العراق والمشرق العربي
العراق والمشرق العربي: أولاً.. دائماً
(كلمة تحرير مجلة شؤون مشرقية، العدد الأول، 2008)
بقلم: علي المؤمن
رئيس التحرير
ظل المشرق العربي وجواره محور الأحداث الأكثر أهمية على مستوى العالم، منذ بدء عصر التحضر وحتى الآن. ومراجعة سريعة لنصوص الحكماء والباحثين والسياسيين والمستعمرين والمستشرقين، يتضح الإجماع على حظوة هذه المنطقة بعناصر التفرد والتميز: دينياً وتاريخياً وجيوستراتيجياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً. ونقصد بهذه المنطقة ـ تحديداً ـ الرقعة الجغرافية التي تحتضن اليوم بلدان الخليج والجزيرة (السعودية، اليمن، البحرين، عُمان، الكويت، قطر والإمارات)، والهلال الخصيب: (العراق، سوريا، فلسطين، لبنان والأردن)، مضافاً إليها دول الجوار الثلاث (تركيا، إيران ومصر). ولا يمكن، موضوعياً، فصل دول الجوار الثلاث عن منظومة منطقة المشرق العربي؛ لأنها لصيقة بها، بل وجزء منها؛ بالنظر لتأثيرها المباشر والأساس والقوي، وهو ما ينطبق أيضاً على الكيان الآيديولوجي المستحدث (إسرائيل).
وإذا تجاوزنا آلاف الأعوام من الحراك الديني آدم(ع) إلى محمد(ص)، والحراك الحضاري والمدني منذ أور، سومر، بابل، عيلام، شوش، فارس، آشور، مصر، طوران، سبأ، تدمر، البتراء، فينيقيا، كنعان وغيرها، وحتى ظهور الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وصولاً إلى العصور اللاحقة التي سيطرت فيها المنطقة على معظم مقدرات العالم، وهي حقب سياسية وثقافية تعد الأهم في تاريخ البشرية، إذا تجاوزنا ذلك كله، وركزنا على الأعوام المائة الأخيرة، سنجد أن منطقة المشرق العربي وجواره لا تزال المسرح الذي تدور عليه معظم الصراعات العالمية والإقليمية الأبرز. فضلاً عن كونها المحور الدائم للقلق السياسي الداخلي والقلق الأمني. كما أنها تتحكم ببوصلة الاقتصاد العالمي عبر الإمساك بعنصر الطاقة التقليدي، وبالتالي فهي شاغلة الدنيا ومؤسساتها الأممية ووسائل إعلامها والأجهزة السياسية والأمنية والاقتصادية للدول الأقوى.
لقد شكّل مطلع القرن الحادي والعشرين بداية مرحلة تاريخية جديدة في منطقة المشرق العربي وجواره، وهي مرحلة بعد مخاض عسير خلال عام 2003؛ كنتيجة طبيعية للتحول في خارطة القوى السياسية في المنطقة. وبالرغم من بروز ملامح هذه المرحلة وتقاسيمها الأساسية، إلاّ أن واقعها لم يستقر لغاية الآن، ولعله بحاجة إلى خمس سنوات أخرى ليتحول إلى أمر واقع يصعب تغييره لعشرات السنوات. وتتمثل عوامل هذه التحول في:
1 ـ سقوط الدولة ـ النظام ـ الحكومة ـ السلطة العراقية، التي ظلت نخبها التقليدية تتداول الحكم بالمعادلة القومية ـ الطائفية نفسها، والتي ظلت قائمة طيلة 1350 عاماً، وتكرّست في عام 1921 بتأسيس ما عرف بالدولة العراقية الحديثة. وبسقوط دولة صدَّام والبعث، سقطت تلك المعادلة، ومعها دولة 1921، ومعظم الإرث الأموي والعباسي والسلجوقي والبويهي والأيوبي والمملوكي والصفوي والعثماني والإنجليزي. وتأسست على أنقاضها دولة جديدة شكلاً ومضموناً (تعددية)، وفي ظرف قاهر (الاحتلال). والاحتلال هنا ليس ظرفا تاريخياً؛ لأنه ظل سمة متأصلة في الواقع العراقي منذ سقوط الدولة العراقية في بابل. فقبل الإسلام كانت الهيمنة الإيرانية هي الأهم، حتى أن عاصمة الفرس الساسانيين كانت تقع في وسط العراق (منطقة المدائن 40 كلم عن بغداد العاصمة)، وكان ملوك الحيرة وكلاء ـ غالباً ـ لأباطرة الفرس. وبعد الإسلام بدأت الهيمنة الأموية، عبر وكلاء حكومة الشام في البصرة والكوفة وغيرهما، وأعقب ذلك أنواع من الهيمنة الخارجية في العصر العباسي، كحكم البويهيين والسلاجقة والديلم والخراسانيين، ثم المغول والتاتر والمماليك والصفويين والعثمانيين، حتى دخول الجنرال الإنجليزي (مود) محتلاً بغداد عام 1917. وبعد تأسيس ما عرف بالدولة العراقية الحديثة حكمت العراق أسرة ملكية جاؤوا بها من الحجاز، فضلاً عن استمرار كثيرين من رجالات العهد العثماني في السلطة، وبينهم أتراك وقوقازيون وشركس، وفوقهم الهيمنة الإنجليزية المطلقة. ولعل أول حاكم عراقي يحكم العراق كان عبد الكريم قاسم، ومعه أصبح كل طاقم الحكم عراقياً، ولكنه عالج خلل الهيمنة الأجنبية والمسألة الطائفية بخلل أكبر أحدثه قاسم في معادلة الواقع العراقي.
2 ـ الظهور الضعيف والمتعثر للمشروع الأمريكي في المنطقة. وربما يكون الحديث عن سقوط هذا المشروع سابقاً لأوانه؛ إلا أنه لم يعد بمستوى الطموح الأمريكي والدعاية التي سبقت إطلاقه، والذي عرفت طبعته الأخيرة بمشروع الشرق الأوسط الكبير.
ولعل من سوء حظ الأمريكيين أنهم اختبروا مشروعهم في العراق، البلد الذي يستعصي الإمساك به، والموجود على حدود دولتين معاديتين لأمريكا (إيران وسوريا)، فضلاً عن اجتماع سياسي عراقي لم يكن يفهمه الأمريكان؛ لأنهم حين أرادوا تطبيق مشروعهم بدءاً من العراق، عبر أدواتهم ووسائلهم، كان الاجتماع السياسي العراقي يفرز حقائقه بقوة. فقد فوجئت أميركا بقوة المرجعية الدينية النجفية، وقدرتها على توجيه الشارع العراقي. وهذه المرجعية بطبيعتها وتقاليدها وآيديولوجيتها معادية لأي لون من الهيمنة الأجنبية، فضلاً عن الاحتلال المباشر. ولكنها ـ في كل مرة ـ تستخدم أسلوباً مختلفاً في المواجهة والمقاومة؛ فقد استخدمت السلاح في الأعوام 1914 و1917 و1920، كما استخدمت المقاومة السلمية في مراحل أخرى؛ سواء عبر رجالاتها وأنصارها في السلطة، كالسيد محمد الصدر (رئيس الوزراء في العهد الملكي) أو السيد هبة الدين الشهرستاني (وزير في العهد الملكي) أو الشيخ محمد رضا الشبيبي وغيرهم كثير. أو ما قامت به من مقاومة سلمية بدءاً من 2003، بصورة أحبطت معظم بنود المشروع الأمريكي. وكانت تقف المرجعية قوى سياسية إسلامية فاعلة في الواقع العراقي، فاجأت الأمريكان أيضاً، فقد تفوقت في جميع الانتخابات واستطاعت الوصول إلى السلطة عبرها، في وقت تخلفت فيه الجماعات التي ترعاها الولايات المتحدة. وشكّلت هذه القوى، ولا سيما حزب الدعوة والمجلس الأعلى العراقي والتيار الصدري، جبهة ممانعة فاعلة، هدفها مواجهة المشروع الأمريكي من داخله، بدءاً م تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، وتكرّست المواجهة عند تشكيل أول حكومة منتخبة برئاسة إبراهيم الجعفري؛ فكان الأخير رئيساً للسلطة التنفيذية، وكان السيد عبد العزيز الحكيم رئيساً للأكثرية البرلمانية ونوري المالكي نائباً لرئيس البرلمان، وعادل عبد المهدي نائباً لرئيس الجمهورية، فضلاً عن تواجد مركّز للتيار الصدري في الحكومة والبرلمان. واستمرت معادلة المواجهة الباردة بعد تشكيل حكومة نوري المالكي.
وموقف جبهة الممانعة العراقية هو الأكثر تعقيداً في الأداء، وصعوبة في الفهم، قياساً بمحاور الممانعة الأخرى (المحور الإيراني ومعه سوريا، وجزء من فلسطين ولبنان، إضافة إلى قوى شعبية في السعودية والبحرين والكويت والأردن ومصر)؛ فجبهة الممانعة العراقية تستند من جهة إلى توجيهات المرجعية النجفية، وتستثمر شعبيتها، كما تستقوي بالظهور الإيراني، بقصد أو بدونه، ومن جهة أخرى هي مضطرة للتعامل مع الوجود الأجنبي في العراق؛ باعتباره أمراً واقعاً ـ أولاً ـ ولضرورة العمل على درء مفاسده وجلب المصالح للشعب العراقي ـ ثانياً ـ ومن جهة ثالثة تعاني جبهة الممانعة العراقية من سوء فهم حاد من قبل المحيط العربي، سواء كان موضوعياً أو بسوء نية.
3 ـ ظهور إيران قوة إقليمية مؤثرة في المشرق العربي، في مواجهة القوة الأمريكية. وبالتالي ظهور محورين متنافسين في المنطقة، لكل منهما أهدافه وتطلعاته وتحالفاته. وفي حين يرتكز المحور الأمريكي على التحالف مع (إسرائيل) وحكومات المنطقة، فإن المحور الإيراني يراهن على التحالف مع الجماعات السياسية والشعبية. وربما يتفوق المحور الأمريكي في قوته العسكرية وتحالفاته السياسية وقدرته الدعائية، ولكنه يبقى غريباً على المنطقة وواقعها. في حين يتمتع المحور الإيراني بعناصر تفوّق مغايرة؛ باعتباره جزءاً من المنطقة، ويتبنى خطاباً ينطلق من حاجات المنطقة وتطلعاتها.
4 ـ تغيير موازين القوى في الداخل الفلسطيني، بظهور (حماس) قوة سياسية فاعلة وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات عام 2005، الأمر الذي أحدث خللاً كبيراً في معادلة العلاقة بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، وفي مسار عملية السلام.
5 ـ التحول في الواقع اللبناني؛ من خلال مقاومة حزب اللَّه للهجوم (الإسرائيلي) عليه في عام 2006. إذ تسببت هذه المقاومة بهزيمة إسرائيلية تاريخية، ما أعطى دفعة نوعية لجبهة المقاومة في المنطقة، وفي تحقيق حزب اللَّه مكاسب شعبية كبيرة في المحيط العربي والإسلامي، وتقوية موقفه في الداخل اللبناني، وصولاً إلى المشاركة في تحديد التوجه السياسي في البلاد.
6 ـ الحراك السياسي في البحرين؛ والذي أدى إلى حصول حركة الوفاق على ما يقرب ن نصف مقاعد البرلمان، وهو واقع جديد غير مسبوق شكلاً ومضموناً، رافقه تصاعد في محاولات تغيير التركيبة المذهبية في البلاد.
7 ـ إفرازات الوضع في تركيا، على مستوى الداخل والخارج؛ ففي الداخل يحكم البلاد حزب إسلامي بخطاب علماني، في ظل عداء المؤسسات العسكرية له، وتصاعد الصراع بين الطرفين. وكذلك ظهور تركيا كلاعب مهم في المنطقة، له تأثيراته في مسار العلاقات بين (إسرائيل) والدول العربية، وفي الواقع العراقي، عبر تدخلاته السياسية والعسكرية، وفي المناورة على المحورين الأمريكي والإيراني.
8 ـ محاولات روسيا للعودة إلى لعب دور أساس في المنطقة. وهذه المحاولات لا تزال في طور الطموح، ولم تتحول إلى واقع ملموس حتى الآن، ولكنها تبقى محاولات لها أهميتها كممهد لعودة حقيقية.
9 ـ الظهور المسلح المركز للجماعات السلفية، لاسيما تنظيمات القاعدة، على مستوى المنطقة برمتها، وتأثير عملياتها في الحراك السياسي والاجتماعي والاستراتيجي. وتميز هذا التأثير في العراق أكثر من غيره؛ بالنظر للواقع الذي يعيشه العراق. وتعمل هذه الجماعات ضمن توجهات متفردة، فهي تعمل على ضرب المصالح الأمريكية والغربية، ومصالح أنظمة المنطقة، لاسيما السعودية، وفي الوقت نفسه تضرب من تسميهم بالروافض ومن يمثلهم من حكومات وجماعات، ولاسيما في إيران وسوريا والعراق.
وجاء تعثر المشروع الأمريكي في المنطقة على حساب طموحات واشنطن؛ فهي منذ حرب استرجاع الكويت، ثم سقوط الاتحاد السوفييتي وانسحابه القسري من المنطقة بدءاً من عام 1992، تمكنت من الاستفراد بالمنطقة، بل العالم تقريباً. ومن أجل استثمار هذا الاستفراد وتحويله إلى واقع طويل الأجل، وضعت لمشروعها أهدافاً مدخلية لم تتحقق حتى الآن، وربما لن تتحقق؛ لتضاؤل فرصها. ومن أبرز هذه الأهداف:
1 ـ تحويل العراق إلى نموذج للدولة الديمقراطية على الطراز الأمريكي، تحكمه نخبة تساعد أمريكا في تحقيق مشروعها الشامل في العراق، ثم الانطلاق لتطبيق هذا النموذج في دول المنطقة الأخرى.
2 ـ التحضير لمحاصرة إيران؛ تمهيداً لضربها عسكرياً وإسقاط نظامها؛ انطلاقاً من القواعد الأمريكية في الدول المجاورة، لا سيما العراق، فضلاً عن قواعدها في قطر وتركيا وآذربيجان وأفغانستان والسعودية.
3 ـ ضرب سوريا عسكرياً، ومحاولة إسقاط نظامها، انطلاقاً من قواعدها في الدول المجاورة.
4 ـ الاستفراد بتيارات الممانعة الإسلامية في فلسطين (حماس والجهاد)، ولبنان (حزب اللَّه وأمل)، والعراق (حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري)؛ وذلك بعد ضرب إيران وإضعافها أو إسقاط نظامها.
5 ـ إقامة نظام أمني إقليمي؛ تشترك فيه جميع دول المنطقة، بما في ذلك (إسرائيل)؛ هدفه النهائي حماية الأخيرة، ودمجها سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً في المنطقة. فضلاً عن حماية الأنظمة المقربة من واشنطن.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua