العلاقة التفاعلية بين الواقع الاجتماعي ونشوء الأفكار
العلاقة التفاعلية بين الواقع الاجتماعي ونشوء الأفكار
د. علي المؤمن
إن وجود مساحات فكرية وتطبيقية مشتركة بين مدرستين اجتماعيتين أو نظامين سياسيين لا يتيح لأحدهما أن يحمل اسم الآخر، كما أن استثمار نظام معين بعض آليات نظام آخر لا يعني أنه يتنازل عن اسمه وخصوصياته لنظام آخر، ولا سيما إذا كان النظام السياسي يعبّر عن مشروع حضاري مستقل؛ فلكل منظومة فكرية أو مشروع حضاري خصوصياته التي يتميز فيها عن غيره من المشاريع؛ لأنه نتاج بيئة معينة مختلفة عاشت مخاضات وحوادث وتجارب وجدالات داخلية واسعة، ولم يأت نتيجة بحوث نظرية مجردة.
وإذا تصورنا وجود مساحات مشتركة بين النظامين الإسلامي والديمقراطي، وأن النظام الإسلامي استثمر بعض آليات الديمقراطية، فهذا لا يجعل النظام الإسلامي نظاماً ديمقراطياً ولا النظام الديمقراطي إسلامياً، فلكل منهما خصوصياته ومخاضاته. ومثال ذلك ما دعا إله بعض التيارات السياسية الفكرية في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية، إلى إضافة كلمة الديمقراطية إلى الجمهورية الإسلامية، محتجين بأن «الإسلامية» و«الديمقراطية» فكران ونظامان، يكمّل أحدهما الآخر؛ ومن خلال اجتماعهما، يمكن تحقيق أهداف الثورة في الاستقلال والحرية والجمهورية. بينما أصر آخرون على لفظ «الجمهورية الديمقراطية» متذرعين بأن الديمقراطية يمكنها استيعاب الأهداف السياسية للإسلام، في محاولة لتطويع هذه الأهداف الديمقراطية. ولكن الإمام الخميني رد على هذه الدعوات بقوله: إنهم يقولون: ضعوا لفظ الديمقراطية بدلاً من الإسلام، ليكون اسم البلد «الجمهورية الديمقراطية». إن هؤلاء لا يفهمون أين هي الديمقراطية التي ملأ اسمها العالم؟ وأي البلدان تعمل وفقاً للديمقراطية؟ وهذه القوى الكبرى، أيها تعمل بموجب الموازين الديمقراطية؟ فللديمقراطية معنى مختلف بين بلد وآخر… نحن نقول إنه شيء مجهول ولها في كل مكان معنى معين، ولا يمكننا أن نضمها في دستورنا، بحيث يستطيع كل واحد الاستفادة من أحد معانيها وصياغتها بشكل ينتهي لمصلحته. لذلك فإننا نقول: «الإسلام، ونكتفي به».
هذا المبدأ الذي ظل الإمام الخميني يعبّر عنه في خطبه ورسائله، ولا سيما خلال عام 1979، أعاد التأكيد على استقلال المشروع الحضاري الإسلامي الذي تطرحه الدولة الإسلامية ونظامها السياسي تحديداً، وقدرته على استيعاب إشكاليات الفكر الاجتماعي السياسي، وهو الأمر الذي يمكّن دعاة المشروع الإسلامي الحضاري من نفي الذرائع التي تدفع الآخرين للتشبث بالأفكار والمشاريع المستوردة الأخرى، والتسمي بأسمائها. وهذا من جهته لا يعني عدم وجود نقاط ومساحات للقاء بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى – كما مر – ولا شك في أن قبول النظام الإسلامي بهذه الحقيقة وعمله بما تمليه عليه، هو تعبير عن احترامه للتجربة البشرية المحايدة الناجحة، وعدم رفضه الاستفادة منها، انطلاقاً من الاشتراك في مجموعة القيم العامة والمثل العليا التي يؤمن بها كل عقلاء البشر، والتي تنسجم مع الفطرة الإنسانية.
إن خصوصية المشروع الحضاري تنطلق من خصوصية الإنتاج النظري والتجربة الاجتماعية، فالنظرية والتجربة المؤسستان على العقل والواقع البشريين لا بدّ أن يتميزا بخصوصيات ذاك العقل وهذا الواقع، بحيث «يكون هذا الإنتاج العلمي معبّراً، في معظم مقولاته، عن ثقافة المجتمع التي صيغ وتشكّل فيها العقل البشري الذي أنتجه، وعن الواقع الاجتماعي الذي ألقى بظلاله وفرض قضاياه وأولياته وأزماته عليه، فلا يستطيع أن يتجرد – مهما سعى لذلك – تجرداً كاملاً، وإنما يظل هناك قدر يمكن إرجاعه إلى خصوصية الزمان والمكان والإنسان».
هذه الخصوصية الملتصقة بالزمان والمكان وأهواء الإنسان ومزاجه وأساليب حياة المجتمع، ترتبط بالفكر الإنساني الوضعي، أما المعتقد والتشريع المعبّران عن نصوص وتشريعات دينية ثابتة فهما خارج إطار المكان والزمان والأهواء؛ بل هما للإنسانية كافة في أي زمان ومكان. في حين تظل هناك خصوصية زمانية ومكانية، وإن كانت باهتة وضعيفة، للفكر والتجربة المستندين إلى الأصول والمصادر الدينية.
وهذه القضية تحدث عنها – بإسهاب – كثير من الفلاسفة والمفكرين السياسيين، منذ بروز الفكر السياسي الوضعي بصوره المنهجية خلال العصر اليوناني وحتى الآن. كما نظّر لها فلاسفة عصر النهضة الأوروبية وطلائعها، ومنهم الفرنسيان «مونتسكيو» و«جان جاك روسو»، فالأخير في كتابه «العقد الاجتماعي» خصص الفصل الثامن لهذا الموضوع وأعطاه عنوان «في أن كل شكل من أشكال الحكومة لا يلائم كل بلد»، ويعدد الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والجغرافية التي تجعل لكل بلد ظروفه في اختيار النظام السياسي الذي يلائمه. وروسو بذلك يؤيد مونتسكيو الذي يعتقد بأن الحرية ليست ثمرة جميع الأقطار، ولذلك ليست هي في متناول أيدي جميع الشعوب. ويؤكد روسو: «في كل قطر وتحت كل جو، دواع طبيعية يمكن بها فرض شكل الحكومة، تدفعها قوة طبيعة القطر إلى اختياره، دون إغفال النظر إلى نوع السكان الذين يسكنون هذا القطر». أما المجتمعات التي تتبنى أنظمة وأفكاراً غريبة عن وضعها وواقعها فهي تمثل حالات شاذة، ولكن ما تلبث هذه الحالات أن تنتهي عاجلاً أم آجلاً، بما تثيره «من ثورات تعيد الأشياء إلى نظامها الطبيعي».
ويطرح عالم الاجتماع الألماني «كارل مانهايم» (1893 – 1947) رأياً معتدلاً في مجال العلاقة بين الفكر والواقع أو العقل والوجود، إذ يرفض أن تكون هذه العلاقة آلية وميكانيكية بحتة، ويعتقد بأن الفكر يرتبط بالظروف والأوضاع الاجتماعية، بمعنى أن حيوية الوضعية الاجتماعية وفاعليتها، إنما تثير الفكر حتى لا يتوقف أو يتجمد، وإنما يعتدل ويتبدل، مع تغيّر وتبدّل الظروف الثقافية والأوضاع التاريخية. فالصلة بين الفكر والواقع عند مانهايم – إذن – هي صلة انسجام وليست صلة جبرية حتمية؛ بل هي حركة تبادلية منسجمة. وحين تلتحم التصورات والأفكار بالظروف الاجتماعية، تحدث المعرفة، وحين يتصل الفكر بالظروف الوضعية، تتكوّن الحقائق وتتألف المعارف، ولذلك يكون المجتمع هو مصدر المعرفة (الأرضية – الوضعية) ومبعث الحقيقة. وعلى هذا الأساس تصدر المعارف والحقائق عن الواقع الاجتماعي وعلى نحو مباشر. وهو ما تؤكده – أيضاً – مدارس وضعية أخرى، كالمدرسة الماركسية، التي عبّرت على لسان الزعيم الروسي لينين (1870 – 1924) عن ضرورة الصلة بين النظرية والتطبيق، والفكر والواقع، فالثورة يستحيل وجودها دون نظرية ثورية تستند إلى الواقع.
ولا يقتصر هذا على الأفكار والتجارب السياسية المرتبطة بالواقع فحسب؛ بل ينطبق أيضاً على الاتجاهات الطوبائية والمثالية، إذ تبقى الفكرة السياسية مرتبطة بالتجربة الاجتماعية فنظرية أفلاطون – مثلاً – في جمهوريته برغم طوبائيتها، إلا أنها صدرت عن التجربة السياسية اليونانية. ونظرية المفكر الإنجليزي «جون لوك» انطلقت من واقع التجربة الثورية البريطانية، ومبدأ فصل السلطات (الديمقراطي) لدى مونتسكيو مأخوذ من النظام السياسي البريطاني. والفكر الماركسي أيضاً هو فكر نظر إلى الواقع الأوروبي، ولا سيما الألماني. أما تجربة التطبيق الماركسي في روسيا فهي لينينية – ستالينية قبل أن تكون ماركسية، وكذا الحال بالنسبة إلى التجربة الماركسية – الصينية، فهي إفراز لفكر ماوتسي تونغ (1893 – 1976) اللصيق بالواقع الصيني، ودون شك فإن من غير الممكن نقل الفكر الماركسي الماوي إلى بيئة أخرى وتطبيقه في تجربة شبيهة بالتجربة الصينية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي، فإن تطبيقه – بكل أبعاده – في بيئة أخرى غير البيئة التي ولد فيها، يعد تشويهاً لهذا الفكر وعملية قهر للبيئة الجديدة.
والحقيقة أن النظام الغربي التقليدي المعاصر يمثل تجربة تاريخية عميقة في جذورها الزمانية والمكانية، وفكراً تراكمياً مرتبطاً بالتاريخ الغربي والبيئة الاجتماعية الغربية والجغرافية السياسية والسكانية الغربية. فأهم عوامل ولادة هذا النظام تتمثل بما يلي:
1 – الصراع بين المجتمع من جهة وسلطة الكنيسة من جهة أخرى، في مجالات الفكر والعلم والسياسة والدين.
2 – الاستبداد السياسي والحكومات الشمولية المتمثلة بالملكيات المطلقة.
3 – القهر الاجتماعي والاقتصادي المتمثل بهيمنة أصحاب رؤوس الأموال والإقطاع والنبلاء على ثروات الشعب ومناصب الدولة.
هذا الواقع الذي عاش صراعاً داخلياً عنيفاً امتد مئات السنين، هو الذي أفرز النظام الغربي المعاصر بأسسه وعناصره المعروفة، وأبرزها: العلمانية، الاستعمار، العقلانية، أصالة الفرد والإرادة العامة. وتبلورت هذه العناصر في ثلاث منظومات فكرية وتجارب واقعية، ففي البعد السياسي تبلورت الديمقراطية، وفي البعد الاقتصادي الرأسمالية، وفي البعد الاجتماعي الليبرالية. ثم أفرزت هذه المنظومات مجموعة كبيرة من الأفكار والتجارب، كالحداثة والمعاصرة والمجتمع المدني وغيرها كثير، وما زالت الأفكار والتجارب التي تنتجها البيئة الغربية تتوالد وتفرز المزيد كأي بيئة أخرى. فالأحداث الكبرى والتجارب المتراكمة تؤدي إلى توالد وتناسل متواصل للأفكار، إذ ولدت العلمانية – مثلاُ – من رحم الصراع بين الكنيسة والمجتمع، والديمقراطية ولدت من رحم دعوات الإرادة العامة والحقوق والحريات، اللذين ولدا – بدورهما – من رحم الصراع بين الشعوب الأوروبية والاستبداد السياسي الذي تمارسه الحكومات الشمولية. وعلى هذا الأساس فإن الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية وغيرها، التي هي نتاج سلسلة واسعة من التفاعلات والجدل السياسي والفكري والاجتماعي والثقافي والديني والفلسفي في الغرب، قد تكون صالحة للتطبيق في الغرب، باعتبارها نتاجات غير مستوردة وليست نظرية مجردة؛ بل فرضتها حاجات البيئة الغربية ومستلزماتها. ومن هنا، فليس من الضروري أن تكون مجمل التجارب الغربية وأفكارها صالحة للبيئات والمجتمعات الأخرى، ومنها المجتمع المسلم، الذي لم يمر بمعظم المخاضات والأحداث التي مرت بها المجتمعات الغربية. وقد تكون الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية أفكاراً ونظماً إنسانية راقية، حققت إنجازات مهمة في الغرب ولكنها تبقى على مقاس الغرب، ولا يمكن تفصيلها على مقاس آخر.
هذه القضية تنسحب على النظام السياسي الإسلامي الحديث أيضاً، في البعدين الفكري والتطبيقي، فهو خاضع لمعادلات التطور والتوالد والتراكم في البيئة التي نشأ فيها. ومع أنه يستند إلى مصادر دينية، إلا أن بعض الصيغ التي يعتمدها، والتي تعبّر عن ثقافة محلية قد لا تصلح لمجتمعات أخرى؛ إذ يمكن استناداً إلى مبدأ ولاية الفقيه، الذي يعد مبدأً فقهياً عاماً، استنباط عدة نظم سياسية ودساتير، وفقاً لمتطلبات الزمان والمكان.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua