العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب

Last Updated: 2024/04/05By

العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب

د. علي المؤمن

مرت العلاقات بين الغرب والمسلمين، بمراحل مختلفة، منذ بدء عملية الاحتكاك الثقافي بين الطرفين في أواسط العصور الوسطى؛ فقد مثلت المرحلة الأُولى حالة من التفاعل الثقافي والاحتكاك المنتج، ولم تتضمن أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلّف القياسي الذي كان يسود الغرب؛ فقد اقتبس الغرب من الحضارة الإسلامية ـ خلال هذه المرحلة ـ معظم عناصر نهوضه. والملفت للنظر، أن ما اقتبسه الغرب من مدنية المسلمين وحضارتهم، كان يدخل في إطار المشتركات العامة، الأمر الذي حال دون حصول أي نوع من أنواع التبعية للعالم الإسلامي، على العكس مما حدث في المرحلة اللاحقة، حين تغيّرت موازين المعادلة.

وفي المراحل اللاحقة التي بدأ فيه الواقع الإسلامي بالتراجع والتفتت، تغيّرت طبيعة العلاقة الغربية الإسلامية وآلياتها؛ إذ أدخل فيها الطرف الغربي مضامين جديدة، تزامناً مع بدايات تشكيل العقل الغربي الحديث، خلال مرحلة “عصر النهضة” الأوروبية. حينها اتجه الغرب الناهض الى تشكيل منهجه الجديد في معرفة الإسلام والمسلمين، وبلورته بالتدريج، من خلال الخلفية اللاهوتية السلطوية والوعي الإستشراقي والفكر العلماني والمعارف المنهجية الجديد، وخاصة في مجالات علم الاجتماع والانثربولوجيا والاثنولوجيا، إضافة إلى قاعدة التفوّق الاقتصادي والسياسي والعسكري.

وكانت النتيجة أن أصبح وعي الغرب بالإسلام والمسلمين، يمثّل جزءاً من وعي الغرب بذاته، كما ذكرنا سابقاً؛ فالغرب في إطار هذا الوعي ـ كما يقول مفكّروه ـ هو «الذات» و«العقل» و«القوة» و«الحقيقة» و«المركز». أما العالم الإسلامي فهو بالنسبة له يمثّل «الآخر» و«الجنون» و«الضعف» و«التمثيل» و«الأطراف».

هذا النزعة الاستكبارية الفوقية، كرّست الغرب بوصفه منظومة ايديولوجية (فكرية ـ سياسية)، وليس مجرد بقعة جغرافية، وجعلته يعطي الحق لنفسه بانتهاج مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي. ويتضح هذا المنهج من خلال الخطاب الغربي الحديث ومنهجه المعرفي. ولعل بريطانيا وفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، تمثل التجسيد الحقيقي للرؤية الغربية المتفوقة تجاه الآخر.

ولا شك أن المسلمين، وعموم دول العالم الثالث والجنوب، لايستطيعون تغيير الرؤية الغربية تجاهم، وليست لديهم القدرة الواقعية على تفكيك العقل الغربي، وإعادة صياغته، كما نجح الغرب قبل ذلك مع العقل المسلم غالباً، إلّا أن المسلمين بإمكانهم تشكيل رؤية واقعية متوازنة تجاه الغرب، تستند الى معايير العلاقة المتوازنة، والندية النسبية، والمصالح المشتركة، والممانعة الإيجابية، فلا رفض للمنتج الفكري والعلمي والسياسي والاقتصادي والثقافي للغرب بالمطلق، ولا قبول له بالمطلق، بل يكون الرفض والقبول معيارياً، وخاضعاً لمتطلبات الواقع، ولضوابط التكوين العقدي والفكري والثقافي الإسلامي.

    هذه المعيارية تحول دون الإنغلاق على الذات وحرمان الواقع الإسلامي من الاقتباس من النتاجات الغربية المحايدة المقبولة معيارياً، وفي الوقت نفسه تحول دون الإنسحاق والهزيمة أمام الغرب ونتاجاته وصادراته، أو الحيادية تجاه معاركه مع المسلمين، لا سيما معارك الخنق السياسي والغزو الإعلامي والحصار الاقتصادي والاختراق الاستخباري والتنكيل النفسي والضربات العسكرية.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment