السلوك التغريبي الوجه العملي لخطاب التغريب

Last Updated: 2024/04/04By

السلوك التغريبي: الوجه العملي لخطاب التغريب

د. علي المؤمن

ما يعنينا هنا هو الجانب السلوكي الاجتماعي الذي يفرزه خطاب التغريب، ويشكّل ظاهرة اجتماعية واضحة، أو ــ بكلمة أدق ـــ الظواهر السلوكية المجتمعية التغريبية، وهو أحد أهم الأوجه العملية لخطاب التغريب. والسلوك – كما الرأي العلمي السائد – هو التعبير الخارجي عن ثقافة الإنسان. وأبرز المؤثرات فيه: المبادئ والأفكار والقيم الاجتماعية، وينقسم إلى:

  • سلوك فردي، وهو ردود الفعل الراسخة عند الفرد، أو ما يعرف بـ«عادات الفرد».
  • سلوك اجتماعي، وهو ردود الفعل المشتركة بين أفراد النوع في مجتمع واحد، أو ما يسمى بـ«العادات الاجتماعية».

إن ردود الفعل التي يتحدث عنها علماء النفس في تعريفهم للسلوك الإنساني هي – من وجهة نظر إسلامية – ردود فعل إرادية مقصودة، لها غاياتها التشريعية والتكوينية التي حدّدها الله (تعالى)، وأساليبها التي يختارها الإنسان غالباً، وليست ردود فعل آلية لا إرادية أو عبثية، تمثّل نوعاً من الجبر؛ لأن الله خلق الإنسان لأهداف وغايات معيّنة ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون))، وخيّره بين سلوك الخير وسلوك الشر ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً))؛ فالسلوك يمثّل إرادة الإنسان القادر على الفعل والترك، والإنسان هو المسؤول الأول عن أي سلوك يرتكبه، حتى لو ارتكبه تحت مختلف الذرائع والمسوغات، كادّعاء الانجرار (اللاوعي) وراء الفعل الاجتماعي العام، أو ما يعرف بالسلوك الصادر عن تأثيرات «العقل الجمعي» أو الاضطرار للتلون بلون المجتمع أو الجماعة ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)).

وعلى وفق القواعد التي أشرنا إلى الرأي الإسلامي فيها؛ فإن السلوك التغريبي، كأي سلوك آخر، ربما يصدر في مجتمعات المسلمين عن قصد أحياناً، وهو السلوك الهادف والمبرمج، أو بدون قصد أحياناً أخرى، وهو ما يمكن أن نسميه بالانجرار، وربما يصدر اضطراراً. ولكن في كل هذه الحالات، يمثّل السلوك التغريبي انسحاقاً وهزيمة للذات أمام الآخر، وهو الهدف النهائي للغزو الثقافي والتخريب الاجتماعي الصادر من الخارج، كما أنه لا يشكّل نوعاً من «الاحتكاك الثقافي» (Cultural contact) الموضوعي مع حضارة الغرب، ولا تفاعلاً حقيقياً معها ولا مثاقفة، كما أشرنا سابقاً، بل انبهار بها ولهاث خلفها، حتى بلوغ أقصى حالات الهزيمة والأسر. أي أن السلوك التغريبي هو محظ تشبه ساذج بالغرب وتبعية نفسية وسلوكية وأخلاقية له، ولسيت استفادة من تكنولوجيا الغرب وعلومه وصناعاته ومناهجه الفكرية المقبولة إسلامياً، وهو أيضاً تأثر بالإفرازات السيئة لهذه التكنولوجيا والعلوم، كوسائل الإعلام وطرق المعيشة والملبس والمأكل، ثم انعكاس ذلك على الأخلاق والسلوك.

والمفارقة؛ أن مستوى ممارسة بعض المناخات الاجتماعية المسلمة للسلوكيات التغريبية، عن قصد أو بدونه أو اضطراراً؛ بلغ حداً، بات عنده الفرد والجماعة اللذان لا يمارسان هذه السلوكيات، وخاصة بعض السلوكيات المتفجرة في المجتمع، يمثّل شذوذاً اجتماعياً وتخلفاً ورجعية، كما أصبح من يحاول الاعتراض على هذه السلوكيات أو التنبيه على خطورتها وتعارضها مع الشرع والعادات والتقاليد الاجتماعية؛ متخلفاً ورجعياً، وكأن الأصل هو الشذوذ السلوكي التغريبي، والطارئ هو السلوكي الشركي والتقليدي الأصيل، وهو ما يمكن توصيفه بانقلاب الموازين، وهي ظاهرة أخطر من السلوك التغريبي الشاذ نفسه.

لقد أخذ السلوك التغريبي يستفحل وينمو بشكل غير طبيعي ولافت للنظر في مجتمعات المسلمين، تزامناً مع الانطلاقة الجديدة للصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، حتى أصبح واضحاً أن الاتجاه التغريبي أو تيار انسحاق الذات وذوبانها في الغرب، هو الاتجاه المعاكس الذي يقابل الاتجاه الإسلامي الأصيل، أو تيار اكتشاف الذات والعودة إليها، وكأنّ الغرب الغازي يسعى بكل الوسائل، من خلال دعم الاتجاه التغريبي ونفخه، لبلوغ حالة الموازنة بين حجم الصحوة الإسلامية وثقلها من جهة، والتغريب من جهة أخرى؛ للحيلولة دون ميل كفة الصحوة الإسلامية فكرياً وثقافياً واجتماعياً، ما يؤدي إلى حدوث تغيير اجتماعي جذري في مجتمعات المسلمين. ولذلك؛ يمكن القول بأن الاتجاه التغريبي هو جزء من العمق الاستراتيجي والأمني لحماية المنظومة الغربية، والمحافظة على مصالحها السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان الإسلامية، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

أما عوامل خلق السلوك التغريبي وأنماطه، والتي تعمل على إيجاد التحوّل في البنى الثقافية للمجتمع، تنقسم إلى مجموعتين، تكمّل إحداهما الأخرى:

1- العوامل الخارجية، وتتمثل في:

  • ممارسات الاستعمار، ومنتجاته المحلية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • التطور التكنولوجي في الغرب، وانتقال السلع الغربية المتطورة إلى مجتمعات المسلمين.

2- العوامل الداخلية، وتتمثّل في:

  • الوضع الداخلي في البلدان الإسلامية، الذي ترسمه ممارسات الأنظمة، والتخلّف الاقتصادي، وتكريس حالة المجتمع الاستهلاكي، والتخلف الاجتماعي، والجمود الثقافي، والانحراف في مناهج التعليم، وفي أساليب ممارسة الإعلام.
  • الهزيمة الداخلية للكثير من شرائح وطبقات المجتمعات المسلمة أمام الغرب، وقناعتها بتفوق الغرب وصحته فكرياً ونتاجياً ومعاشياً، وبالتالي صحة سلوكياته الاجتماعية وأنماطه في ممارسة الحياة.

إذن، هناك وافد خارج قوي، تفاعلت معه أرضية داخلية خصبة، فكان الناتج سلوكاً آخر مختلفاً في المجتمعات المسلمة، التي أخذت تمارس أنماطاً حياتية منحرفة نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، من أبرزها «السلوك الطقسي» (Comportment Ritual)، وهو مصطلح استخدمه «كونراد لورنر»، ويريد به نمطاً من السلوك يستخدمه الضعيف المنهزم المستسلم أمام القوي الغازي، بغية استرضاء هذا القوي، وطمعاً في كبح جماحه، ومحاولة إيقاف المعركة عند حدها. ولكن اللافت للنظر أن بعضهم استخدم هذا السلوك، ولكنه لم ينجح في استلطاف الغازي القوي (الغرب)، إذ استمر الأخير بغزوه الثقافي، وصولاً إلى أقصى غاياته.

وهناك سلوك آخر، يسميه علماء النفس الاجتماعي بــ «التماهي بالمتسلّط» (Identification withtheaggressor)، أي تشبّه المعتدى عليه المنهزم بالمتسلّط المعتدي، وتمثّل عدوانيته وأسلوب حياته وقيمه المعيشية، في محاولة للهروب من الواقع، والتخلص من مأزق الحقارة والانهزام. وتبدأ العملية بازدراء المتماهي لقيمه وتقاليده وأسلوب حياته، وكل ما يمت بصلة إليها، وذلك جراء القصف الثقافي المركّز الذي يمارسه الغازي، فيدخل الإنسان إليها، فيدخل الإنسان المنسحق من خلاله حالة شبيهة بالغثيان واللاوعي. الأمر الذي يؤدي إلى كراهية المنهزم لانتمائه العقيدي والقومي والوطني، ومن ثم محاولة التشبّه بالمعتدي.

وفي هذين النمطين – المشار إليهما – وغيرهما، يتشكّل لدى الضعيف المنهزم عقل يسميه بعض علماء النفس «العقل الأسير» (Coactive Mind). وانطلاقاً من هذا العقل، يقبل الضعيف – دون تردد – بكل الأنماط الثقافية التي يفرضها عليه الغازي المتسلّط، بمختلف الوسائل والأساليب، وتعبّر هذه المعادلة التي طرفاها الغازي القوي والمنهزم الضعيف، عن تفاعل ثقافي مفروض من طرف واحد.

 

 

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment