العلمانيون الشيعة الجدد وتكرار الأوهام

Last Updated: 2024/04/05By

العلمانيون الشيعة الجدد وتكرار الأوهام

د. علي المؤمن

إن مقولات العلمانيين الشيعة الجدد ضد النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومكوناته، أو ما يغلفونه بالمصطلحين المتهافتين: (السلطة الدينية) و(الإسلام السياسي)؛ إنما هو تكرار لمقولات ومفاهيم بائسة قديمة، ظل يكررها المفكرون العرب والمشرقيون، المهووسون بمناهج الفكر الأوروبي الليبرالي والقومي والماركسي، أمثال: شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ومحمد امين وأحمد لطفي السيد وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وفؤاد زكريا وصادق جلال العظم ومراد وهبة ومحمد أركون وفرج فوده وعزيز العظمة وطيب تيزيني وجورج طرابيشي، وكثير من المفكرين الإيرانيين والأتراك، من منظري ما يسمونه بمشروع (التنوير) الاجتماعي المدني العلماني المعاصر، والذي أسبغت عليه أدبيات الشيوعيين والبعثيين والناصريين والقوميين الفرس والترك، مسحة ايديولوجية فلسفية اجتماعية محلية.

والحقيقة أن فكر العلمانيين العرب والإيرانيين والأتراك، إنما هو ترجمات للعنف الفكري الذي مارسه مفكرو ما عرف بعصر النهضة الأوربية ضد الكنيسة والفكر الديني؛ بدءاً بـ “جون لوك” و”فولتير” و”كانت” و”دنيس ديدرو” و”باروخ سبينوزا” و”جيمس ماديسون” وانتهاءً بخلفائهم “جورج جاكوب” و”بويسون” و”برتراند رسل”. ثم تبناها وطبقها في أنظمة البلدان المسلمة، طغاة مؤسسون، أمثال أتاتورك ورضا بهلوي وسوكارنو والحبيب بورقيبة.

كما أن أغلب العلمانيين الشيعة الجدد، يستقون أفكارهم الهجينة من المشاكسات الفكرية لليسار الديني الإيراني في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وخاصة أفكار عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومحسن كديور، وقبلهم علي شريعتي في كتابه الرديء “التشيع العلوي والتشيع الصفوي” وغيره، والذي يخلط بين الفقهاء ووعاظ السلاطين، ويساوي بين عالم الدين و(الروزخون)، ويحمِّل الفقيه الشيعي وزر المفتي الوهابي.

وبالرغم من أن أفكار علي شريعتي (التنويرية) الستينية والسبعينية أصبحت (خرده) في ايران، وتبخرت منذ ربع قرن تقريباً، لكن العلمانيين الشيعة الجدد المهووسين بمصطلح (التنوير)؛ حوّلوا هذه الأفكار الى تابوهات مقدسة، ليس حباً بشريعتي أو سروش، ولكن بغضاً بالمؤسسة الدينية الاجتماعية الشيعية والحركات الإسلامية. وبات هذا البُغض جزءاً من أدبيات ما يسمونه “التيار المدني” أو “الدولة المدنية” أو “عقلنة الحكم” أو “فصل العقيدة عن الدولة”، و”تاريخية النص الديني” و”ظرفية التشريعات الإسلامية”، وهي صيغ تقليدية من النظم الفكرية العلمانية الغربية التي ترددها قواعد العلمانيين في البيئات العربية والإسلامية دون وعي بمفاهيمها، ودون معرفة بجذورها غالباً. ولذلك؛ فإن وزر ترديد هذه المقولات لا تتحمله – غالباً – هذه القواعد البريئة فكرياً، بل يتحمله المثقفون العلمانيون الشيعة، الذين يدرك أغلبهم أن الفلسفات الاجتماعية العلمانية لا يمكن أن تحكم واقع البلدان الإسلامية؛ لأنها تتعارض مع المنظومات الدينية الاجتماعية للمسلمين، ولا سيما الشيعة.

ويتحدث هؤلاء العلمانيون عن المجتمع الشيعي وكأنه يعيش منعزلاً في جزيرة نائية، وأن بإمكانه رسم مصيره لوحده، دون أية موانع وعقبات موضوعية، ودون تأثير وتأثّر بمحيطه الإقليمي، سواء المعادي أو المتعاطف، ودون اعتبار لمشتركاته المذهبية وتاريخه السياسي والاجتماعي المذهبي المشترك مع الشعوب الأخرى، ككل أمم العالم المؤثرة والمتأثرة. كما أنهم لا يضعون في حسبانهم (بيئة الأمة) أو (بيئة المكون الاجتماعي) وتأثيراتها وضغوطاتها؛ فهذه البيئة هي (الوسط الموضوعي) الذي يعيش فيه المكون الشيعي. وبالتالي؛ لا علاقة للفقهاء و(سطوتهم) بإيجاد هذا الوسط، بل أن الفقهاء وشيوخ العشائر وقادة الأحزاب يعيشون تحت وطأة هذا الوسط أيضاً. وبما أن الشيعة يعيشون ـ كغيرهم ـ وفق قوانين الفيزياء الاجتماعية (رد الفعل الاجتماعي) من جهة، وقوانين علم النفس الاجتماعي (الموروث النفسي والعقل الجمعي) من جهة أخرى؛ فإن ضغوطات الوسط الموضوعي التي تجر قسراً الى تطبيق هذه القوانين؛ تزيد من لجوء الشيعة ـ يوماً بعد آخر وبزخم أكبر ـ الى الكيانات الاجتماعية المحضة، أو الاجتماعية الدينية، أو الاجتماعية السياسية، والتي يعتقدون أنها تحميهم، كشيخ العشيرة وقائد الحزب الديني وعالم الدين، في مقابل كيان الدولة السياسي القانوني وسلطتها. وإذا أصبح هذا الكيان محايداً تجاه شيعة البلد، فإنه كان و لايزال على خصومة مع الشيعة في البلدان الأخرى، ويستهدف وجودهم بقوة.

وفضلاً عن أوهام الخلط بين شريعة عيسى وشريعة محمد، وإلزامات كل منهما؛ فإن العلمانيين الشيعة الجدد يخلطون أيضاً بين مشايخ الحكومات ووعاظ السلاطين، الذين يلوون عنق الدين ويصادرون عقل الأمة ويكفرون الآخر وينشرون الكراهية ويشجعون على الطائفية، وبين فقهاء الشيعة المسالمين المدافعين عن مجتمعاتهم، والداعين الى السلام وحقن الدماء ونبذ الطائفية والعنصرية.

ويتصور العلمانيون الشيعة، إذا أحسنا الظن بهم، أن الترويج للعلمانية ومناهج التفكير الليبرالي والدعاية المضادة الرامية الى هدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي وإضعاف مؤسسة المرجعية الدينية وضرب الحركات الإسلامية، سيساهم في توعية المجتمع الشيعي واستنهاضه، وفي إنقاذه من سطوة الفقهاء ومن يحتمي بهم من سياسيين إسلاميين كما يقولون، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فهم يساهمون في تحفيز المنظومة الطائفية ضد المجتمعات الشيعية، وتوفير المسوغات الفكرية والدعائية لتكفير الشيعة وذبحهم من ناحية الخصم التكفيري الطائفي، كما أنهم يفتحون الأبواب على مصراعيها لدخول التكفيريين الى بيوت الشيعة، وتقديم مادة جاهزة لهم لضرب التشيع وأتباعه. ولعل بعض العلمانيين والليبراليين الشيعة الجدد، لا يحملون في دواخلهم نوايا الإضرار بمجتمعاتهم، وإيذاء أبناء جلدتهم، لكنهم يعيشون انفعالات الواقع السياسي وفشله وفساده، ولا يفكرون بموضوعية تجاه الدين ونظمه، والنظام الاجتماعي الديني الشيعي وعلاقتهم العضوية بمكوناته، شاءوا أم أبوا.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment