الطائفيون وازدواجية المعايير

Last Updated: 2024/04/04By

الطائفيون وازدواجية المعايير

د. علي المؤمن

يمكن إسقاط عنوان المعايير المزدوجة أو سياسة الكيل بمكيالين على أكثر من حالة في عالمنا المتخم بالتناقضات والمفارقات، ولاسيما على صعيد المعادلات الاجتماعية والسياسية، سواء المرتبطة بالسياسات الدولية أو السياسات الإقليمية، وصولا إلى السياسات المحلية في بلد من البلدان. ولكي نبتعد قليلاً عن الخطاب التنظيري، ينبغي أن ننطلق من صلب الواقع الذي نعيشه؛ لنصل إلى حقيقة الدور الذي يمكن أن تلعبه شفافية مثل هذه المنهج الصريح في مواجهة سياسة الكيل بمكيالين أو المعايير المزدوجة، وإلا فالحديث التنظيري يمكن ترديده في التجمعات التعبوية والمؤتمرات الاستنهاضية. أما حديث الواقع فيعني وضع القدم الأول على طريق الانعتاق من جزء من الطائفية القائمة، ونعني بذلك الوقوف على بعض النقاط الأساسية في المعايير المزدوجة التي يستخدمها الطائفيون، ممثلون بتياراتهم الفكرية والسياسية، وأنظمتهم، قياساً بسياسات الغرب في هذا المجال؛ على اعتبار أن العدوى التي انتقلت إلى هذه التيارات والأنظمة هي أخطر بكثير من أصل سياسة الغرب المتناقضة واصل المرض التي نعتقد أن الغرب يعاني منه.

لا يرى الغرب أي تناقض في سلوكياته وفي سياساته التي يستخدمها تجاه الشعوب المسلمة وسائر الشعوب الأخرى؛ فهذا هو الغرب، في عقله وفي تكوينه وفي بنيته الفكرية وفي منظومته السياسية وسلوكياته، متناقض ومنفصم، وتنطوي تصرفاته على كم هائل من المفارقات والازدواجية، ولكنه لا يرى نفسه كذلك، لأن هذه السياسات تعبر عن وعيه بنفسه وبالآخر، وتستند إلى بنيته؛ إذ إن العقل الغربي هو عقل مصلحي براغماتي مادي استعلائي. وهذه الأوصاف قد تكون في المعايير المثالية أو القيم الأخلاقية أو المبادئ الإنسانية الأساسية لونا من الشتيمة، ولكنها في معايير القيم الفكرية والسياسية الغربية تمثل الواقعية والعقلانية بكل خصائصهما التي فصلها العقل الغربي على مقاساته. ومن هنا فان مضمون مصالح الغرب وشكلها تمثل وعي هذا العقل بذاته وبالآخر، وتتمظهر في سلوكياته، وهي سلوكيات تمثل العقلانية والواقعية من منظاره، والمزدوجة من منظارنا. وهذا ما يجعل الغرب منسجما بالكامل مع نفسه.

فمنذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى الآن والغرب الاستعماري يمارس أبشع ألوان المعايير المزدوجة. فهو من جهة يرفع شعارات الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان والحريات، وربما تجد تطبيقاتها في الداخل الغربي بصورتها ومضمونها المتناسبين مع الأفكار، لكنه في الوقت نفسه ينتهك حقوق الإنسان بأكثر الصور ترويعا في جغرافيا الشعوب المستعمرة أو المناطق التابعة لنفوذه. ومثال ذلك فرنسا الداخل: الثورة المناهضة للاستبداد والحكم المطلق والمنادية بالحقوق والحريات، وفرنسا الخارج: سجلها الاستعماري والتبشيري في شمال أفريقيا ووسطها وبلاد الشام. ومثال بريطانيا العظمى: تقاليدها العريقة في أساليب الحكم والإدارة، وأفكار علماء السياسة والقانون فيها، وسجلها الاستعماري في الخارج: الاحتلالات وألوان الاستيطان في آسيا وأفريقيا وأمريكا، فضلاً عن تأسيسها أسوء مشروع استعماري استيطاني في فلسطين.

ومثال الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، التي تنتمي إلى أكثر دساتير العالم  تحضرا، والى أفكار ثورتها الاستقلالية التحررية، وتبشيرها بكل ما يتناقض مع سلوكيات بريطانيا المستعمرة  آنذاك، ولكنها في واقع الحال تأسست على أكبر تناقض في تاريخ البشرية؛ فمبادئ الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والليبرالية التي تأسست عليها، والذي تمثل في سلوكها التأسيسي؛ ترجمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبشع ألوان الاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان ضد السكان الأصليين وضد السود وضد الشعوب اللاتينية وغيرها من الشعوب غير الأوربية. وهو ما فعلته أيضاً عبر التبشير بمبادئ ثورتها في أمريكا الوسطى وشرق آسيا، ولاحقا في الشرق الأوسط، والمثال الأبرز في هذا المجال موقفها من القضية الفلسطينية الذي ورثته من بريطانيا؛ إذ استخدمت أمريكا في مجلس الأمن الدولي حق الفيتو حتى الآن أكثر من (85) مرة لمصلحة الكيان الصهيوني؛ للحيلولة دون صدور أي إشارة من مجلس الأمن يدين انتهاكات إسرائيل لحق الإنسان الفلسطيني في مجرد العيش أو البقاء في داره، فضلا عن العيش بكرامة وحرية واستقلال، وهو سلوك تأسيسي أيضاً يتطابق مع السلوك الذي قامت عليه الولايات المتحدة. وأمريكا التي تقول إنّ مسؤوليتها (الأبوية) تجاه العالم تجعلها تبحث عن أي إنسان في غابات الأمازون أو مجاهيل أفريقيا لتدافع عن حقه، تتحد في الوقت نفسه اتحادا مصيرياً كاملا مع سلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهما من شعوب الجوار. وفي الوقت الذي يصر الغرب على منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، ويعده مشروعاً تستحق عليه إيران اشد أنواع العقوبات؛ في حين يرعى الغرب البرنامج النووي العسكري الباكستاني، ويقاتل من اجل حماية الترسانة النووية الإسرائيلية.

هذا هو الغرب؛ لا يتنكر لهذه المعايير المزدوجة ولا يمارسها بسرية، بل بكل صراحة وشفافية؛ فهو منسجم مع عقله ومع منظومته الفكرية وهو يمارس هذه السلوكيات. ومن هنا؛ يفترض ألّا ننظر الى الغرب من خلال الأنا أو من خلال وعينا بذاتنا؛ بل من خلال وعيه بذاته ونظرته لنفسه، وحينها لن نستطيع محاججته على سلوكياته وأفكاره ومبادئه؛ لأنه منسجم مع نفسه ولا يتستر وراء شعارات، كما تفعل بعض الجماعات والتيارات والأنظمة في منطقتنا، والتي تعيش التناقض بين مبادئها وشعاراتها وممارساتها في كثير من الكليات والتفاصيل. ولا أريد هنا أن أدخل في مقاربات فكرية في إطار ما يطرحه بعض المفكرين والباحثين أمثال إدوارد سعيد من اختزان الوعي الغربي لتناقض المعايير في وعيه، باعتباره يعي الآخر من خلال وعيه بذاته. وإذا كان الغرب يعيش هذه المفارقة؛ فمن الأولى ألّا نعيشها نحن، في الوقت الذي ننتقده على بنية الوعي لديه.

وإذا انتقلنا من مسألة سياسة الكيل بمكيالين التي يمارسها الغرب لننتقل إلى واقعنا الوطني والعربي والإسلامي؛ سنجد أن هذه السياسة اشد خطورة على المسلمين من سياسات الغرب؛ الأمر الذي يزيد من تمزيق هذا الواقع وانكفائه وانفعاله، وينطوي على تناقض أكبر؛ لأن التيارات الإسلامية، في الوقت الذي تستنكر المعايير المزدوجة للغرب، وتعتبر أن استنكارها لهذه السياسة يمثل نقطة ارتكاز في خطابها المناهض للغرب، لكنها فهي في الوقت نفسه تمارس المنهج ذاته، فتستخدم منهج المعايير المزدوجة وتكيل بمكيالين حيال الآخر المذهبي بقوة أكبر، وهي بذلك تتماهى مع الغرب بالكامل في انسجامه مع نفسه وفي وعيه بالآخر من خلال وعيه بذاته، أي أن التيارات والأنظمة السنية تمارس مبادئ وسلوكيات استعمار تجاه الآخر المذهبي، كما يفعل الغرب بالضبط.

ولكن التيارات الإسلامية والعروبية السنية التي تقول إنها تأسست على وفق قيم الإسلام والعروبة وتشرّبها؛ فإنها حين تمارس مثل هذه المعايير فهي تخالف أيسر التعاليم الإسلامية ((كَبُر مَقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون))، والتعاليم الأخلاقية التي يعبر عنها الشاعر بقوله: «لأتنه عن خلق  وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم»، فضلاً عن أن العروبي والإسلامي السني لا يمارس سياسة المعايير المزدوجة تجاه غريب، بل تجاه شريكه في الوطن والجغرافية والعيش المشترك والمعتقد. والحال؛ أن الميدان الأول للإنسان هو نفسه، فإذا أراد العروبيون والإسلاميون السنة تغيير واقعهم ومواجهة الغرب مواجهة حضارية كما يقولون؛ فعليهم أن يبدؤا بأنفسهم، وأن لا يمارسوا مثل هذه السياسة بحق أهلهم الشيعة.

وهناك حالتان إسلاميتان عربيتان، كانت المعايير المزدوجة ومواقف الكيل بمكيالين حيالهما الأكثر وضوحاً واستفزازاً، هما: العراق والبحرين، فعلى مستوى الظهور الإعلامي وغير الإعلامي لاتزال التيارات الطائفية تعتبر وجود العراق وحضارته وتاريخه وحاضره ومستقبله وعروبته وإسلاميته في خطر، لأن الدولة العراقية لم تعد دولة تتفرد في حكمها ومقدراتها المنظومة السلطوية السنية الطائفية العنصرية التقليدية، بل بات للأكثرية المهمشة مشاركة فاعلة في السلطة وفي الإمساك بمقدرات البلد وتحديد مساراته الفكرية والسياسية، وهنا مكمن الخطر في رأيهم. كما تعتبر هذه التيارات ما تسميه بالنفوذ الإيراني في العراق أخطر بكثير من الاحتلال الأمريكي، وبالتالي؛ فهي تسوغ لنفسها أي خطاب ديني تحشيدي فتنوي أو تكفيري أو تشكيكي في المعتقد ضد المكون الاجتماعي الغالب عددياً، وأي خطاب سياسي تحريضي على تدمير العملية السياسية والدولة والحكومة. وفضلا عن ذلك فان سياسة الكيل بمكيالين لهذه التيارات تتضح من خلال تعاطيها مع موضوع فتاوى التكفير، والتفجيرات وقتل الأبرياء، وتهجير العوائل، وممارسات نظام صدام حسين؛ إلى المستوى الذي بات فيه مشروع الاحتلال الأمريكي مجرد شماعة يعلقون عليها مواقفهم ضد العراق الجديد.

ولا تزال الذاكرة العراقية تختزن آلاف الصور المأساوية لهذه المعايير المزدوجة، وفي مقدمتها الخطابات الشهيرة لرموز الجماعات الإسلامية السنية وهي تدعو للوقوف خلف القائد المؤمن صدام حسين، ثم حمايته والدفاع عنه بعد اعتقاله، وكأنّ دماء محمد باقر الصدر والمئات من علماء الدين والمفكرين وما يقرب من مليون إنسان؛ هي مجرد مياه آسنة سكبها صدام في مجاري النسيان، بينما دماء سيد قطب وعبد القادر عودة والرنتيسي هي دماء مختلفة شكلا ومضمونا، وكأن أهوال نظام صدام في طوامير سجن “أبي غريب” كانت مجرد أفلام خيال؛ بينما أصبح سجن ابو غريب حين سقط بيد الاحتلال الأمريكي رمزا للصمود والمقاومة. وقد شاهد العرب الألم العروبي والإسلاموي جراء ما حدث في أبي غريب الأمريكي في أربعة أفلام روائية مصرية ومسلسلين، أما أبو غريب البعثي، والذي حصل فيه آلاف الأضعاف من الجرائم أكثر من جرائم أبي غريب الأمريكان؛ فهو ما لا يريد أن يسمع به أحد من العروبيين والإسلامويين.

وغيض من فيض؛ في اليوم الذي حدث فيه تفجير الحلة الشهير عام 2004، وراح ضحيته أكثر من (180) شهيداً، استشهد أيضاً شخصان في غزة الفلسطينية؛ فقامت قيامة الإعلام الطائفي للجماعات والتيارات والأنظمة العربية على الشهيدين الفلسطينيين، بينما كانوا يتحدثون عن فاجعة الحلة (الشيعية) بصورة هامشية جدا. وحيال استشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم؛ تجاهلوا الحدث ولم يصدروا مجرد استنكار، والرجل لم يكن قائدا عراقيا وحسب، بل كان صديقا لكثير منهم، وكان يرأس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد استشهد ومعه العشرات خلال الصلاة وفي مرقد الإمام علي؛ أي أنها جريمة تاريخية مركبة؛ ولكن لم يرف لهم جفن؛ بل كانت لغة بعض وسائل إعلامهم التي تطرقت للحدث؛ تستبطن الكثير من اللؤم والشماتة.

وهكذا كانت عمليات الذبح المنظمة اليومية التي يتعرض لها أتباع آل البيت، وتهجير عوائلهم وتفجير أسواقهم وحرق بيوتهم واغتصاب نسائهم والتمثيل بجثث شهدائهم وتدمير مساجدهم ومراقد الأولياء والصالحين والأئمة؛ كانت مجرد أخبار عابرة هامشية؛ وكأنها حوادث سير تقع في بورما أو جزر الفولكلاند. وحين كان معتدلوهم يدعون العراقيين لضبط النفس حيال هذه الجرائم الوحشية التاريخية، ويساوون بين الجزار والضحية، فإن ضبط النفس هذا يتحول الى تحريض وتحشيد طائفي عالمي إذا تعرض شخص سني لحالة قتل أو اعتقال أو تهجير؛ فيكون حينها عراق الرشيد وأبي حنيفة وابن حنبل والكيلاني، حسب توصيف عدنان الدليمي، يتعرض للإبادة والتدمير والاندثار!!

وكان نداء ضبط النفس يتكرر حين تم تفجير مرقد الإمامين العسكريين في العام 2005، ولكن حين سرت شائعة بإمكانية تعرض مرقد الإمام أبي حنيفة الى الاعتداء؛ تحول مجرد التفكير بالعدوان هذا الى جريمة دولية؛ فتدخلت حينها حكومة أردوغان التركية وعدة أنظمة عربية وتيارات إسلامية من اجل حماية المرقد وحماية الآثار السنية. وفي الوقت نفسه، أصدرت المرجعيات الدينية والقوى الشيعية فتاوى وتعليمات مشددة بحرمة التعرض لأي مواطن سني أو رمزية سنية، وهو ما لم تفعله أية مرجعية سنية حيال الشيعة ورمزياتهم. أما الحكومة العراقية المسكونة بالهاجس التاريخي والإقليمي؛ فقد أصابها الرعب حينها جراء احتمال تعرض السنة وممتلكاتهم لردود الفعل الشيعية الغاضبة؛ فتركت الشيعة ومقدساتهم عرضة لكل ألوان الانتهاكات، وكرست خطابها وجهودها لحماية السنة.

ولم يفق المسلمون بعد على هول ما يحدث في العراق؛ حتى اشتعلت البحرين بغضب المحرومين والمهمشين من الأكثرية السكانية في البلاد. فقد خرج أكثر من (250) ألف شخص، أي ما يقرب من نصف سكان البحرين؛ بمسيرات واحتجاجات سلمية، يحملون مطالبهم التي أقر بمشروعيتها حتى ولي عهد ملك البحرين، وهي مطالب إنسانية بديهية عمرها عشرات السنين، بل من عمر نظام أُسرة آل خليفة. وكان الحراك البحريني متزامناً مع تحركات الشعوب التونسية والمصرية والليبية والجزائرية والأُردنية والمغربية والموريتانية ضد أنظمتهم، في موجة الاحتجاجات والانتفاضات التي عرفت بــ “الربيع العربي”، فكانت الحركات العروبية والإسلامية السنية تدعم هذه التحركات وتتفاعل معها وتشترك فيها، باستثناء تحرك الشعب البحراني، بالرغم من أنه الأكثر مشروعية والأبسط في شعاراته، والأهم في اندكاكه بالوطن والوطنية، فلم يكن يطالب المتظاهرون سوى بالعدالة المفقودة والمساواة الغائبة وتعميم حقوق المواطنة ورفع حالة الحرمان، وربما كان هناك من يطالب بتغيير النظام، وهو تعبير عن الرأي قاله ولايزال جميع المتظاهرين، من المغرب وحتى الأردن، ولم يعترض أحد، بل كانت العقول والقلوب والحناجر والإعلام الإقليمي والعالمي والسياسة الدولية كلها معهم، إلّا حراك البحرين؛ إذ وقف الإسلاميون والعروبيون صفاً واحدا ضد انتفاضة الشعب البحراني، كما وقفوا من قبل ضد الشعب العراقي في معركته مع صدام حسين منذ العام 1979، وكما لم يتحدوا يوما ضد إسرائيل، والسبب هو أن غالبية المحتجين في البحرين هم شيعة، بل وصل حجم المعايير المزدوجة الى مستوى فتاوى التكفير ضد المحتجين البحرانيين، فضلاً عن التهديدات الإقليمية الشاملة، وبيانات استنكار الحركات العروبية والإسلامية السنية.

وواجه المحتجون البحرانيون، وهم ما يقرب من نصف الشعب البحراني، أي أكبر نسبة بكثير، من احتجاجات الربيع العربي في كل البلدان العربية، واجهوا تهمة ألصقت الحركات اتهاماً مكروراً وجاهزاً وروتينياً، يواجه كل تحرك شيعي معارض في العالم، وهي تهمة التدخل الإيراني، وأن الانتفاضة البحرانية تتم لمصلحة إيران وأهدافها وبتخطيطها وتمويلها وتدريبها وتحريكها، وهي تهمة معلبة لأي شيعي في العالم يرفع صوته بالدفاع عن نفسه أو الحديث عن محروميته.

والحال؛ إن المحتجين البحرانيين لم يرفعوا سوى العلم البحريني، ولم يرفعوا صورة أي رمز إيراني أو عراقي، ديني أو سياسي، بل وحتى رمز بحريني، ولم يطلقوا أي شعار مذهبي، ولم يقدموا أي مطلب طائفي، ولم تسلمهم إيران قطعة سلاح واحدة أو دولار واحد أو حتى قنينة ماء، ولم يصدر مراجعها أي فتوى بتكفير نظام البحرين ولا الثورة ضده، بل ولم تجر أي شخصية بحرانية شيعية اتصالا هاتفيا واحدا مع ايران. ولكن في الجانب الآخر؛ حيث السعودية؛ فإن نواباً بحرانيين رفعوا العلم السعودي داخل البرلمان، وهتفوا علنا عدة مرات بحياة الملك السعودي عبد الله، ورفع محتفلون بحرينيون من أنصار النظام؛ العلم السعودي وصور الملك حمد الى جانب الملك عبد الله في شوارع المنامة. والاهم من كل ذلك؛ دخلت القوات السعودية تحت ستار قوات “درع الجزيرة” الى الأراضي البحرينية لتحتلها رسميا، وساهمت في قمع المتظاهرين وقتلهم والإجهاز على الجرحى في المستشفيات. وكان كل هذا يحدث بمباركة الإسلاميين والعروبيين السنة وتشجيعهم لقمع التحرك السلمي الوطني لشعب مضطهد مهمش.

والمفارقة الكبيرة الأُخرى؛ تمثلت في ردود فعل الشيعة في العراق تجاه العدوان الصهيوني على غزة في العام 2008؛ فقد أعلنت كل أطيافهم وفئاتهم سخطها واستنكارها للممارسات الهمجية الإسرائيلية، وتعاطفها الكبير مع الفلسطينيين، وتمظهر ذلك في التظاهرات الغاضبة التي خرجت في مدن الوسط والجنوب، وخطب أئمة الجمعة والجماعة، والبيانات التي أصدرتها المرجعيات الدينية ومؤسسات الدولة والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وفي المقدمة بيانات الإمام السيستاني ورئيس الحكومة، إضافة إلى بيانات الحوزة العلمية في النجف الأشرف. وبالرغم من الضغوطات المعيشية التي يعيشها العراق؛ فإن الحكومة العراقية أرسلت  كميات كبيرة من المساعدات الطبية والغذائية والعينية، وانتشرت حملات جمع التبرعات في الشوارع، وخصصت القنوات الفضائية الشيعية العراقية التابعة للأحزاب المشاركة في الحكم، برامج مفتوحة يومية لعرض المشهد الغزاوي بكل تفاصيله، وكان اللافت للنظر هتافات المشاركين في مجالس عزاء الإمام الحسين ودعوة خطباء هذه المجالس بالزحف لتحرير فلسطين، وكان هذا المشهد مكملاً لمواقف الإسلاميين الشيعة في البلدان الأخرى، ولا سيما لبنان والكويت وإيران وأفغانستان وباكستان والهند والسعودية وأذربيجان وأوروبا وأمريكا والبحرين وغيرها، حتى بدا أن شيعة العراق هم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.

وكانت مظاهر التعبير هذه تؤكد قدرة شيعة العراق على تجاوز الحواجز النفسية التي صنعتها مواقف بعض الطائفيين الفلسطينيين، وقسم منهم من الداخل الفلسطيني، حيث صدرت فتاوى ودعوات تبيح دماء شيعة العراق، وتصف مرجعياتهم الدينية وحكامهم وأحزابهم بأبشع الصفات، كعملاء الأمريكان وذيول الصفويين وحلفاء اليهود، فضلاً عن نسيانهم سرادقات مجالس العزاء التي أقيمت لصدام حسين بعد إعدامه، ومواكب التشييع الرمزية له، ورفع صوره في كل مكان من الأرض المحتلة، وإقامة نصب له في غزة ورام الله، وهو الرجل الذي ترك في كل بيت في العراق نائحة وصراخاً، وقتل ما لا يقل عن مليون عراقي، ومثلهم من الإيرانيين وآلاف الكويتيين ومئات العرب.

وفي المقابل؛ كان هناك إجماع فلسطيني وعربي وإقليمي على تجاهل المواقف الرسمية والشعبية الشيعية العراقية، فلم تشر أي من وسائل الإعلام إلى بيان أو تظاهرة أو دعم أو تضامن لشيعة العراق تجاه أشقائهم في غزة، بل تم تجاهل حتى بيان المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف الأشرف الإمام السيستاني الذي تضمن فتوى بوجوب تقديم الدعم لأهل غزة وردع الصهاينة، وكذا تجاهل المساعدات المالية الحكومية العراقية.

وبعد فترة قصيرة، وتحديداً في 4 كانون الأول(يناير) 2009، قامت انتحارية تكفيرية ترتدي حزاماً ناسفاً، بتفجير نفسها وسط تجمع لمعزّين بذكرى الإمام الحسين بن علي في مدينة الكاظمية ببغداد؛ ما أدى إلى تناثر أشلاء عشرات الرجال والنساء والأطفال، في مشهد رهيب، لا يقل وحشية عن المشاهد التي كان يصنعها صدام حسين، أو التي يصنعها الصهاينة اليوم في غزة. وكان المتصور أن يكون هناك نوع من التعاطف الإنساني والعروبي والإسلامي مع ضحايا الجريمة، لأن شهداء بغداد الشيعة هم مسلمون عرب أيضاً، وأن حمرة دمائهم لا تقل حمرة عن دماء شهداء غزة السنة، على اعتبار أنهم سواسية في حرمة الدم وقدسية العرض. ولكن؛ كان الصمت المطبق هو الحاكم على أجواء رجال الدين والسياسيين والإعلاميين في المحيط العربي والإقليمي والإسلامي، ومنه الفلسطيني، وكأنه علامة رضا على مجزرة بغداد.

وهذه المعايير المزدوجة هي عامل أساس في تعميق الهوة النفسية بين المسلمين، وتتعارض مع كون ذمة المسلمين واحدة، وانهم مجبرون وفق النص الإسلامي على التعاون والتضامن والتكاتف، ونبذ كل ما يفرقهم ويعمق الروح الطائفية بينهم، وحرمة أية دعوات تفرقهم، لأنهم أعضاء في جسد واحد، لا أن يكون بعضهم أعضاء وبعضهم الآخر ملحقين.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment