الشريعة الاسلامية في دائرة التقنين والتطبيق
الشريعة الإسلامية في دائرة التقنين والتطبيق
د. علي المؤمن
الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية تنطوي على الكثير من المفاهيم التي تدخل في أطر العقيدة والفقه والقانون والسياسة وغيرها، وتثير العديد من التساؤلات حول محددات التطبيق وقواعده وكيفيته، وعلاقته بتعدد المواقف الفقهية، وثنائية الشريعة والقانون، وموقف الدولة التي تسعى لتطبيق الشريعة من هذه الثنائية. والحقيقة أن تجربة التطبيق المتكاملة في الدولة الإسلامية الحديثة تصدت عملياً لحل ما تستبطنه هذه التساؤلات من إشكاليات لا زالت تثيرها مختلف الاتجاهات، إسلامية كانت أم علمانية، فقد قال بعض الإسلاميين أن تقنين الشريعة هو اعتداء على الحكم الشرعي وحرفه عن مضمونه الإلهي باتجاه الأشكال المادية الوضعية، وبذلك فإنهم رفضوا الاحتكام للقانون، على اعتبار أن الاحتكام يجب أن يكون للقرآن الكريم والسنّة الشريفة فقط، فهما اللذين يمثلان موقف الدولة ومرجعيتها. بينما قال العلمانيين أن تقنين الشريعة هو إلغاء لها، إذ سيكون محور التطبيق هو القانون وليس الشريعة، مما يدل على عدم قدرة الشريعة على التطبيق إلا إذا تحولت إلى صورة القانون المادي!
بين الشريعة والفقه والقانون
في البحوث التي تتناول موضوعات تطبيق الشريعة في الدولة الإسلامية، كثيراً ما تتردد مصطلحات ومفاهيم أساسية، تشكل مداخل عامة لتلك الموضوعات، أبرزها: الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي والقانون الإسلامي. وبرغم أن كلاً منها يحمل مدلولاً خاصاً، إلا أنها تتداخل في كثير من المساحات، أو إنها تحمل مدلولات مشتركة ومترادفة ـ أحياناً ـ ولكن استخداماتها تختلف باختلاف زاوية النظر والمنهج العلمي، فربما يحمل مدلول الشريعة في الدراسات العقائدية والفكرية مدلول الفقه نفسه في العلوم الشرعية، أو مدلول القانون في علوم القانون.
الشريعة ـ في اصطلاح علمائها ـ عبارة عن الأوامر والنواهي والإرشادات التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الكريم(ص)، بغية هداية البشرية وتنظيم حياة أهل القبلة وتوجيههم نحو إقامة مجتمع الحق والعدالة، ليرتقوا من خلال ما تفرضه الشريعة من معتقدات وأخلاق وممارسات إلى مستوى منصب الخلافة الإلهية([1])، أي إنها ـ بتعبير آخر ـ القانون الإلهي للبشرية، والذي يشتمل على أحكام الإسلام عامة. وعلى أساس هذه الحقائق استنبط بعض الفقهاء مجموعة من المقاصد خصّوا بها الشريعة الإسلامية، أبرزها حفظ الدين والنفس والأرض والمال([2]). ولم ترد كلمة «شريعة» في القرآن الكريم سوى في آية واحدة: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها»([3]).
ويقسم الفقهاء أحكام الشريعة إلى قسمين: أحكام العقيدة وأحكام النظام، ويطلقون على أحكام العقيدة عنوان: «أحكام السلوك النظري»، ويدرسها علم الكلام أو الإلهيات أو علم أصول الدين، ويطلقون على أحكام النظام عنوان: «أحكام السلوك العملي»، ويدريها علم الفقه. هذا التقسيم استقر بعد اتساع العلوم الإسلامية في بدايات القرن الثالث الهجري، فيما كان ـ قبل هذا التاريخ ـ مدلول كلمة شرع أو شريعة ترادف كلمة فقه، فكان يقال لأحكام العقيدة «الفقه الأكبر»([4]) ولأحكام النظام »الفقه الأصغر». وربما يقسم بعضهم الشريعة الإسلامية إلى: أحكام العقيدة (العلاقة النظرية للإنسان بالله تعالى)، الأحكام الأخلاقية (ما يجب أن يكون عليه الإنسان من خلق نظري وعملي)، والأحكام العملية (العلاقة العملية للإنسان بالله تعالى وبنفسه وبالآخرين). ثم جاء التفريق الآخر بعد أن استقر الفكر الأصولي على أن مؤديات الاجتهاد ـ باعتباره وسيلة استنباط الحكم من الدليل ـ هي مؤديات ظنية، فخصّوا الشريعة بالأحكام القطعية (التوفيقية) التي تحظى بنصوص واضحة من الكتاب والسنّة، وعمموا الفقه على الأحكام القطعية والظنية معاً. أي أن الشريعة تختص بأحكام الإسلام القطعية، سواء كانت عقيدية أو فقهية، ولا تشتمل على الأحكام الظنية والقطعية، ولكنها لا تتسع لأحكام العقيدة([5]). ومن هنا أمكن القول بأن الشريعة الإسلامية هي الدين نفسه، أي التعبير الحقيقي عن الإسلام وأصوله المقدسة.
أما الفقه فيمثل ـ في جانب كبير منه ـ اجتهادات الفقهاء. وهذا التفريق في غاية الدقة، وله علاقة بجانب الإلزام والقداسة والتكليف، إذ إن أحكام الشريعة (العقيدية والفقهية على حد سواء) ملزمة للمسلمين كافة، لأنها قطعية ونصوصها واضحة، في حين أن الأحكام الظنية في الفقه هي أحكام اجتهادية ـ عادة ـ ولها علاقة بفهم الفقيه للنص أو لطبيعة الموضوع والمصداق، فلا تكون ملزمة إلا لدائرة مقلدية ومستفتية.
ويتضح من خلال ذلك أن الفقه يطلق على الأحكام العملية التي تحدد علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالآخرين وبالمخلوقات الأخرى، وموضوعه فروع الدين. ويتم استخراج هذه الأحكام، ولا سيما الظنية منها، في إطار عملية الاجتهاد وأساليبها وشروطها، والتي يبذل الفقهاء فيها أقصى جهدهم العلمي، لفهم المصادر الإسلامية وأدلتها التفصيلية، فهماً دقيقاً، بتوظيف مجموعة كبيرة من العلوم، أبرزها علوم القرآن والحديث واللغة وأصول الفقه وغيرها. وفي النتيجة يستنبط الفقيه الحكم العملي أو الفتوى الشرعية بالاعتماد على عدة أنواع من الأدلة، فمهمة الفقيه هي: «تحديد التكليف العملي لكل حادثة في حياة الإنسان»([6]) من خلال استنباط حكمها الشرعي من الأدلة. ولا يعبّر هذا الحكم عن الرأي الشخصي للفقيه، بحيث يمكنه تغييره، وإنما يعبّر ـ في نظره ـ عن حكم الشريعة الإسلامية الذي توصل إليه([7])، أو بكلمة أخرى يعبّر عن فهمه العلمي للمصدر والدليل الشرعي، وهو فهم مجرّد، تعضّد نزاهته عدالة الفقيه. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن الفقه المنسوب للمجتهد هو كالقانون المنسوب للحقوقي، وبأنه وضع بشري مبنٍ على الاجتهاد العقلي، انطلاقاً من تأمل في كتاب الله([8]).
وقد برزت الحاجة لوضع علم الفقه بالتدريج، وكانت تشتد كلما ابتعد المسلمون زمنياً عن عصر الوحي والتشريع، وبروز العديد من الحوادث والوقائع المستجدة. وهكذا ظهرت طلائع الفقهاء في القرن الهجري الثاني، وتأسست المدارس الفقهية، التي كان كل منها يعتمد على قواعد وأصول فقهية اكتشفها أو أعاد اكتشافها أو استعارها، بغية «رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة، بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة»([9]). وهو ما يلخصه الشهيد السيد محمد باقر الصدر بقوله: «فعلم الفقه ـ إذاً ـ هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كل واقعة. والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم على الفقه الدليل على تحديده، هو السلوك الذي تفرضه على الإنسان تبعيته لشريعة، لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقها. وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبّر عنه بـ«عملية استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط([10]).
وبذلك تتلخص مهمة علم الفقه في عملية التشريع في حدود الأدلة، وليس مطلق التشريع. وقد يطلق تعبير التشريع ـ بمعنى القوانين الشرعية ـ على الفقه في الاصطلاح العلمي القائم، وبناءً عليه يقسّم الشيخ الفضلي([11]) التشريع الإسلامي إلى أحكام عملية ضرورية، وهي الأحكام القطعية الثابتة التي لا تتغير، والمتفق عليها بين الفقهاء، وأحكام عملية نظرية، وهي الأحكام الظنية المتغيرة أو الاجتهادية أو الخلافية، لأنها محل خلاف علمي بين الفقهاء. وعلى صعيد الإلزام، فإن الأحكام الضرورية لازمة الأتباع على جميع المسلمين، والأحكام الظنية يقتصر الالتزام بأتباعها على مقلدي الفقيه.
أما التشريع في إطار عمل الدولة، فيراد به التقنين أو وضع القوانين، فيكون تحويل الأحكام الفقهية (القطعية والظنية) إلى قوانين أهم أنواع التشريع، وتطلق الدولة على هذه الأحكام العملية بأنها «قوانين الشريعة». وفي هذه الدائرة تترادف مداليل الشريعة والفقه والقانون. وهذا النوع من القانون الذي يعتمد المصادر الدينية أو المصادر المقبولة دينياً، هو القانون الإسلامي، مقابل القانون الوضعي، الذي يعتمد مطلق العقل والعرف. وهذا لا يعني وجود تقاطع بين القانون الإسلامي من جهة والعقل والعرف من جهة أخرى، بل إن العقل هو أحد المصادر الكاشفة للتشريع الإسلامي، وكذا العرف، فإنه أحد مصادر القانون الإسلامي، إلا أن العقل والعرف لا يوضعان كمصدرين متكافئين إلى جانب المصادر المقدسة (القرآن الكريم والسنة الشريعة).
والقانون ـ في الاصطلاح العلمي ـ هو الأداة التي تعتمدها سلطة الدولة في تنظيم حياة الجماعة وعلاقات أفرادها وسلوكهم الظاهر، على أساس العدالة والحق، وخلق حالة الإجماع لدى الأمة، أي إنه المرجعية الحقوقية الملزمة للجميع، والتي لا تقبل تفسيرات مختلفة. وهذا الموقع لا يمكن للفقه أن يحتله في واقع الدولة الإسلامية، إلا إذا تحولت أحكامه إلى قوانين أقرتها الجهات المخوّلة، لأن الفقه يحتوي على أكثر من اجتهاد، ولا سيما في مجال الأحكام الظنية. أما الشريعة ـ وتحديداً أحكامها العقيدية ـ فعلاقتها بالدولة ترتبط غالباً بالجانب النظري، أي الأسس التي تقف عليها الدولة الإسلامية ومبادئها وأهدافها ووظائفها ومسوغات قيامها وجذورها العقيدية. وهناك موضوعات في الفقه لا يستوعبها القانون ولا تدرسها العلوم القانونية، وهي الموضوعات ذات الصلة بعلاقة الإنسان بالله تعالى وبنفسه، وبالآخرين ـ أحياناً ـ في حين يستوعب الفقه جميع موضوعات القانون([12]).
ويعرّف القانون بأنه: «مجموعة من القواعد يتمثل كل منها في حكم عام مجرد يتناول سلوك الإنسان في المجتمع بالتنظيم، ويتوافر له الإلزام الاجتماعي»([13]). أو «مجموعة القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي يجبر الأفراد على احترامها بوساطة السلطة العامة»([14]). ويعمد بعض علماء القانون والفلاسفة إلى تقسيم القانون إلى إلهي وطبيعي ووضعي، على أساس المصادر التي تعتمدها هذه القوانين([15]). «فالقانون الإلهي هو مشيئة الله تعالى يهدي إليها من يشاء من عباده عن طريق الوحي والشعور. والقانون الطبيعي هو غاية ما يستطع العقل البشري إدراكه من أصول القانون الإلهي. والقانون الوضعي هو ما يصنعه الإنسان من قواعد قانونية مستلمهماً قواعد القانون الطبيعي»([16]). وينظر آخرون إلى هذه التقسيمات من زاوية ثانية، فأنصار القانون الطبيعي يرون أنه قانون عقلي يتوصل إليه العقل الإنساني بعد التأمل في طبيعة الإنسان وعلاقاته بالوسط الذي يعيش فيه، فيستشف النظام الأمثل لحكم السلوك الإنساني في المجتمع، وبهذا فهم يطلقون على قانونهم الطبيعي تعبير «القانون العقلي» أيضاً. في حين يرى بعض اللاهوتيين بأن القانون الطبيعي هو القانون الإلهي الذي يتعين على القوانين الوضعية التزامه، لأن الله تعالى هو خالق الطبيعة وخالق قوانينها المادية والاجتماعية([17]). وقد بحث الفقهاء والفلاسفة المسلمون في موضوع منشأ الحقوق ومصدر القانون وكيفية إيجاده وشرعية قواعده، وفسّروه في إطار الفكر التوحيدي، الذي يعتقد بأن إرادة الله تعالى هي القاعدة التي تستند عليها كل موضوعات القانون، والقانون الذي منحه الله تعالى للبشرية يتوافق مع طبيعة المخلوقات وفطرة الإنسان، فهو خالق الكون ومسيّر جميع الموجودات وواضع قوانينها. وتتسم قوانين الكون والطبيعة بصفة الجبر، لأنها ترتبط بولاية الله التكوينية، أما القوانين الخاصة بالإنسان فترتبط بولاية الله التشريعية، ورغم أنها ملزمة للإنسان، إلا أن بإمكانه التمرد عليها. وهذه القوانين ـ التشريعية ـ هي في الأصل عبارة عن أحكام الشريعة والفقه، وتتحول إلى قانون ـ حسب الاصطلاح العلمي الحديث ـ بعملية التشريع، التي تعد الأسلوب الطبيعي لصنع القانون.
ويُسّم القانون الحديث ـ على أساس تخصص القوانين وموضعها ـ إلى: قانون عام، يرتبط بتنظيم المؤسسات، وقانون خاص يرتبط بالأفراد. وينقسم القانون العام إلى: قانون دولي عام (خارجي) وقانون عام داخلي، ويتخصص القانون الدولي العام بشؤون العلاقات الدولية وعمل المنظمات الدولية والإقليمية وقوانين الجو والبحار وغيرها، فيما يتسع القانون العام الداخلي للقانون الإداري، القانون الدستوري، القانون المالي والقانون الجنائي. أما القانون الخاص فإنه يشتمل على: القانون المدني، التجاري، القانون الدولي الخاص وقانون العمل. وقد عرفت قوانين الشريعة الإسلامية هذا التقسيم خلال تجربة التطبيق التي مارستها الدولة الإسلامية الحديثة.
([1]) انظر: عباس علي عميد زنجاني، فقه سياسي، ج2، ص 22.
([2]) أشهر من أسس لمفهوم: «مقاصد الشريعة» هو الشيخ الشاطبي، وجاء بعده فقهاء ومفكرون بلوروا مفهوم المقاصد وأضافوا إليها أو دمجوا بين قسم منها.
([4]) انظر على سبيل المثال: الإمام أبو حنيفة النعمان، الفقه الأكبر، وهو كتاب في أصول العقيدة.
([5]) انظر: د. عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص 8 ـ 9.
([6]) عميد زنجاني، فقه سياسي، ج2، ص 23.
([7]) السيد محمود الهاشمي، مصادر التشريع ونظام الحكم في الإسلام، ص 71.
([8]) كما يذهب د. برهان غليون، الذي يعد الفقه برمته بأنه عبارة عن أحكام ظنية خلافية متغيرة لا تعبّر عن شرع الله الثابت بل عن رأي لفقيه، انظر: نقد السياسة، ص 440 ـ 441. وهو بذلك لا يدرك أن هناك أحكاماً قطعية ثابتة في الفقه تعبّر عن موقف الشريعة.
([9]) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص 12.
([11]) انظر: الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص9 ـ 10.
([12]) للمزيد في هذا المجال انظر: عميد زنجاني، فقه سياسي، ج2، ص 23 ـ 24.
([13]) د. مصطفى وعبد الحميد محمد الجمال، النظرية العامة للقانون، ص 129.
([14]) محمد شفيق غربال (إشراف)، الموسوعة العربية الميسرة، ص 1363.
([15]) وأبرزهم الفيلسوف اللاهوتي توماس الأكويني، انظر: د. الجمال، النظرية العامة للقانون، ص 135.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua