديث، الى اقتلاع المسيحية الأصلية من منابتها بالقوة القاهرة، واستبدلتها بالمسيحية الأوروبية. وبات المسيحيون الأصلاء في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر والعراق وغيرها، مجبرون على إتّباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية والكنيسة الإرثذوكسية أو الكنيسة الإنجليكانية وغيرها، وكلها كنائس أوروبية تكوّنت محلياً، نتيجة لإفرازات البيئة السياسية الأوروبية وصراعاتها الداخلية وانشقاقاتها السلطوية.
الإسلام الأُموي وبذور العلمانية المسلمة
هناك تشابه كبير، الى حد التطابق أحياناً، بين العقيدة الأموية السلطوية التي بلور معالمها معاوية بن أبي سفيان في الشام، وبين الديانة المسيحية الرومانية القسطنطينية، من ناحية حجم الانحراف العقدي والأخلاقي، والسلوك الإمبراطوري الاستبدادي، وصولاً الى العمل على مصادرة الديانتين الإسلامية والمسيحية الأصليتين، وقمع المسلمين والمسيحيين الحقيقيين وذبحهم، والاستغلال الايديولوجي الاستكباري، بهدف توسيع رقعة الإمبراطوريتين القسطنطينية والأموية باسم الفتوحات الزائفة، على حساب أراضي الشعوب وحقوقها وحرياتها.
وقد بدأ العد العكسي لتأسيس الإمبراطورية الأموية في يوم السقيفة، والتي أدت خياراتها السياسية الى ما يلي:
- کان الخلیفة المنصوب امتداداً لحکومة النبي الزمنیة، ولیس امتداداً دينياً للنبوة. والحال؛ إن المنصبين الديني والدنيوي کانا منصباً واحداً في عهد النبي، وكان ينبغي الإبقاء عليهما موحدين بعد وفاته، على اعتبار أن الحياة الإسلامية تجمع بين الديني والدنيوي، وان من يتولى رئاستها ينبغي أن يتمتع بالبعدين، وفق ما أوصى به النبي، إذ أن النبي لم يوص للإمام علي أن يكون خليفة زمنياً من بعده وحسب، بل خليفة دينياً ودنيوياً.
- إن الفصل بین المنصبین الديني والدنيوي في رئاسة الدولة الإسلامية، کان یعني فصلاً بین الدین والحكم، أو بين الشرعية الدينية والشرعية الحكومية، وهو ما يمكن اعتباره زرع البذرة الأولى للعقيدة العلمانية في حياة المسلمين.
- بقیت عملیة الفصل بين الشرعية الدينية والشرعية الحكومية مستمرة، حتی اتحادهما ثانیة بانتخاب الامام علي خلیفة للمسلمین، وهذا الانتخاب نصّب الامام علي حاکماً للمسلمین ولم ینصبه في موقع الإمامة الدینیة، لأن موقع الإمامة الدینیة هو موقع الهي وذاتي، وخاص بالإمام علي أصلاً، ولم یفقده عند عدم اختیاره حاکماً للمسلمین بعد وفاة الرسول. أي إن الإمام علياً کان یمتلك شرعية الإمامة والخلافة الدینیة والسیاسیة معاً في عهد الخلفاء الثلاث، لكنه لم يمارس الخلافة السیاسیة فعلياً، إذ لم یکن مبسوط الید، رغم كونه الإمام الشرعي. وحين استلم زمام الخلافة السیاسیة، تم تفعیل موقعه الحكومي الشرعي. وبکلمة أخری؛ فإن انتخابه للخلافة الفعلية، أعطاه المشروعیة القانونیة لممارسة السلطة الزمنیة علی المسلمین، وليس الشرعية الدينية التي يتمتع بها أساساً، حتى في ظل حكم الخلفاء الثلاث.
- استمرت وحدة منصب الإمامة الدينية والزمنية في شخص الإمام الحسن بن علي لسبعة أشهر، بعد وفاة الإمام علي، وهي الفترة التي كان فيها الإمام الحسن خليفة فعلياً للمسلمين.
- بعد انتقال السلطة السیاسیة إلی معاویة، نتيجة الظروف المعروفة تاریخیاً، انفصل المنصبان مرة اخری، فأصبح معاویة حاکماً سیاسیاً للمسلمین، ولکن بقي الامام الحسن هو الإمام الشرعي للمسلمین، إذ أنه تنازل عن السلطة السیاسیة ولم یتنازل عن منصب الإمامة المنصوصة
- تحوّل الحکم في عهد معاویة وما بعده إلی حکم إمبراطوري وراثي، وفقد حتی الصبغة الدینیة التي کانت یتمتع بها الخلفاء الثلاث الأوائل، الذين تم انتخابهم بمشاركة المسلمين، بشكل وآخر.
ويمكن القول؛ إن الإمبراطور الروماني المسيحي قسطنطين الأول (272 ـ 337 م) والسلطان الأموي المسلم معاوية بن أبي سفيان (608ـ 680 م)، هما مؤسسا أكبر عقيدتين وضعيتين منسوبتين الى الدين في التاريخ، ولا تزالان تحظيان بعدد هائل جداً من الكهنة والأتباع والفدائيين والأنظمة السياسية والمعابد والطقوس والتقاليد الاجتماعية. وقد تأسست الأولى في روما والثانية في دمشق. وليس هناك من شك في تأثر عقيدة معاوية بعقيدة قسطنطين، وخاصة في مجال اختطاف الديانة الأصلية التي ينتمي إليها كل منهم، وتحريفها كما ذكرنا، وذلك عبر الاستعانة بمحدثي البلاط ووعاظ السلاطين والكهنة، من أجل التأسيس لمعتقدات وتشريعات وضعية ونسبتها للدين، بهدف إطلاق يد السلطان على كل الأصعدة بمسوغات دينية، وأهمها تسويغ التأسيس للحكم الوراثي الملكي الثيوقراطي المطلق، والسلوكيات السلطوية الإمبراطورية تحت اسم التبشير والفتوحات.
وقد ظلت العقيدتان القسطنطينية والأموية تتستران بالمسميات الأصلية التي اختطفتاها، أي نصرانية النبي عيسى وإسلام النبي محمد، إمعاناً في الخديعة التاريخية الكبرى التي مارسها الإمبراطوران المؤسسان بحق أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية، والتي من خلالها تمكن قسطنطين الأول من التحوّل الى قديس مسيحي وإلى رسول النبي عيسى الى العالم، رغم أنه أخضع كل أوروبا وأغلب الشرق الأدنى لسلطانه، بالسيف والذبح والاحتلال واستعباد الشعوب، بمن فيها الشعوب المسيحية الأصلية في مصر والشام، التي رفضت ديانته التحريفية السلطوية، وصولاً الى إقناع كل مسيحيي العالم بأن ديانته هي الديانة المسيحية الحقة، وإن ما عداها كفر وهرطقة وانحراف.
وبأساليب الخديعة نفسها، تمكن معاوية من إعلان نفسه خليفة رسول الله وأمير المؤمنين وسلطان المسلمين، رغم أن سيفه ذبح المسلمين وقمعهم ونكّل بهم، قبل أن يذبح شعوب شمال أفريقيا وشرق آسيا ويستعبدها. وهكذا تمكن معاوية من إقناع جموع غفيرة من المسلمين بأنه الخليفة الحق وأنه أمير المؤمنين، ولايزال أتباعه موجودون ويعتقدون بذلك.
وكما نجح قسطنطين في اختطاف الديانة المسيحية، والقضاء عليها تقريباً، حتى استحالت مدرسته العقدية الطقسية الممثل الرسمي لدين السيد المسيح، وبات أتباع ديانته الأكثر عدداً اليوم بين الأديان على مستوى العالم، وهم يعتقدون أنهم أتباع المسيح، ولا يعلمون أنّهم أتباع بولس وقسطنطين؛ فإن معاوية أيضاً حاول اختطاف الديانة الإسلامية، والقضاء عليها عبر فرض تعاليمه البديلة، ورغم أنه لم ينجح بمستوى نجاح قسطنطين، إلّا أن ديانته استحالت مذهباً رسمياً في بعض بلدان المسلمين، منذ تأسيس الدولة الأموية وحتى الآن.
ورغم أن أتباع عقیدة معاوية يجهلون بأنهم منحرفون عن دين محمد بن عبد الله، إلا أنهم يقدسون معاوية ويعدّونه صحابياً لا يمكن القدح بعدالته، أي أنه قديس، وصاحب الفتوحات الإسلامية العظيمة وخليفة رسول الله، كما يقدس المسيحيون قسطنطين، ويعدونه رسول المسيح الى العالم، أي أن صورة قسطنطين ومعاوية تتطابقان شكلاً ومضموناً. ولا شك أن تشبّه معاوية بقسطنطين واتّباعه خطاه، ليس من نتاج اختطاف معاوية للخلافة وتنصيب نفسه أميراً للمؤمنين، بل يسبقه زمنياً الى مرحلة عمله والياً على الشام، وهو ما صرح به علانية الخليفة الثاني عمر، بعد سفره الى الشام ولقائه معاوية، ثم عودته الى المدينة غاضباً منه، بسبب تشبهه بالروم، لكنه لم يشأ عزله، وهو ما سمح لمعاوية بالاندفاع نحو اقتفاء أثر قسطنطين أكثر فأكثر. وقد اقترنت العقيدتان الأرضيتان القسطنطينية والأموية بظواهر أساسية مشتركة كبرى، أهمها:
- تبجيل الدين الأصلي، والظهور بمظهر الحامي له ولأتباعه والمبشر به.
- العمل على تحريف الدين الأصلي، وتعويم معالمه، وضرب رموزه الأصيلة.
- تحويل الحكم الديني الى حكم شمولي مطلق، والى ملكية وراثية.
- التوسع الجغرافي الإمبراطوري السلطوي، باسم الدين، عبر شن الحروب على الشعوب، واستعبادها، وإكراهها على اتّباع الديانة الغازية، والاستيلاء على أراضيها وضمها الى إمبراطورية الديانة الغازية.
وإذا كان الملك الوثني قسطنطين الأول قد بدأ حركته التوسعية الاستعمارية، بعد اعتناقه المسيحية، ثم اختطاف تعاليمها، وتحويلها الى الركيزة العقدية لحركته الاستعمارية، ومطلقاً على نفسه ألقاب القديس ورسول المسيح، لكي يشكل ذلك بيعة دينية له في أعناق الشعوب المحتلة والمستعبدة، وضماناً لاستمرار استعباد الشعوب بسلطة الدين؛ فإن ورثته ساروا على سيرته، وكانت وسيلتهم في تحقيق أهدافهم الاستعمارية أيضاً: شن الحروب وذبح الناس واضطهادهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم باسم المسيحية، أو القسطنطينية بكلمة أدق، حتى تمكنت الإمبراطورية الرومانية من احتلال معظم أوروبا وكثير من شمال أفريقيا وغرب آسيا، تحت شعار نشر المسيحية. كما سار على نهج قسطنطين أغلب أباطرة أوروبا وملوكها من بعده، حتى استحالت الديانة المسيحية ديانة أوروبية سلطوية، وركيزة من ركائز الاستعمار الأوروبي، في الوقت الذي تتعارض ممارسات الاستبداد والاستعباد والاضطهاد، ونهب أراضي الغير وثرواته واسترقاق أعراضه؛ تعارضاً تاماً مع تعاليم السيد المسيح المتمثلة بالمحبة والأخوة والتسامح والسلام، ورفض العدوان وإراقة الدماء.
أما الاستكبار الأموي، فهو الآخر استعار منهجية قسطنطين وورثته في الاستيلاء على أراضي الغير، واستعباد الشعوب، بحجة نشر الدين الإسلامي، وتحت عناوين الفتوحات ووحدة الدولة الإسلامية، وهو ما لم يفعله الرسول محمد، بل أن بديهيات الشريعة الإسلامية في العدل والمساواة، وحرمة الدماء والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال، وحرية الاعتقاد واحترام الأديان وأتباعها، والعطف والرحمة تجاه جميع البشر، بل تجاه الحيوان والنبات؛ تتعارض مع المنهج الاستكباري الاستعبادي الذي أسسه له معاوية وأل أمية.
ولعل هذا المنهج ينسجم مع سيرة معاوية وأسرته، وهم الذين حاربوا الإسلام طويلاً، ثم اعتنقوه كيداً، حتى تمكّنوا من الإطاحة بالشرعية الدينية، والاستيلاء على السلطة في الدولة الإسلامية. وحينها كرّس معاوية مشروع تحريف عقيدة الإسلام وشريعته وسلوكياته، وعمل على تحويل الإسلام الى دين مركّب، محمدي في ظاهره، وأموي في جوهره. كما أعطى لنفسه ألقاباً دينية، ككاتب الوحي وأمير المؤمنين وخليفة رسول الله، لتكتمل حلقات المؤامرة على الإسلام والعدوان على الشعوب الأخرى، كما فعل قسطنطين تماماً بديانة السيد المسيح. كما ظلت الديانة الأموية هي الايديولوجية الدينية السياسية التي تعتنقها الأسر التي حكمت المسلمين بعد سقوط الأسرة الأُموية، كالعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين والوهابيين، إذ قام هؤلاء أيضاً، بنشر عقيدتهم السلطوية الاستعمارية، بهدف الاستيلاء على أراضي الغير، واستعباد الشعوب، وهي عقيدة تتعارض مع دين الرحمة والإنسانية والأخلاق ورفض الإكراه كما نص القرآن وأكده رسول الله محمد، وتمسك به آل بيته.
ولعل النجاح الأساس الذي حققته العقيدة القسطنطينية هو أنها استطاعت إقناع عموم المسيحيين بأن الخروج على قسطنطين هو خروج على السيد المسيح نفسه، أي أن الخروج على الإمبراطور وعلى الدولة والسلطة وعلى الاحتلال والاستعباد، هو كفر وخروج على الدين. وهو النجاح ذاته الذي حققه الدين الأموي نسبياً؛ إذ كان كل من يرفض الدين الأموي وسلطانه، يعد خارجاً على الإسلام والمؤسسة الدينية الرسمية.
بيد أن مشكلة الديانة الإسلامية أقل تعقيداً من مشكلة الديانة المسيحية في موضوع التحريف والاختطاف، لأن النبي محمداً وضع ضمانتين أساسيتين للحيلولة دون اختطاف الإسلام اختطافاً جوهرياً ودائماً، وهما القرآن الكريم وأئمة آل البيت، المعبِّران عن إسلام رسول الله، وهي خاصية لا تتوافر في الدين المسيحي، فقد عملت النهضات والثورات العلوية المتوالية ضد الحكم الأموي ثم العباسي، والجهود العلمية والدينية والتبليغية التي قام بها أئمة آل البيت؛ عملت على تقويض أغلب معالم الدين الأموي، ولولا ذلك لاستحال الإسلام ديناً أموياً، كما استحالت المسيحيةُ قسطنطينيةً بامتياز. مع الأخذ في الاعتبار أن أغلب الدول الشيعية في التاريخ، من الحمدانية والبويهية وحتى الصفوية والمزيدية، هي دول سلطانية وراثية أيضا، وقد وصلتها عدوى السلوكيات الإمبراطورية من الدول المنتسبة الى الى المذاهب السنية.
وتزامناً مع جهود أئمة آل البيت، فإن كثيراً من فقهاء مدرسة الخلافة، استطاع النأي بنفسه عن الدين الأموي، والتأسيس لفرق كلامية ومذاهب فقهية مستقلة عنه، وهو ما تمظهر بالأشعرية والمعتزلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرها، برغم احتفاظ هذه الفرق والمذاهب بمنظومة الفقه السياسي السلطاني الوراثي. وفي المقابل، مارس الشيخ السلفي أحمد بن تيمية وتلامذته، وصولاً الى محمد بن عبد الوهاب، جهوداً استثنائية للحفاظ على العقيدة الأموية بكثير من تفاصيلها، ثم نجح ابن عبد الوهاب خلال القرن التاسع عشر الميلادي في إعادة الدين الأموي الى سابق عصر ازدهاره خلال حكم معاوية ويزيد ومروان بن الحكم، ولايزال.
النهضة العلمانية ضد المسيحية الأوروبية
بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار “الدنيوية” وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة ما يرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لا علاقة للاهوت به.
ويمكن القول بأن هذا الصراع ــ في أحد أوجهه ــ هو صراع بين الجذور الوثنية الإلحادية لأوروبا، التي سبقت اعتناق الأُوربيين للمسيحية، وبين المسيحية الأوروبية السلطوية بجوهرها الثيوقراطي. وقد نتج عن انتصار النخب الأوروبية العلمانية لمعركتها مع سلطتي الكنيسة والحكم المطلق؛ تقويضاً للتحالف التاريخي بين الدولة والكنيسة، وتقويضاً لمنظومة الاستبداد الديني والسياسي، وظهور منظومة فكرية وسياسية جديدة قائمة على الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية، وعلى الفصل بين التشريعات وسلطات الدولة من جهة، وبين تشريعات الكنيسة والحاکم من جهة أخرى، أي أنه لم يكن ــ في حقيقته ــ فصلاً بين الدين والدولة، وإنما بين الدولة وسلطة الكنيسة التي تمثل لاهوتها الخاص اللصيق بالمسيحية القسطنطينية وتعاليم المجمع المسكوني الأول.
وبالتالي؛ مثّل هذا الانتصار انقلاباً أوروبياً على الاجتماع السياسي والديني لمنظومة المسيحية القسطنطينية، واستعادةً لجزءٍ أساسٍ من الاجتماع السياسي والديني الأوروبي الوثني الإلحادي القديم، أي أنه كان عودة – بوعي وبدونه – الى الحكمة الأوروبية اليونانية والرومانية التي سبقت تأسيس المسيحية القسطنطينية في القرن الرابع الميلادي، وهي الحكمة القومية الإلحادية والوثنية والطوطمية، وشيء من اللاهوت الفلسفي.
وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني (الكنيسة).
وارتبطت العلمانية بأطروحات مفكري عصر النهضة الأوربية وفلاسفته، الذين تميزوا بمناهضتهم للكنيسة وعموم الفكر الديني، بدءاً بـ “جون لوك” و”فولتير” و”دنيس ديدرو” و”باروخ سبينوزا” و”جيمس ماديسون”، وانتهاءً بخلفائهم “جورج جاكوب” و”بويسون” و”بيرتراند راسل” و”كانت”. كما تزامن نشوء العقيدة العلمانية وتبلور بنيتها الفكرية. وقد كان المذهب الليبرالي أحد أبرز المذاهب الفكرية والسياسية المكملة أو التفسيرية للعقيدة العلمانية، بوصفه أحد تمظهرات عصر النهضة الاوروبية، وثمرة صراعها مع الاستبداد السياسي والكنيسي والإقطاعي، والذي قام على قاعدة الحريات الفردية والاقتصادية والمدنية والسياسية والفكرية والثقافية والأخلاقية، وكان أبرز مفكريه “جون ستيوارت ميل” في القرن التاسع عشر الميلادي، الذي تماهت أفكاره مع ما سبق أن طرحه “جون لوك” بشأن نقض نظرية الحق الالهي والوحي والملكية المطلقة وتدخل الكنيسة في التشريعات وسلطات الدولة، الى جانب عدم الركون الى غير التفسير المادي للحياة.
وقد أنتجت الليبرالية نظاماً سياسياً قائماً على قواعد الديمقراطية، وأنتجت نظاماً اجتماعياً عنوانه أصالة الفرد، وأنتجت نظاماً اقتصادياً مظهره الرأسمالية، ويعد “آدم سميث” الذي عاش في القرن التاسع عشر، أبرز منظري الليبرالية الاقتصادية. ويعد مفكرو عصر النهضة بأن الليبرالية هي أهم ما أنتجه هذا العصر، الى المستوى الذي يرى بعضهم أن العلمانية نفسها هي نتاج تلقائي لليبرالية.
وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الإلحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.
إلّا أن دول أوروبا العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، لم تتخل عن الايديولوجية الاستعمارية القسطنطينية، كما لم تتخل عن الديانة الروحية المسيحية، بل احتفظت بهما معاً، واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع السلطة الروحية للمسيحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها. فعلى الرغم من تخلص أوروبا من سلطة الكنيسة والدين، إلّا أنها احتفظت بعنوان التبشير المسيحي كركيزة استعمارية أيضاً، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.
لذلك؛ كانت الدولة الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا مقتنعتين بأن إخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لا يستتب إلّا باتباع هذه الشعوب لدين المحتل وايديولوجيته.
العلمانية قاعدة الاحتلال الاستعماري الغربي المستدام
لم تكتف جيوش الاستعمار العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي، على الشعوب المحتلة، كما مر في الأقسام السابقة، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية، فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.
وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.
ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بإنجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسيين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعميمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.
هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الاستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.
وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين، دون أن يسأل أحدهم: ما هو الدين الذي يقصده الغرب؟ هل هو الدين الروحي الأخلاقي المسيحي، أم الدين الإسلامي المتكامل في عقيدته وشريعته؟ وهل يمكن نقل مناخات قرون من الصراع العلماني الأوروبي مع المسيحية القسطنطينية، الى بيئات المسلمين؟!
والحقيقة؛ إن الخصوصية المحلية التراكمية للبيئة الأوروبية ودينها المسيحي التلفيقي؛ تجعلان من غير الممكن نقل تجربة الانقلاب على المسيحية الأوروبية السلطوية الحاكمة، الى بيئات أخرى، ومنها بلاد العرب والمسلمين؛ فلا البيئة الأوروبية وصيرورتها التراكمية الاجتماعية والتاريخية تشبه بيئات المسلمين ومسارات تكوينها، ولا المسيحية الروحية الأوروبية تشبه الدين الإسلامي وعقيدته وتشريعاته المتكاملة، بل إن الإسلام يختلف جذرياً حتى عن الديانة المسيحية الروحية الأخلاقية الأصلية نفسها، وليس المسيحية الأوروبية وحسب، لأن دين السيد المسيح يخلو من التفصيل العقدي ومن التشريع، وهو ما ينسجم مع الواقع الذي ظهرت في إطاره رسالة السيد المسيح، بل هو الأمر الذي اضطر المبشر “بولس” الى التأسيس للعقيدة المسيحية بالتدريج، وكتابة أغلب الإنجيل بعد عقود على عروج السيد المسيح، كما اضطر الكهنوت المسيحي الى التحالف مع الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين الأول، لحماية المسيحيين ونشر المسيحية، مقابل إعلانه قديساً وإمبراطوراً للمسيحيين وللعالم، ومبشراً بالمسيحية بالسيف والقهر.
ولذلك؛ ليس مستغرباً أن تشكل النخب المسيحية الشرقية أغلبية رواد الانقلاب العلماني على الدين في بلاد المسلمين، بالنظر لقرابتها الروحية الدينية مع أوروبا المسيحية، ولأنها تتماهي لزاماً مع النخب الأوروبية الثائرة ضد النظم الثيواقراطية والاستبداد الكنسي، والتي باتت تمسك بزمام السلطات الاستعمارية والجيوش المحتلة لبلاد المسلمين، وباتت تشكل دعماً دينياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مباشراً لمسيحيي الشرق خاصة. وربما كانت هذه النخب تشبِّه معاناتها من الثيوقراطيات المسلمة وعموم مناخاتها الاجتماعية، وخاصة الدولة العثمانية، بمعاناة أبناء دينها المتحررين من الثيوقراطيات المسيحية والاستبداد الكنيسي.
ولعل أهم ستة مفكرين عرب قادوا حملة الترويج للفكر العلماني والمذهب الليبرالي في المجتمعات العربية، هم: أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وفرح انطوان، وهؤلاء نصفهم مسيحيين، وهو عدد كبير قياساً بنسبة المسيحيين العرب الى عدد سكان البلاد العربية المسلمین، ما یعني أن أغلبية نخب مسيحيي الشرق تمثل أنموذجاً للتبعية الروحية والفكرية والسياسية للمد العلماني الأوروبي السلطوي. وفي الوقت نفسه، لم تكن النخب المسلمة بمنآى عن هذه التبعية، كما ذكرنا، لكن الثأثيرات العاطفية للقرابة الدينية والشعور بالاستقواء الديني لدى النخب المسيحية، ظل يلعب دوراً مهماً في هذا المجال.
العلمانية بين شريعة محمد وشريعة عيسى
بذل علمانيو البيئة الإسلامية قصارى جهودهم للمساواة بين الديانة المسيحية الأوروبية الثيوقراطية السلطوية وقاعدتها الروحية الأخلاقية العيسوية، وبين إسلام محمد بن عبد الله وشريعته، وصولاً الى استخدام معادلات الانقلاب العلماني الأوروبي على المسيحية الأوروبية التلفيقية، وإسقاطها على الواقع الإسلامي، وكان هدفهم فرض مخرجات عصر (التنوير) العلماني الأوروبي وفكره ونظمه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، على بلاد المسلمين، أي أنه هدف عقدي استعماري، وليس هدفاً نهضوياً، لأن هذه المساواة والإسقاطات، مبنية على الجهل بجدلية العلاقة بين التراكم التاريخي للوقائع الاجتماعية، والذي يعطي للبيئة الاجتماعية خصوصياتها وأنماط حياتها وفلسفتها في العيش، وكذلك الجهل بالفرق الجوهري بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، أي أنها تشبيهات وإسقاطات متهافتة، وتعاني من انسدادات فكرية عميقة.
وبمراجعة متأنية لمبادئ الإسلام وتعاليمه وأصوله وفروعه وأحكامه؛ يمكن بسهولة وعي حقيقة استحالة الفصل بين منظومة الشريعة الإسلامية، وبين الشأن العام والدولة والسياسة والاقتصاد والثقافة المجتمعية؛ فأغلب أحكام الشريعة، تنطوي على أنساق ونظم اجتماعية لتنظيم حياة المسلمين بكل جوانبها، سواء في الجانب العبادي والروحي أو في الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والقانونية، أي أن السياسة والعمل السياسي وأهداف العمل السياسي والممارسة السياسة والحكم؛ كلها جزء من شريعة الإسلام وثوابته، كما إن السياسة والحكم في القرآن وسنة رسول الله والأئمة، ليسا فعلاً أو فكراً أو هدفاً مستقلاً عن الدين وشريعته، بل هما جزء لا يتجزأ عن الإسلام. كما لا يوجد فصل – مطلقاً – بين أجزاء الشريعة الإسلامية، فهي تكمل بعضها الآخر. وهذا كله غير موجود في دين السيد المسيح وسنته وسيرته.
وعليه؛ فإن ثنائية الدين والسياسة أو الدين والدولة، لاوجود لها في الإسلام، لأن هذه الثنائية هي نتاج دين مختلف عن الإسلام، ومناخ ديني فكري سياسي مختلف عن مناخ الشريعة الإسلامية ومخرجاتها، إذ ظل المناخ الأوروبي يعيش طيلة قرون طويلة معادلة الصراع بين النظم الثيوقراطية والملكية المطلقة والكنيسة من جهة، والمقاومة العلمانية الأوروبية ذات الجذور الوثنية من جهة أخرى، والتي انتهت الى ما عرف بعصر التنوير والنهضة الأوربية الفكرية والعلمية والقانونية والسياسية، وظهور الأنظمة العلمانية (الليبرالية الديمقراطية)، بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وهي وقائع تراكمية تاريخية لا تمت الى مناخ الشريعة الإسلامية بأية صلة.
ولذلك؛ فإن قياس الإسلام وشريعته، على الديانة المسيحية والنظم الثيوقراطية الأوروبية، إنما هو قياس باطل منهجياً، وكذلك قياس الصراع بين الكنيسة وجماعات التنوير في عصر النهضة الأوربية، على المنظومة الدينية الإسلامية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي لبلاد المسلمين، هو قياس باطل أيضاً، لأن هناك اختلافاً حاسماً وأساساً بين الشريعة الإسلامية والعقيدة المسيحية، وبين سلطة الكنيسة ودورها من جهة، وسلطة الشريعة الإسلامية ودور المرجعية الدينية الإسلامية من جهة أخرى. فديانة النبي عيسى المسيح الأصلية، هي عبارة عن تعاليم روحية وأخلاقية، ولا يوجد فيها شريعة ولا نظم اقتصادية وقانونية وسياسية وجهادية، كما أن النظام الكنسي برمته هو مخلوق بشري بالكامل، وليس له أي أصل تشريعي ديني. وبالتالي؛ فإن العلمانية هي نتاج محلي أوروبي مسيحي، ذو جذور وثنية، ومفصل على مقاسات المناخ الأوروبي وديانته ومخاضاته وظروفه وصراعاته الاجتماعية، ولا يمكن أن تكون منظومة فكرية سياسية إنسانية عامة، يمكن استيرادها وفرضها على بيئات أخرى مختلفة، كالبيئة الإسلامية.
أما ديانة النبي الخاتم محمد؛ فإنها ترتكز على عقيدة وشريعة متعاضدتين، تستوعبان كل النظم الحياتية، كما تشتملان إلزاماً على سلطة تنفيذية تعمل على تطبيق هذه النظم بالوسائل التي حددتها الشريعة نفسها، أي أن الإسلام لا يتضمن عقيدة وشريعة وحسب، بل يحتوي على أدوات مقننة حاسمة لحماية العقيدة وتطبيق الشريعة وتنفيذ أحكامها، وهو ما تفتقد إليه كل الديانات الأخرى، ما يعني أن العمل السياسي في الإسلام يقننه الفقه السياسي الإسلامي ويهدف الى تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال المرجعية الإسلامية والدولة.
لذلك؛ أرى من الضروري جداً أن يطّلع العلمانيون في البلدان الإسلامية على أحكام الشريعة الإسلامية في مصدريها الأصليين (القران والصحيح من السنة الشريفة) والمصادر الاجتهادية، خاصة الأحكام الاجتماعية، بدلاً من إطلاق الأحكام جزافاً، وتقمص شخصية المفتي بدون علم، وليتعرفوا على مستوى موضوعية فتاواهم القاضية بفصل الإسلام عن السياسة والدولة وعموم الشأن العام، وفيما لو كان ذلك ممكناً من منظار الإسلام.
ربما يمكن للمسيحي أن يقول بأن المسيحية هي ديانة تربط الفرد بخالقه فقط، ولا علاقة لها بالسياسة والدولة والتشريع، ولعله يستدل على ذلك بأن السيد المسيح لم يؤسس دولة ولم يأمر أتباعه بتطبيق أحكام الشريعة المسيحية، بسبب عدم وجود فقه اقتصادي وفقه مالي وفقه سياسي وفقه جهادي وفقه معاملات وعقود فيها، ولكن؛ ماهي حجة المسلم العلماني حين يزعم أن الدين الإسلامي لا علاقة له بالسياسة وبالدولة، وليس فيه نظرية اقتصادية ولا نظرية سياسية ولا نظرية قانونية؟!
العلمانيون يفتون بتعطيل الشريعة الإسلامية
أوضحنا ـــ فيما سبق ـــ حقيقة عدم وجود ثنائية في الإسلام اسمها الدين والسياسة، أو الدين والدولة؛ فالشريعة الإسلامية الخاتمة تتضمن كل الأطر التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، ولا يوجد فصل بين أجزاء الشريعة الإسلامية، فهي تكمل بعضها. كما أن الشريعة الإسلامية لم تخيّر المسلمين بين تطبيق أحكامها وعدم تطبيقها، بل وضعت قواعد ملزمة لتنفيذها، بما في ذلك الأحكام الاجتماعية العامة ذات العلاقة بالنظم السياسية والاقتصادية والقانونية. ومن يقول غير ذلك؛ فعليه الاطلاع على أحكام الشريعة الإسلامية في مصدريها الأصليين (القران والصحيح من السنة) والمصادر الكاشفة (الإجماع والعقل).
وحين يفتي علمانيو البيئة الإسلامية بعدم وجود علاقة بين الدين من جهة، والسياسة والدولة والتشريع العام من جهة أخرى، وأن الدين مجرد علاقة بين الفرد وربه؛ فهم أمام تفسيرين، إما أنهم يجهلون وجود تشريعات لتنظيم الشأن العام للمجتمع المسلم، أو أنهم يعلمون بوجودها، لكنهم يعدونها غير صالحة الآن، وفي كلا الحالتين هم يفتون بغير علم وخارج اختصاصهم. وإذا كان العلماني ذو الجذور المذهبية السنية، يواجَه بإشكالية تأسيس النبي لدولة وحكومة وسلطات وتشريعات، وواصله من بعده الخلفاء؛ فإن العلماني ذا الجذور المذهبية الشيعية سيقع في مفارقة أكبر تتعلق برئاسة الإمام علي والإمام الحسن للدولة الإسلامية، وممارستهما للعمل السياسي والحكومي وللعسكري والقضائي.
ثم أن من بديهيات المذهب الشيعي هو إيمان المنتمي إليه بوجود الإمام المهدي المنتظر؛ فماذا ستكون مهمة الإمام المهدي حين يظهر؟! هل سيجلس في المسجد ويصلي بالناس فقط ويعلمهم العبادات، أو أنه سيؤسس دولة وحكومة وسلطة؟! فإذا لم يكن في الإسلام دولة وسياسة وسلطة وتشريعات عامة؛ فبأي شريعة سيحكم؟! هل سيطبق العلمانية بأحد ايديولوجياتها؟ هل سيحكم بعقيدة ماركس أو ميشيل عفلق أو جمال عبد الناصر أو روسو او مونتسكيو أو لنكولن؟! أم انه سيحكم بشريعة جده محمد بن عبد الله؟! فإذا لم يكن محمد قد أسس دولة ولم يكن علي حاكماً؛ فبأي سنة وسيرة سيحكم الإمام المهدي؟!. والأهم من ذلك كيف سيدير الإمام المهدي الدولة الإسلامية؟ هل سيقوم بذلك من خلال العبادات فقط والصلاة والصوم والمكوث في المسجد، وبالأخلاق الفاضلة والوعظ والإرشاد؟ أو بالعمل السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والإعلامي؟ ثم إذا لم يكن في القرآن الكريم والسنة الشريفة كل الأطر التشريعية لهذه الأمور، فهل سيبتدعها الإمام المهدي، أو أنه سيعتمد على النظريات السياسية والاقتصادية الوضعية؟! فيطبق مثلاُ الديمقراطية الليبرالية، ويتبنى الاقتصاد الرأسمالي واقتصاد السوق، وربما يطبق الاقتصاد الاشتراكي ويحصر وسائل الإنتاج بيد الدولة!!.
أما إذا كان العلماني الشيعي لا يؤمن أساساً بوجود الإمام المهدي وظهوره، ويعتبر ذلك خرافة، ومن اختراعات الإسلاميين؛ فهو غير مشمول بهذه الأسئلة؛ إذ لا يمكن الاحتجاج عليه بذلك، بسبب عدم إيمانه بالبديهيات الشيعية، وهو حر بما يعتقد، ولكن من المهم جداً أن يعلن عن ذلك صراحة، ليريح نفسه ويريح الآخرين. أما إذا احتج الشيعي العلماني بأن التشريعات العامة ذات العلاقة بالحكم الإسلامي وسلطاته وغاياته، هي تشريعات خاصة بعصر النبي فقط أو الأئمة الإثني عشر، أسوة بما يقوله المتشرعون الذين لا يؤمنون بقيام حكم إسلامي في عصر غيبة الإمام المهدي، وبتعطيل التشريعات العامة خلالها؛ فهذا الاحتجاج بحاجة الى دليل تخصصي، أي بحاجة الى الرجوع الى المصدرين المقدسين الملزمين ( القرآن الكريم والصحيح من سنة النبي وأهل بيته)، لنتبيّن هل أن القرآن والسنة حددا فترة تطبيق التشريعات الإسلامية في المجالات الحكومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية والقضائية، بعصر النبي والأئمة فقط.
ولا شك إن التوصل الى الجواب التخصصي المطلوب بهذا الشأن، يحتاج – كما ذكرنا – الى فهم دقيق للقرآن والحديث والسيرة والرجال واللغة، وغيرها من العلوم الشرعية والمنهجية. فهل يتمتع الشيعي العلماني بهذا الفهم التخصصي قبل أن يعلن عن فتاواه بهذا الشأن؟! وهنا؛ ينبغي تفكيك الإشكاليات وحصر الاختصاصات، ومن أولويات ذلك ابتعاد العلمانيين عن إصدار الفتاوى في قضايا الدين والشريعة، لأنه ليس اختصاصهم، بل اختصاص الفقهاء وعلماء العقيدة حصراً.
ونطرح ما يلي عدداً من الدلالات على فتاوى العلمانيين في موضوع العلاقة بين الإسلام والشأن العام، أو ما يعبرون عنه بفصل الدين عن السياسة والدولة:
1- إن العلمانيين يتطفلون على اختصاص علمي دقيق، ويقتحمونه دون أن تكون لديهم دراية بعلومه ومعارفه ومناهجه، بدءاً بعلوم العقيدة والكلام والقرآن والحديث والرجال والفقه، وانتهاءً بمناهج الشريعة والاجتهاد فيها، وليست لديهم القدرة العلمية على الإفتاء وإصدار الأحكام الشرعية؛ فكيف إذا كانت هذه الفتاوى ترتبط بجانب حياتي أساس، هو الشأن العام وقيادة المجتمع والسياسة والاقتصاد والتشريع. فيأتي العلماني، ويفتي بكل سهولة وسذاجة: ((الدين لا علاقة له بالسياسة والاقتصاد، ويجب فصل الدين عن الدولة، وأن النبي محمد لم يؤسس دولة، وأن الإسلام دين روحي وعبادي، وعلاقة بين الفرد وربه))، وغيرها من الفتاوى الكبيرة. والحال؛ إن إصدار الفتوى والحكم الشرعي والرأي الديني هو عمل تخصصي عميق، وهو اختصاص الفقهاء وعلماء العقيدة والمفسرين حصراً.
2- إن العلمانيين حين يفتون بفصل الدين عن الدولة والسياسة والشأن العام؛ فإنهم بذلك يهدفون الى إقصاء خصومهم الإسلاميين عن ممارسة العمل السياسي والحكومي، بوسائل وأساليب غير نبيلة، ويحاولون الاستفراد بالحكم، كما كانوا دائماً متفردين بالسلطة ويمارسون استبداداً ودكتاتورية وفاشية مطلقة ضد من يعارضهم، ولاسيما ضد الإسلاميين. ولاتزال رائحة دماء الإسلاميين الذين ذبحهم العلمانيون تشم في المقابر الجماعية والسجون والمعتقلات والشوارع والأزقة والأهوار والصحاري. وبالتالي؛ فإن دعوات العلمانيين لإقصاء الدين عن الدولة والحياة العامة؛ تقف وراءها محاولات التفرد بالحكم، والتمهيد لسياسات القمع والإقصاء والتشريد والقتل ضد الإسلاميين.
3- إن العلمانيين يعملون على تزييف الحقائق الموضوعية، لأنهم حين يطبقون معايير العلمانية التي نشأت في أوروبا، في إطار مخاضات خاصة بالبيئة الأوربية وبصراعات التنويريين مع الكهنوت المسيحي، على بيئة إسلامية عربية لها خصوصياتها الدينية والعقلية والاجتماعية، فإنهم بذلك يقيسون الشريعة الإسلامية بالشريعة المسيحية، ويشبّهون المرجعية الدينية الإسلامية ومنظومتها بالكنيسة المسيحية في عصور أُوروبا المظلمة وما بعدها كما ذكرنا سابقاً. وبهذا التزييف يعمل العلمانيون على مصادرة عقول الناس والضحك عليهم واستلاب وعيهم، وهي جريمة عامة لا تقل خطورة عن جريمة الإفتاء في الموضوعات الدينية بدون علم، أو جرائم القمع الفكري والسياسي والاجتماعي التي ظلت الأنظمة والأحزاب العلمانية الدكتاتورية تمارسها، منذ أن فرضها الاستعمار على البلاد العربية والإسلامية.
العلمانيون الشيعة الجدد وتكرار الأوهام
إن مقولات العلمانيين الشيعة الجدد ضد النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومكوناته، أو ما يغلفونه بالمصطلحين المتهافتين: (السلطة الدينية) و(الإسلام السياسي)؛ إنما هو تكرار لمقولات ومفاهيم بائسة قديمة، ظل يكررها المفكرون العرب والمشرقيون، المهووسون بمناهج الفكر الأوروبي الليبرالي والقومي والماركسي، أمثال: شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ومحمد امين وأحمد لطفي السيد وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وفؤاد زكريا وصادق جلال العظم ومراد وهبة ومحمد أركون وفرج فوده وعزيز العظمة وطيب تيزيني وجورج طرابيشي، وكثير من المفكرين الإيرانيين والأتراك، من منظري ما يسمونه بمشروع (التنوير) الإجتماعي المدني العلماني المعاصر، والذي أسبغت عليه أدبيات الشيوعيين والبعثيين والناصريين والقوميين الفرس والترك، مسحة ايديولوجية فلسفية اجتماعية محلية.
والحقيقة أن فكر العلمانيين العرب والإيرانيين والأتراك، إنما هو ترجمات للعنف الفكري الذي مارسه مفكرو ما عرف بعصر النهضة الأوربية ضد الكنيسة والفكر الديني؛ بدءاً بـ “جون لوك” و”فولتير” و”كانت” و”دنيس ديدرو” و”باروخ سبينوزا” و”جيمس ماديسون” وانتهاءً بخلفائهم “جورج جاكوب” و”بويسون” و”برتراند رسل”. ثم تبناها وطبقها في أنظمة البلدان المسلمة، طغاة مؤسسون، أمثال أتاتورك ورضا بهلوي وسوكارنو والحبيب بورقيبة.
كما أن أغلب العلمانيين الشيعة الجدد، يستقون أفكارهم الهجينة من المشاكسات الفكرية لليسار الديني الإيراني في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وخاصة أفكار عبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان ومحمد مجتهد شبستري ومحسن كديور، وقبلهم علي شريعتي في كتابه الرديء “التشيع العلوي والتشيع الصفوي” وغيره، والذي يخلط بين الفقهاء ووعاظ السلاطين، ويساوي بين عالم الدين و(الروزخون)، ويحمِّل الفقيه الشيعي وزر المفتي الوهابي.
وبالرغم من أن أفكار علي شريعتي (التنويرية) الستينية والسبعينية أصبحت (خرده) في ايران، وتبخرت منذ ربع قرن تقريباً، لكن العلمانيين الشيعة الجدد المهووسين بمصطلح (التنوير)؛ حوّلوا هذه الأفكار الى تابوهات مقدسة، ليس حباً بشريعتي أو سروش، ولكن بغضاً بالمؤسسة الدينية الاجتماعية الشيعية والحركات الإسلامية. وبات هذا البُغض جزءاً من أدبيات ما يسمونه “التيار المدني” أو “الدولة المدنية” أو “عقلنة الحكم” أو “فصل العقيدة عن الدولة”، و”تاريخية النص الديني” و”ظرفية التشريعات الإسلامية”، وهي صيغ تقليدية من النظم الفكرية العلمانية الغربية التي ترددها قواعد العلمانيين في البيئات العربية والإسلامية دون وعي بمفاهيمها، ودون معرفة بجذورها غالباً. ولذلك؛ فإن وزر ترديد هذه المقولات لا تتحمله – غالباً – هذه القواعد البريئة فكرياً، بل يتحمله المثقفون العلمانيون الشيعة، الذين يدرك أغلبهم أن الفلسفات الاجتماعية العلمانية لا يمكن أن تحكم واقع البلدان الإسلامية؛ لأنها تتعارض مع المنظومات الدينية الاجتماعية للمسلمين، ولاسيما الشيعة.
ويتحدث هؤلاء العلمانيون عن المجتمع الشيعي وكأنه يعيش منعزلاً في جزيرة نائية، وأن بإمكانه رسم مصيره لوحده، دون أية موانع وعقبات موضوعية، ودون تأثير وتأثّر بمحيطه الإقليمي، سواء المعادي أو المتعاطف، ودون اعتبار لمشتركاته المذهبية وتاريخه السياسي والاجتماعي المذهبي المشترك مع الشعوب الأخرى، ككل أمم العالم المؤثرة والمتأثرة. كما أنهم لا يضعون في حسبانهم (بيئة الأمة) أو (بيئة المكون الاجتماعي) وتأثيراتها وضغوطاتها؛ فهذه البيئة هي (الوسط الموضوعي) الذي يعيش فيه المكون الشيعي. وبالتالي؛ لا علاقة للفقهاء و(سطوتهم) بإيجاد هذا الوسط، بل أن الفقهاء وشيوخ العشائر وقادة الأحزاب يعيشون تحت وطأة هذا الوسط أيضاً. وبما أن الشيعة يعيشون ـ كغيرهم ـ وفق قوانين الفيزياء الاجتماعية (رد الفعل الاجتماعي) من جهة، وقوانين علم النفس الاجتماعي (الموروث النفسي والعقل الجمعي) من جهة أخرى؛ فإن ضغوطات الوسط الموضوعي التي تجر قسراً الى تطبيق هذه القوانين؛ تزيد من لجوء الشيعة ـ يوماً بعد آخر وبزخم أكبر ـ الى الكيانات الاجتماعية المحضة، أو الاجتماعية الدينية، أو الاجتماعية السياسية، والتي يعتقدون أنها تحميهم، كشيخ العشيرة وقائد الحزب الديني وعالم الدين، في مقابل كيان الدولة السياسي القانوني وسلطتها. وإذا أصبح هذا الكيان محايداً تجاه شيعة البلد، فإنه كان و لايزال على خصومة مع الشيعة في البلدان الأخرى، ويستهدف وجودهم بقوة.
وفضلاً عن أوهام الخلط بين شريعة عيسى وشريعة محمد، وإلزامات كل منهما؛ فإن العلمانيين الشيعة الجدد يخلطون أيضاً بين مشايخ الحكومات ووعاظ السلاطين، الذين يلوون عنق الدين ويصادرون عقل الأمة ويكفرون الآخر وينشرون الكراهية ويشجعون على الطائفية، وبين فقهاء الشيعة المسالمين المدافعين عن مجتمعاتهم، والداعين الى السلام وحقن الدماء ونبذ الطائفية والعنصرية.
ويتصور العلمانيون الشيعة، إذا أحسنا الظن بهم، أن الترويج للعلمانية ومناهج التفكير الليبرالي والدعاية المضادة الرامية الى هدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي وإضعاف مؤسسة المرجعية الدينية وضرب الحركات الإسلامية، سيساهم في توعية المجتمع الشيعي واستنهاضه، وفي إنقاذه من سطوة الفقهاء ومن يحتمي بهم من سياسيين إسلاميين كما يقولون، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فهم يساهمون في تحفيز المنظومة الطائفية ضد المجتمعات الشيعية، وتوفير المسوغات الفكرية والدعائية لتكفير الشيعة وذبحهم من ناحية الخصم التكفيري الطائفي، كما أنهم يفتحون الأبواب على مصراعيها لدخول التكفيريين الى بيوت الشيعة، وتقديم مادة جاهزة لهم لضرب التشيع وأتباعه. ولعل بعض العلمانيين والليبراليين الشيعة الجدد، لا يحملون في دواخلهم نوايا الإضرار بمجتمعاتهم، وإيذاء أبناء جلدتهم، لكنهم يعيشون انفعالات الواقع السياسي وفشله وفساده، ولا يفكرون بموضوعية تجاه الدين ونظمه، والنظام الاجتماعي الديني الشيعي وعلاقتهم العضوية بمكوناته، شاءوا أم أبوا.
العلمانية المتدينة والتدين العلماني
من أهم أدلة استحالة تطبيق العقيدة العلمانية والمذهب الليبرالي في حياة المسلمين الاجتماعية والسياسية، هو الحضور القوي للشريعة الإسلامية في هذه الحياة، بنسب متفاوتة، ووفق كل بلد ومجتمع، وهو ما يجعل دساتير البلدان الإسلامية ومنظوماتها القانونية تراعي حضور الشريعة الإسلامية على كل الصعد، بل حتى النخب العلمانية، العسكرية والمدنية، التي سيطرت على حكم أغلب البلدان الإسلامية، ظلت مجبرة على التوليف بين أفكارها العلمانية وبين شريعة الإسلام التي يدين بها أغلب الشعب. ولم يقتصر هذا التوليف على النظام السياسي وحسب، بل يشتمل على مجالات التشريع والقضاء والتنفيذ أيضاً، وخاصة مع وجود الأحزاب والجماعات الإسلامية النافدة شعبياً، والحاضرة في مفاصل الدولة، ولاسيما البرلمان. وأدى ذلك الى محاولات نوعية وكمية للتصالح بين الأفكار المتعارضة، من أجل إرضاء أصحابها، كونهم جميعاً شركاء في الوطن وإدارته.
ويرتكز هذه التصالح العشوائي على قاعدة التوليف بين مرجعية الشريعة الإسلامية والمرجعيات الوضعية في مجال التشريع وفي رسم مسار الاجتماع السياسي، وهي أحد أهم صور الإسلامية الانتقائية أو العلمانية الانتقائية. وتعد أغلب الأنظمة السياسية للبلدان المسلمة نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الأنظمة ليست علمانية، لا شكلاً ولا مضموناً، وليست إسلامية أيضاً؛ بل أنظمة هجينة في عقيدتها السياسية، الى مستوى التعارض في تشريعاتها ونظمها الإدارية والقضائية، أي أنها علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى، ليس في جانب الممارسة وحسب، بل في بنى النظام السياسي الفكرية والقانونية والإدارية أيضاً. ويعود هذا الإرباك في بنى النظام السياسي في البلدان المسلمة الى طرائق استيراد المسلمين للأفكار، أو تصديرها اليهم من الاستعمار قسراً، كالعلمانية والليبرالية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والعنصرية القومية والدولة القومية وغيرها؛ إذ دخلت هذه الأفكار وعي المسلمين بطرائق يغلب عليها الطابع الانفعالي والمزاجي، واختلطت بإرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ الأمر الذي أفرز أفكاراً ونظماً مشوهة لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق، برغم أن النخب المحلية تطلق على نتاجاتها الهجينة المسميات الغربية والشرقية نفسها.
وقد كان نتاج الخلط الانفعالي بين الايديولوجية الإسلامية والايديولوجيات الفكرية والفلسفية التي تنتمي الى مناخات اجتماعية تاريخية مختلفة؛ ظهور مخلوقات غريبة تحمل عناوين إسلامية وعلمانية في الوقت نفسه، كالديمقراطية الإسلامية، والماركسية الإسلامية، والمجتمع المدني الديني، والإسلام التنويري، وصولاً الى ظهور رجال دين ملحدين، ومتدينين شيوعيين. وهو انعكاس للفوضى المعرفية التي تعيشها الدولة والنخب السياسية والثقافية. ويعبِّر هذا التهجين الانفعالي عن أكبر ألوان العجز، بعد أن قرر الإسلاميون والعلمانيون تطويع الواقع الإسلامي لمذاهب فكرية لم يفرزها، ونظام اجتماعي لم تنتجه بيئة المسلمين، وذلك ليحقق الطرفان هدف الشراكة السياسية القسرية والتحاصص في القواعد الفكرية للدولة ونظام الحكم من جهة، ولكي يتمظهر الإسلاميون بالواقعية وبمظاهر التحضر والمدنية على النمط الايديولوجي الغربي، ويبعدون عن أنفسهم شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف من جهة أخرى.
والحقيقة أن كل هذا الجهد التوفيقي البراغماتي لا يمكنه بناء أسس رصينة لدولة متماسكة فكرياً، ولا حكومة قوية، فضلاً عن أنه لا يقنع الغرب ولا يرضيه، لأن النخب السياسية والثقافية الغربية تدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التهجين الانفعالية تلك بفكره ونظمه، ولذلك؛ لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان المسلمة ولا ديموقراطيتها ولا اشتراكيتها. في حين أن الغرب في اعتناقه الليبرالية العلمانية؛ إنما يلتصق بمناخاته وبحقائقه الموضوعية، وينسجم مع واقعه؛ فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية تاريخية وواقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والاستبدادية الفردية من جهة، وخصومها من جهة أخرى، تعبّر عن فصلٍ شبه كاملٍ بين العقيدة الدينية، وبين الدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض، وبالتالي؛ فالدولة الغربية العلمانية حيادية بين الدين (المسيحي) واللا دين في كل المجالات.
أما علمانية أنظمة البلدان المسلمة، فهي علمانية من طراز خاص، يمكن أن نطلق عليها مصطلح الأنظمة «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»، لأنها أنظمة ليست حيادية بين الدين واللا دين، كما هو مقتضى العلمانية، بل أنها أنظمة متدينة في بنيتها؛ فهي تولي الدين أهمية كبيرة، ليس على صعيد النشاط الاجتماعي، بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها ومؤسساتها أيضاً، أي أنها لا تفصل بين الدين والدولة، ولا تفصل بين الشريعة والسياسة، ولكنها تنتقي مجالات اللقاء والفصل، وفق ما تقتضيه مصالحها وأهدافها الخاصة. فمثلاً تؤكد أغلب دساتير البلدان المسلمة على أن الإسلام هو دين الدولة، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع أو أحد مصادر التشريع في الدولة، وهذا هو التناقض الأهم مع جوهر العلمانية وفلسفة المذهب الديمقراطي وأي مذهب أرضي آخر، لأن كون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع أو أحد مصادره، يعني أن السلطة التشريعية لن تكون حرة أو مطلقة اليد في تشريعاتها، وإنما ستكون ملزمة (نظرياً حداً أدنى) بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية، كونها مرجعية التشريع وليس الشعب.
كما أن لأغلب دول المسلمين مرجعية دينية رسمية تحمل لقب «المفتي»، الذي يمتلك صلاحيات لها علاقة ــ أحياناً ــ بعمل الدولة وسياساتها العامة، بل أن بعض الحكومات تستند في بعض ممارساتها السياسية إلى فتاوى هذا المفتي، لإضفاء طابع الشرعية الدينية على تلك الممارسات، كما تخصص بعض الحكومات مؤسسات دينية لها حق الرقابة والفيتو على النتاجات الثقافية والفكرية والفنية ذات العلاقة بالموضوعات الدينية. أما على مستوى القضاء فهناك دول تحيل أحكام الإعدام على مفتي الدولة لإقرارها وإمضائها، وليس على رئيس الدولة، ما يعني أن الأحكام القضائية، ولا سيما ما يرتبط بالقوانين المدنية والجزائية، خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية.
ولكن؛ لا يمكن إطلاق صفة «النظام الإسلامي» على مثل هذه الأنظمة، لأنها لا تدّعي ذلك أساساً، فضلاً عن وجود اختلاف بنيوي بينها وبين الحكم الإسلامي، فالأخير خاضع للدين والعقيدة والشريعة الإسلامية في هيكله ونظمه وممارساته، وكل مجالات حركته وعمله، بما في ذلك الأهداف والغايات والسياسات والمشروعية والأركان والسلطات والتشريعات والسلوكيات. وبالتالي؛ فالحكم الإسلامي لا يفصل ـ بأي نحو كان ـ بين العقيدة والشريعة من جهة، والدولة وأهدافها وقوانينها ونشاطاتها من جهة أخرى، لأنها دولة تأسست على العقيدة الدينية وليست دولة سياسية. أما الأنظمة التوفيقية الهجينة فهي تنتقي من التشريعات والنظم الإسلامية ما يناسب واقعها السياسي، وكذا تنتقي ما يناسبها من التشريعات والنظم العلمانية.
ولا تتمثل مشكلة هذا التهجين في قاعدة الاقتباس من النتاجات البشرية المحايدة فكرياُ وفلسفياُ، أو ما يمكن أن يسمى بالأدوات والآليات والتقنيات، سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو التعليمي أو التشريعي أو القضائي، وهي قاعدة مقبولة، بل تتمثل المشكلة في عشوائية التهجين المطبّق وعدم منهجيته، وخضوعه لرغبات الجماعات الحاكمة وأمزجتها ومصالحها وصفقاتها السياسية.
ولذلك؛ فإن تخلص الدولة من كل ألوان العبثية الفكرية المذكورة، يُعد الخطوة الأولى باتجاه إعادة بناء الدولة بناءً فكرياً منهجياً سليماً وواقعياً، وهذا لا يعني دعوةً الى تأسيس دولة إسلامية عقائدية، وإن كان من حق الجماعات الإسلامية التنظير لذلك، ولكن الهدف يتمثل في بناء دولةٍ تستند الى التشريعات والنظم التي تنسجم وهوية الأمة، بكل مكوناتها وتوجهاتها الفكرية، وليس وفق منهجية الترضيات الانفعالية والمزاجية. وهذه المهمة العلمية الفكرية الرصينة ينبغي أن لا يباشرها السياسيون، بل يتركونها للمفكرين والفقهاء وعلماء الاجتماع السياسي وخبراء القانون الدستوري. وستمثل نتاجات هؤلاء الاختصاصيين قواعد ملزِمة لمشاريع الدساتير والقوانين والنظم، لأن رفع التعارضات في مواد الدستور والنظام القانوني، سواء المتعلقة بالأسس الفكرية للدولة أو مؤسساتها، سيسد الذرائع والثغرات، التي ربما يسيء استغلالها المشرِّع أو التنفيذي الذي يعمل وفق تفسيراته الفئوية وايديولوجيته الخاصة.
اختبارات صعبة أمام العلمانيين العرب والمسلمين
إذا كان علمانيو البلدان الإسلامية، موضوعيين في التشبث بمعادلة صراع النخب العلمانية في عصر التنوير والنهضة الأوروبية مع الكنيسة المسيحية وأنظمة الحكم المطلق، وإسقاط هذه المعادلة على واقع المسلمين؛ فينبغي عليهم عدم إطلاق النار عشوائياً على دين محمد بن عبد الله وتشريعاته والنظم التي يفرزها، بل النظر بدقة الى حقيقة الدول والأنظمة المتشبِّهة بالثيوقراطيات المسيحية القسطنطينية، وتحديداً نسختها الأموية السلطانية، لأن الإسلام لا يفرز دولة ثيوقراطية، ولا نظاماً سياسياً ملكيا وراثياً، ولا مؤسسة دينية كهنوتية، وكل ما أنتجه واقع المسلمين منذ معاوية وحتى الآن، من أنظمة ثيوقراطية سلطانية وراثية، كالأموية والعباسية والإدريسية والفاطمية والأيوبية والبويهية والسلجوقية والعثمانية والصفوية والقاجارية والبهلوية والهاشمية والسعودية؛ أنما هي أنظمة تستند الى فكر سياسي أرضي استبدادي، لاعلاقة له بالفقه السياسي الأصيل الذي تفرزه الشريعة الإسلامية الحقة. أما دولة الشريعة الإسلامية، فهي دولة القانون والحقوق والحريات، وأن نظامها السياسي ـــ في غياب إمامة أل البيت ــ هو نظام يمثل عقيدة الأمة وإرادتها ووعيها بنفسها.
وإذا كان العلمانيون الجدد الفاعلون في البيئة الإسلامية، صادقين في الانخراط في معركة نهوض العرب والمسلمين، وتقدمهم ونمائهم القانوني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ومعركة تحقيق الاستقلال الكامل، وانتزاع الحقوق والحريات؛ فأدعوهم الى ما يلي:
1- دراسة تجربة النظم والأحزاب العلمانية في البلدان العربية والإسلامية التي حصلت على الاستقلال السياسي منذ أربعينات القرن الماضي وما بعده، وطنية وقومية وشيوعية، مدنية وعسكرية، والتي أمعنت في تبعيتها الفكرية الى الغرب أو الشرق، وفصلت الدين وشريعته عن الدولة والتشريع، وبالغت في محاربة الجماعات الإسلامية، وكذلك دراسة البنية القعمية والإقصائية لهذه الأحزاب والأنظمة، وأسباب تخلفها وفسادها، وفشلها الذريع في بناء الدولة، وفي إقامة نظمها القانونية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، وفشلها في إحداث نماء اجتماعي مستدام أو تطور علمي وتكنولوجي، حتى وإن كان نسبياً.
2- دراسة تجربة ثلاثة بلدان إسلامية، حكمها الإسلاميون عبر آليات ديمقراطية، هي: ايران وماليزيا وتركيا، والقفزات النوعية التي حققتها على كل المستويات، قياساً بالأنظمة العربية العلمانية، المدنية والعسكرية، وإن كان لكل منها بعض القواعد المذهبية والفكرية والأنساق العامة التي تختلف عن الأخرى، لكنها تشترك في كونها أنموذجاً للحكومات المسلمة غير الثيوقراطية وغير العلمانية، وأنها استعارت أدوات وأليات ديمقراطية، وأن أحزاباً إسلامية ايديولوجية تتفرد بحكمها. ولا أتحدث هنا بمنطق الميول العقدية والسياسية إطلاقاً، بل بمنطق الواقع الملموس، سواء اختلفنا مع هذه البلدان الثلاثة أو اتفقنا.
3- الإعلان عن الاستقلال الفكري والمفاهيمي الكامل، عبر رفض المذاهب الفكرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الغربية، والتشريعات والنظم التي تفرزها، لأن سيادة الدولة واستقلالها السياسي واستقلال سلطاتها وأحزابها، لا تنفصل إطلاقاً عن استقلالها العقدي والفكري والتشريعي، ومن يعتقد بأن الفلسفات والأفكار والمذاهب والتشريعات التي أنتجتها البيئات الدينية والاجتماعية الأخرى، بناءً على الوقائع التراكمية؛ تصلح لبيئات أُخرى، مختلفة جذرياً، وأن بالإمكان استعارتها وتطبيقها في بيئات أُخرى؛ فهو يجهل ببديهيات نشوء الأفكار والمذاهب والنظم والتشريعات، وامتداد صلاحيتها، وعلاقتها الجدلية بالواقع الاجتماعي وعقيدته وأحداثه التراكمية، ولا يختلف هنا المذهب الفكري بين علماني ليبرالي أو ماركسي شمولي.
4- بموازاة التخلص من أعباء التبعية والعمالة الفكرية والسياسية؛ ينبغي على علمانيي البيئة الإسلامية إنتاج أفكار ونظم اجتماعية وسياسية واقتصادية وتشريعية محلية وطنية، لا تتعارض مع الواقع العقدي والفكري والاجتماعي للمسلمين. ويعني عدم التعارض هنا، إمكانية استعارة الآليات والأدوات الإنسانية المفيدة والناجحة التي يمكن أن تكون مشتركاً عاماً بين البشر.
5- تركيز المعركة مع النظم الثيوقراطية الوراثية التابعة سياسياً للغرب، والتي يتعارض أصل وجودها مع بديهيات الفكر العلماني والمذهبين الليبرالي والديمقراطي، ومع منظومة الحقوق والحريات الإنسانية، وكذلك مع الأنظمة العسكرية والدكتاتورية، الشبيهة بالنظم الثيوقراطية الوراثية في تبعيتها الفكرية والسياسية للغرب.
ولعل من أكبر التناقضات التي ظلت النخب العلمانية في البلدان الإسلامية تسقط فيها، منذ تصاعد الغزو الفكري الغربي، هو دعمها لأنظمة الحكم الوراثي المطلق، والدكتاتوريات العسكرية والمدنية، بل وإصرار هذه الأنظمة على استخدام النخب العلمانية لتلميع صورتها والترويج لها، وبالتالي؛ يتبين أن مشكلة هذه النخب ليست مع هذه الأنظمة التي تتعارض شرعيتها وممارساتها مع الفكر العلماني وركيزتيه الليبرالية والديمقراطية، بل مشكلتها مع الإسلام نفسه، لأنها لا تكف عن الصراخ بأن الإسلام دين بلا دولة، أسوة بالديانات المسيحية والبوذية والهندوسية والفلسفات الطاوية والكنفوشيوسية، وأن الشريعة الإسلامية متخلفة تصلح لزمان صدور أحكامها فقط، وأن هذه الأحكام تتعارض مع الحقوق والحريات، وأن المؤسسة الدينية الإسلامية هي مؤسسة كهنوتية رجعية تعيش خارج العصر، أسوة بالكنيسة المسيحية قبل عصر النهضة الأوروبية. هذا في أحسن الأحوال طبعاً، وإلّا فإن مسلسل الاتهامات يطال حتى الرسول محمداً نفسه، والتشكيك برسالته وبكتاب الله.
العلمانية والقواعد المجتمعية والسياسية الإسلامية
انتهينا الى أن الخصوصية المحلية للبيئة الأوروبية ودينها الروماني القسطنطيني واقتصار الدين المسيحي أساساً على البعد الروحي الفردي من جهة، وشمولية الدين الإسلامي وشريعته الكاملة واختلاف البيئة الإسلامية من جهة أخرى؛ تجعل من غير الممكن نقل تجربة الثورة على المسيحية الرومانية الحاكمة، الى بيئات أخرى، ومنها بلاد المسلمين، فلا البيئة الأُوروبية وصيرورتها التراكمية الاجتماعية والتاريخية تشبه بيئة المسلمين ومسارات تكوينها، ولا المسيحية الرومانية وفكرها وفلسفتها وسلوكياتها، تشبه الدين الإسلامي السماوي بعقيدته وشريعته.
وعدا عن التعارض البديهي بين العقيدة العلمانية والشريعة الإسلامية، فإن المسلمين لا يحتاجون ـــ أساساً ـــ الى استيراد عقيدة جديدة تملأ الفراغات التشريعية والعقدية والفكرية والأخلاقية والسلوكية، إذ لا تعاني البلدان الإسلامية التي يدين ٨٠ بالمائة من سكانها بالإسلام، من هكذا فراغات، في ظل وجود الإسلام وشريعته، وهو ما يعني أن رفض هذا المنتوج الغربي يستند الى قواعد منطقية وعلمية. نعم؛ يمكن للمجتمعات التي تعاني من فراغات عقدية وتشريعية، أو من ضعف بنيوي ودينامي في معتقداتها وتشريعاتها، أو عدم قدرة هذه العقائد والتشريعات على الاستجابة للمتغيرات والتطورات الزمانية والمكانية، أن تتقبل أفكاراً مستوردة، بعد توليفها محلياً، كما فعل لينين وستالين وماو، حين فصّلوا الماركسية الألمانية الأوروبية على مقاسات روسيا والصين، في ظل وجود خواء فكري سياسي اجتماعي، أو كما فعلت الهند تحت الاحتلال الإنجليزي وما بعده، أو كما فعلت روسيا وأوروبا الشرقية بعد انهيار المعسكر الشيوعي، أو كما فعلت الدول الأفريقية غير المسلمة في ظل الاحتلال الأوروبي وما بعده.
كما أن المسلمين لن يقعوا في حيرة أو يكونوا بحاجة للبحث عن عقيدة بديلة إذا رفضوا العلمانية، لأن العلمانية ليست هي العقيدة الأصلية في المجتمعات العربية والمسلمة لكي يبحثوا عن بديل لها في حال رفضوها، بل هي المنتج الايديولوجي الغريب، التي أُريد ويراد لها أن تكون بديلاً لثوابت الإسلام وأصوله، فالأصل عند المسلمين هي الشريعة الإسلامية، ثم مناخاتهم الاجتماعية الدينية التراكمية. أما من ينبغي أن يبحث عن بديل للعلمانية، فيما لو رفضها، فهو من لا يمتلك ــ بالأساس ــ عقيدة وشريعة متكاملتين، كما هو الحال مع العالم الغربي الذي آمن بالعلمانية وأصولها وفروعها، وفصّلها على مقاساته.
ولا تتعارض الايديولوجيا العلمانية وأصولها وفروعها مع الدين الإسلامي وأصوله وفروعه وحسب، بل تتعارض مع والأعراف والقيم والنظم السياسية والاجتماعية التي أنتجها الواقع الإسلامي، ومن أهم هذه التعارضات:
1- تعارض الدولة العلمانية ودولة المسلمين:
إن الدولة التي تفرزها العلمانية ونظمها السياسية والقانونية، هي دولة تتموضع في مواجهة الإسلام وشريعته قطعاً، ولا توجد إمكانية للتوليف بينهما، إلّا في حدود الآليات والأدوات المحايدة التي تفرزها بعض النظم العلمانية، كآليات الديمقراطية، وهكذا المشتركات في الحريات التي تفرزها الليبرالية، أو جزء من النظام المصرفي، أو بعض التشريعات المدنية. وهذه الأطر التي لا تتعارض مع ثوابت الإسلام، هي بعض آليات النظم العلمانية، وليس فلسفتها وقواعدها الفكرية، لأن هذه الفلسفة تتعارض قطعاً مع ثوابت الإسلام وشريعته، لأنها فلسفة تستند الى المرجعية البشرية حصراً، بينما تستند ثوابت الإسلام الى المرجعية الإلهية الغيبية ونصوصها القرآنية والصحيح من السنة.
ولذلك؛ وقعت الأنظمة العلمانية في البلدان المسلمة، العسكرية والمدنية، في حيرة شديدة بين رغبتها في تطبيق النظم العلمانية السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، كما نظّر لها المستعمر المحتل الغربي، وبين نظم الإسلام وتشريعاته التي تؤمن بها الشعوب المسلمة المحكومة، فكان أمام الأنظمة العلمانية ورعاتها الغربيون خياران، إما إلغاء الإسلام كدين، أو التوليف بين تشريعاته وأعرافه وبين نظم الدولة العلمانية وتشريعاتها، فوقع الاختيار على خيار التوليف، وهكذا نجد هذه الأنظمة العلمانية أنظمة هجينة مركبة عجيبة، فلا هي علمانية ولا هي إسلامية، ربما باستثناء دولة أتاتورك التركية العلمانية. أما دساتير باقي البلدان المسلمة ونظمها القانونية، فقد أفرزت نظماً سياسية مدنية متدينة، ولا أقول دينية، بل متدينة، أي أنها تطبق جزءاً من التشريعات والأعراف الإسلامية، ولا تطبق أجزاء أخرى، ومثال ذلك النص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي وأن الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع أو أحد مصادر التشريع، وهو ما يعني عدم إمكانية أن تكون الدولة علمانية محضة في البلدان المسلمة، بينما يمكن ذلك بسهولة في الدول الغربية والدول التي يتبع سكانها ديناً ليس فيه نظماً وتشريعات، كالهندوسية والبوذية مثلاً، أسوة بالمسيحية.
هذه التناقضات هي جزء من العوامل التي جعلت الأنظمة العسكرية والمدنية العلمانية، وتياراتها الفكرية وأحزابها السياسية في البلدان المسلمة، محدودة في شعبيتها وامتداداتها الاجتماعية، ومتخبطة في خياراتها التشريعية وسياساتها الداخلية، وطوباوية في أفكارها وشعاراتها وأهدافها، ولا شك أنها ستبقى تعيش خارج الجغرافيا والتاريخ في البلدان المسلمة، فلا حاضر لها ولا مستقبل، إلّا بقوة السلاح والمال والدعم الخارجي، وهو ما تعودت عليه الشعوب العربية والمسلمة من هذه الأنظمة والأحزاب طيلة المائة عام الأخير.
وهناك من العلمانيين والإسلاميين من يفهم الدولة المدنية فهماً أحادياً وغير موضوعي، ويرى بأنها مرادفة للدولة العلمانية، وهذا الفهم غير صحيح؛ فهناك فهمان للدولة المدنية، يشتركان في التسمية فقط وليس في المضمون:
- الفهم الأول هو الذي يرى أن الدولة المدنية تحمل مضامين الدولة العلمانية ذاتها، وهي في مقابل مفهوم الدولة الإسلامية، أي أن نظم الدولة المدنية وتشريعاتها هي بشرية حصراً، ولا تخضع لأية مرجعية تشريعية دينية، وبأن تشريعات الإسلام ونظمه هي دينية، وتفرز دولة دينية، وبالتالي؛ تنطبق عليها قاعدة التعارض مع الدولة المدنية، ولابد من عدم إدخالها في نظم الدولة المدنية وتشريعاتها. أي أن الشعب ليس حراً في خياراته في إطار هذه الدولة، بل إن خياره الوحيد هو أن يختار من بين التشريعات والنظم العلمانية حصراً، وبالتالي؛ فهي تنطوي على ديكتاتورية مغلفة وإقصاء لإرادة الشعب.
- الفهم الثاني هو الفهم الموضوعي، الذي يرى بأن الدولة المدنية لا تعني أنها دينية كهنوتية، وليست دولة عسكرية، بل هي دولة تستند الى إرادة الشعب، وليس الى إرادة الحاكم الغالب، الديني والعسكري، وأن نظمها وتشريعاتها تقوم على ما تفرزه أغلبية السكان، عبر آليات مدنية ديمقراطية، تستند الى الاستفتاء والانتخاب، فإذا ارتأت الأغلبية إنشاء دستور علماني فلها ذلك، أو اختارت إنشاء دستور إسلامي فلها ذلك أيضاً.
2- تعارض النظام الاجتماعي العلماني والنظام الاجتماعي للمسلمين:
يعد النظام الاجتماعي الديني، المكون الأساس لبنية المجتمع في البلدان الإسلامية، ولصيق بتكوينه، فهو نظام ملتزم بالثوابت الدينية والقيم الاجتماعية الشرعية، في حين أن النظام الاجتماعي العلماني نظام منفلت، من وجهة نظر الأعراف والتقاليد المجتمعية في البلدان المسلمة، بل إن القوانين العلمانية تدعم هذا الانفلات، فالدعوة الى الإلحاد والتمرد على الدين والارتداد، مكفولة في القوانين العلمانية، في حين أنها تؤدي في المجتمع المسلم الى تمزق اجتماعي وفتن وصراعات لا تبقي ولا تذر. كما أن الانفلات الأخلاقي والسلوكي، بكل مظاهره المألوفة والشاذة، تكفله القوانين العلمانية وتدافع عنه، وتعاقب من يعترض عليه.
هذا فضلاً عن تعارض قوانين الأسرة والأحوال الشخصية والقوانين المدنية العلمانية ــ غالباً ــ مع التشريعات الإسلامية التي تنظم حياة المسلمين ومجتمعاتهم. وبالتالي؛ فإن فرض النظام الاجتماعي العلماني وقوانينه على مجتمعات المسلمين، أمر لا يمكن أن يذعن له المسلمون إطلاقاً، لأنه يتعارض مع الأحكام الدينية التي يتبعها المسلمون ويلتزمون بها منذ 1400 عاماً. وقد يقول بعض العلمانيين أن الأحكام الإسلامية متخلفة ولا تنسجم مع التطور والتقدم، وهنا نحيلهم الى خيار الاختيار والانتخاب الذي يتشدقون به، وينبغي عليهم اتخاذ الإجراءات المدنية الديمقراطية المتحضرة لتغيير قناعات المسلمين، وليس الاعتماد على أرادة الانقلابات العسكرية والعنف والدعم الغربي.
ولعل جزءاً مهماً من طوباوية العلمانيين في البلدان المسلمة، بكل ألوانهم الشيوعية والاشتراكية والليبرالية والقومية، وغربتهم عن مجتمعاتهم، وعدم وعيهم بحقائقها، وأولويات نهوضها وإصلاح أوضاعها السياسية والثقافية والاقتصادية والمعيشية، هو دخولهم في صراعات، عنيفة أحياناً، مع القيم الدينية، الضاربة بجذورها في الحقائق المجتمعية، فمنذ أكثر من قرن وحتى الآن، وهم يخوضون معارك شديدة مع التقاليد الدينية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي، مثل حرمة الخمور والسفور والعلاقات المحرمة بين الجنسين، وقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، ودور علماء الدين، والشعائر والطقوس الدينية الشعبية، وغيرها من المعارك. ورغم أنهم ظلوا يخرجون منهزمين في كل هذه المعارك، وتزداد كراهية الناس لهم، إلّا أنهم لا يكفون عن الاستمرار فيها، لأنها تمثل جزءاً من مهامهم المطلوب منهم تنفيذها.
3- ظهور الجماعات الإسلامية رداً على الأحزاب والأنظمة العلمانية:
إن ظهور العقيدة العلمانية وأحزابها ونظمها في البلدان العربية والإسلامية، لم يكن رد فعل على فشل تجارب الإسلاميين في الحكم، لأن استيراد أفكار العلمانية ومذاهبها، ونشوء أحزابها وأنظمتها السياسية الحاكمة، سبق ظهور الجماعات الإسلامية بأكثر من نصف قرن، كما أن الأنظمة العلمانية تمثل امتداداً فكرياً وثقافياً وارتزاقاً سياسياً للغرب، منذ بدء ظاهرة الاستعمار الغربي الحديث، الذي استبدل الاحتلال العسكري المباشر ــ غالباً ــ بالحكومات والأحزاب العملية التابعة له فكرياً وسياسياً واقتصادياً. واستمر هذا الوضع ولايزال مع كل المشاريع الاستعمارية في البلدان الإسلامية، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية ومشاركة الكيان الإسرائيلي والأنظمة العلمانية في المنطقة.
والصحيح تاريخياً؛ إن سبب ظهور الجماعات الإسلامية، منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى الآن، كان ولايزال في جانب كبير منه، رداً على عمالة الأنظمة والأحزاب العلمانية في البلدان العربية والإسلامية وتبعيتها للخارج، وتخلفها وفسادها وفشلها، وقمعها للشعوب، وليس العكس، فقد فرضت الأحزاب العلمانية نفسها على السلطة والشارع عبر الانقلابات العسكرية والعنف والمؤامرات السياسية والدعم الخارجي، وليس برضا الشعوب واختيارها وقناعاتها، لأنها ظلت من الناحية الفكرية والثقافية والسياسية غريبة عن المجتمعات العربية والمسلمة، وفاشلة في التأثير على قناعات الشارع المسلم، ولا تزال هذه الأنظمة والأحزاب تتخبط فكرياً وسياسياً منذ أكثر من قرن. وبرغم استعلائها الفكري والسياسي على الجمهور؛ فإنها تعمل على إعادة تسويق نفسها بأساليب شعبوية بعيدة عن النبل والتنافس الشريف مع الفرقاء الإسلاميين.
وليس الهدف هنا محاكمة التيارات العلمانية في قواعدها العقدية وفكرها السياسي، بل الهدف هو التعرف على نموذج الأحزاب والأنظمة العلمانية الناجحة والنزيهة والوطنية في البلدان العربية والإسلامية، والتي يريد العلمانيون إغراء المسلمين بها، لكي تكون بديلاً لحكومات الأحزاب الإسلامية الفاشلة والفاسدة!!؛ فعن أية ممارسة وأي تطبيق وأي سلوك يتحدث العلمانيون!؟، إذ لا يوجد حتى نموذج حكم علماني عربي ناجح واحد، بل أن تجاربها هو أسوء ما شهدته هذه البلدان، من عمالة وفشل وفساد وقمع، بكل عناوينها السياسية والايديولوجية الثانوية.
4 – حكم الجماعات الإسلامية داخل الأنظمة العلمانية:
إن الأحزاب الإسلامية، عدا الحاكمة في إيران وتركيا وماليزيا، دخلت في تجارب حكم قصيرة الأمد وفي بلدان قليلة، في مقابل الأنظمة والحكومات والأحزاب العلمانية التي ظلت تسيطر على البلدان العربية والإسلامية طيلة مرحلة ما بعد الاستعمار القديم وحتى الآن، والتي أسست لقواعد العمالة والتبعية للخارج، والفساد والفشل والتخلف والقمع والإرهاب، وبقيت أنظمة هذه الدول العائق الأساس أمام النمو السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويصعب أن يتغير ذلك حتى وإن حكمتها أحزاب إسلامية، كما حصل ويحصل في مصر وتونس والعراق مثلاُ. وبالتالي؛ ليس مسموحاً للجماعات الإسلامية أن تحكم بالشريعة الإسلامية وبالنظم الإسلامية السياسية والقانونية والاقتصادية والعسكرية، بل لا خيار أمامها سوى أن تحكم بالنظم والقوانين العلمانية الموروثة، أي أن الحكومة (الكابينة الوزارية) أو بعضها أو أغلبيتها، حتى وأن كانت بيد الإسلاميين، لكن نظم الدولة هي علمانية، وكذلك باقي الشركاء في الحكومة هم علمانيون أيضاً.
لذلك؛ ينبغي عدم الخلط بين أربع حالات لحكم الأحزاب الإسلامية، وهي:
- حكم حزب إسلامي في ظل نظام علماني، كحالة تركيا وماليزيا ومصر، وفيه يكون الحزب الإسلامي مقيداٌ بضوابط وأحكام الدستور العلماني والنظامين القانوني والسياسي العلماني للدولة، ولا يمكن حينها للحزب الإسلامي الحكم بالشريعة الإسلامية، لأن ذلك يتعارض مع الدستور والنظام السياسي، وبالتالي؛ لا يمكن أن نصف هذه التجربة بأنها تجربة حكم إسلامي، بل تجربة حكم حزب إسلامي.
- حكم حزب إسلامي بمشاركة أحزاب علمانية في ظل نظام علماني، كحالة العراق وتونس وإندونيسيا وباكستان، وهي حالة أقل إنتاجية وأقل إمكانية على النجاح من الحالة السابقة؛ لأن الحزب الإسلامي هنا سيكون مقيداٌ بضوابط وأحكام الدستور العلماني والنظامين القانوني والسياسي العلماني للدولة، إضافة الى التقيد بشروط شركائه العلمانيين في الحكومة والدولة، ولا يمكن حينها للحزب الإسلامي الحكم بالشريعة الإسلامية، لأن ذلك يتعارض مع الدستور والنظام السياسي وعقيدة شركائه العلمانيين، وبالتالي؛ لا يمكن أن نصف هذه التجربة بأنها تجربة حكم إسلامي، بل تجربة مشاركة حزب إسلامي في الحكم.
- حكم حزب إسلامي في ظل دولة الغلبة (الخلافة السنية التراثية)، كحالة أفغانستان، وهي حالة خارج الزمان وخارج التقويم.
- حكم حزب إسلامي في ظل نظام سياسي إسلامي، وهي الدولة الدينية المدنية، وهي حالة ايران المتفردة، والوحيدة التي يمكن وصفها بتجربة الحكم الإسلامي المعاصر، والوحيدة التي يمكن إخضاعها للتقويم الشامل، ومنها تقويم قدرة الجماعة الإسلامية على الحكم وعلى قيادة الدولة، وقدرة الفقهاء على الاستجابة لحاجات الدولة من الأحكام والفتاوي والنظريات الفقهية، وقدرة الشريعة الإسلامية على التطبيق، وذلك لأن هذه الحالة تمثل نظرياَ وعملياَ حكم الجماعة الإسلامية لنظام قانوني إسلامي ونظام سياسي إسلامي، وفي إطار دستور إسلامي، ولا يقيدها نظرياَ قيد داخلي وخارجي سوى قواعد القانون الدستوري وأحكام القانون الدولي.
هذه الحقائق تؤكد أن التجارب المحدودة لمشاركات الإسلاميين في الحكم، يصعب أن تنجح، بل أنها تحمل معها عناصر الفشل، في ظل أنظمة علمانية توارثت قواعد الفساد والفشل والتبعية على كل الصعد، ربما باستثناء تجارب الأحزاب الإسلامية في تركيا وماليزيا، وتجربة الحكم الإسلامي في إيران، وهي تجارب ناجحة ومتقدمة سياسياً وتنموياً وعلمياً وتكنولوجياً، بالقياس بتجارب الأحزاب العلمانية في (52) نظام علماني حاكم منذ عشرات السنين في البلدان العربية والإسلامية الأخرى.
ماذا يريد العلمانيون من المسلمين؟
أخصص خاتمة الدراسة للإجابة على سؤال طالما طرحه جمهور المسلمين، يتعلق بمطالب دعاة العلمانية المستوطنة وغاياتهم. أقول باختصار: العلمانيون يطالبون المسلمين، أفرداً وجماعات وحكومات، بما يلي:
- إلغاء الأحكام الاجتماعية والعامة من الشريعة الإسلامية.
- انتقاء بعض الأحكام الشرعية الشخصية فقط، ويلتزموا بما يحلو لهم منها.
- النظر الى القرآن بوصفه نصاً تاريخياً، وسنة النبي والأئمة بوصفها سيرة تاريخية، وبإمكان المسلمين الاعتزاز بالقرآن والسنة وتبجيلهما، لكن دون أن يطبقوا منهما سوى الإرشادات الروحية والأخلاقية التي لا تتعارض مع أخلاق العصر وقيم الليبرالية.
- حفظ أسماء وسير مفكري العلمانية الأوروبيين والأمريكيين، وأفراخهم العرب والإيرانيين والأتراك، ويتخذونهم أنبياء وأئمة.
- اختلاق ديناً روحياً جديداً ينسجم مع العلمانية ومع ذوق العلمانيين، مع الاحتفاظ بتسمية الإسلام، ليكون ديناً شكلياً إسمياً، دون أية مضامين، كما هو الحال مع المسيحية الروحية.
- إلغاء أي حضور للدين وشريعته في الدستور والنظام القانوني للدولة، وفي الإعلام والثقافة والتعليم ونظريات الأحزاب، لتكون هذه المجالات حكراً على العقيدة العلمانية وتمظهراتها فقط.
- التمرد، بوسائل الحرب الناعمة وبالعنف، على النظام الاجتماعي الديني والمرجعية الدينية والأحزاب الإسلامية، بذريعة فشل هذه الأحزاب، ويفسحوا المجال للأحزاب العلمانية للتفرد بالدولة وسلطاتها وقرارها.
- إعطاء الجميع، أفراداً وجماعات، حرية مطلقة في التعبير عن أية أفكار وسلوكيات، مهما كانت هدامة وناشزة ومخالفة للقيم الاجتماعية والدينية، وعدم التدخل فيها سلباً، بأي أسلوب ووسيلة.
- وفي النهاية: يطلب العلمانيون من المسلمين أن يقولوا لرسول الله: شريعتك هذه لا تعنينا، لأن ربك الذي أنزلها لا يعرف مصلحة البشر وحاجاتهم.
وباختصار أكثر؛ يريد دعاة العلمانية المستوطنة، إلغاء مضمون الإسلام والإبقاء على اسمه شكلاً، كما فعل مسيحيو أوروبا بدينهم، ويريدون احتكار الدولة وسلطاتها، كما فعل أسلافهم ويفعل أقرانهم في البلدان العربية والمسلمة، وكذلك تكرار ما فعله أسلافهم أيضاً من قمع للمؤمنين، ومنع الشعائر والطقوس بالقوة، ويريدون أيضاً تحويل الواقع السياسي والاجتماعي الى ساحة صاخبة للانفلات العقدي والفكري والأخلاقي والسلوكي.
أما شعارهم الذي يخبّؤون وراءه أهدافهم هذه، فهو شعار فشل الحركات الإسلامية وفسادها، وهو شعار أكثر تهافتاً من أهدافهم، لأنه يشبه الدعوة لاعتناق الوهابية لوجود شيعة سراق وكذابين ومتخلفين، أو التحول الى المسيحية لوجود حكومات مسلمة فاسدة، أو يشبه التحول الى الإلحاد لأن هناك متدينين إرهابيين، وبالتالي؛ فإن المنافسة النبيلة تقتضي أن لايختبئ العلمانيون وراء دعوى التنافس مع محاربة الإسلاميين، في معركتهم مع الدين والشريعة الإسلامية، لأن فشل تجارب الإسلاميين في الحكم لا علاقة لها بأصل الشريعة الإسلامية وشموليتها.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua