السلطة والطائفة دعامتا حماية العقيدة والمذهب

Last Updated: 2024/04/04By

السلطة والطائفة: دعامتا حماية العقيدة والمذهب

د. علي المؤمن

ترافق ظهور العقائد التفسيرية والفرق والمذاهب الإسلامية، مع التحولات السياسية المتعاقبة والكثيرة في الواقع الإسلامي، وكان كثير من عقائد وأفكار الفرق والمذاهب ينسجم مع حاجة الدولة والسلطة والحكام، ولكن لا يمكن القول أن السلطة والسياسة كانت تقف وراءها جميعاً، لأن حاجات الفرد المسلم والمجتمع المسلم للحكم الشرعي والفتوى في الموضوعات المستجدة، والتفسيرات العلمية للنص القرآني والسنني، ومعرفة الرأي الإسلامي في الموضوعات النظرية التي أخذت تظهر باطراد؛ كانت أسباباً مهمة وأساسية في نشوء تلك الفرق والمذاهب.

ولكن؛ دور السياسية والسلطة حيال الفرق والمذاهب التي نشأت نشوءاً طبيعياً وموضوعياً، يأتي في المراحل اللاحقة؛ فإذا كانت العقيدة والمذهب أو أفكارهما ومخرجات حراكهما العلمي تنسجم مع الميول الطائفية والتاريخية للخليفة والحاكم والوالي، وكان مؤسس العقيدة والمذهب مقبولاً أو مقرباً من السلطة؛ فإن الأخيرة تتبنى هذه العقيدة والمذهب وتدافع عنهما وتروجهما، وتضرب الفرق والمذاهب الأخرى، ولا سيما المتعارضة مع عقيدة الدولة ومذهبها. أما إذا كانت العقيدة والمذهب لاينسجمان مع الانتماء الطائفي والتاريخي للخليفة والحاكم، وربما تتسببان نظرياً وميدانياً في زعزعة سلطة الحاكم، كما يعتقد هو، فإنه يحاربهما، وصولاً الى قتل مؤسسيها واجتثاث أتباعهما« لأن أغلب الخلفاء والحكام الذين حكموا دول المسلمين، بدءاً بالامویين والعباسیين والحمدانيين والبویهیين والسلجوقيين والفاطمیين والایوبیين، وانتهاء بالعثمانیين والصفویين، كانوا شبه أُمّيين من الناحية العلمية، وكان جل اهتمامهم الغزوات والتوسع والمؤامرات والحفاظ على سلطاتهم بأي ثمن، فضلاً عن أن تسلطهم على زمام الامور بالوراثة أو الغلبة؛ تجعلهم فاقدين لشروط الحكم الإسلامي الثلاثة: العلم والعدالة والكفاءة.

وحيال ذلك؛ فإن أغلب الخلفاء والحكام المسلمين، كان ينظر الى العقيدة والمذهب نظرة طائفية ــ سياسية ومصلحية، من أجل تسويغ سلوكياته وإضفاء الشرعية على حكمه، ويفرض على المسلمين أن يطلقوا عليه ألقاب أمیر المؤمنین وإمام المسلمین وخلیفة رسول الله، في حين أن هذا الخليفة والحاكم ليس سوى ملك وسلطان وامبراطور، وقد تم تنصيبه بممارسة علمانیة صرفة. بل حتى بعض الخلفاء والحكام والولاة الذين كانوا يحظون بقسط من العلم وآخر من العدالة والكفاءة؛ فإنه كان ـــ غالباً ـــ يمارس التعصب نفسه في الترويج للمذهب الذي يؤمن به، ويضيق على المذاهب والفرق الاخرى. وبالتالي؛ فإن المشلكة ليست في العقيدة والمذهب دائماً، بل في الحاكم الذي يسيء استغلالهما لمصالحه؛ إذ أن كثيراً من العقائد والمذاهب الإسلامية قامت على العلم والمعرفة والظهور الموضوعي، وكان مؤسسيها يتمتعون بالعدالة والتقوى.

وبصرف النظر عن استغلال الحكام والسلاطين المسلمين للمذاهب والفرق الإسلامية، أو إيمانهم بها إيماناً حقيقياً؛ فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها، هي أن السياسة والسلطة كان لهما الدور الأساس في بقاء الفرق والمذاهب الإسلامية ونشرها، أو العكس، بل إن هذه الحقيقة تنسحب على جميع الأفكار والعقائد والأديان، الأرضية والسماوية، الملحدة والمؤمنة، ولا يوجد في التاريخ فكرة انتشرت فقط عبر الإقناع بوسائل التبليغ والتبشير والترويج والدعاية. نعم عامل الإقناع التبشيري الموضوعي، مهم ويساهم في نشر العقيدة، لكنه بطيء وقلق ومعرض للضرب في الصميم، أي انه ضعيف في حماية العقيدة، فإذا نجح في نشر العقيدة، فإنه يفشل في حمايتها. ولعل الذين آمنوا بالعقائد وربما لا يشكل أكثر من ربع المؤمنين بالعقيدة.

وبالتالي؛ فإن العبء الأكبر في نشر العقيدة وحمايتها وحماية أتباعها، يقع على عاتق السلطة والدولة، وهي سنة تاريخية ثابتة، لا علاقة لها بالحق والباطل، لأن الحق والباطل لا يحميان نفسهما بنفسيهما، بل ينهاران بدون وجود سلطة قاهرة تحميهما، ومهما كان الحق واضحاً وعميقاً ومقنعاً؛ فإنه يتبخر بدون سلطة، لأن الحق أيضاً بحاجة الى القوة أيضاً لنشر معاييره وأفكاره وحمايتها، وبدونها سيتعرض الى أبشع الضربات، وربما يبقى حضوره قائماً، لكنه ضعيفاً ومحدوداً، وهو مضمون قول الرسول محمد: ((إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالإيمان)).

الديانة المسيحية مثلاً؛ لم تنتشر إلّا بقوة السيف، بعد أن اعتنقتها الدولة الرومانية في عهد قسطنطين الأول، ولولا السيف والاحتلال والقوة المفرطة والفرض بالقهر، لبقيت المسيحية منحصرة ببضعة جغرافيات محدودة، ولا تصل إطلاقاً الى بلدان أوروبا وأفريقيا وأمريكا وروسيا، ولولا السلطة والدولة، لما أصبحت بريطانيا إنجيلية وروسيا أرثذوكسية وأوروبا كاثوليكية. بل هذا هو حال كل الديانات والعقائد والايديولوجيات التبشيرية، غير المحلية، بدءاً بالهندوسية والبوذية والطاوية والزرادشتية والإسلام، وانتهاء بالعلمانية والليبرالية والماركسية.

وبالنسبة للإسلام، فهو لم يحم نفسه داخل الحجاز وعموم الجزيرة العربية إلّا بالقوة، وإلّا كانت القبائل اجتثته في السنوات الأولى، ثم لم يكن سينتشر خارج الجزيرة العربية، في العراق وبلاد فارس وبلاد الشام وشمال أفريقيا وبلاد الترك والهند، إلّا عبر الفتوحات التي تحركها السلطة وتنفذها الجيوش، ولولا القوة الإسلامية وانهيار الممالك العراقية والفارسية، لبقيت الديانات السومرية والبابلية والزرادشتية والمزدكية والمسيحية هي ديانات أكثرية الشعب العراقي، ولبقيت المناذرة نصرانية وشمال العراق نصرانياً.

وفضلاً عن أهمية حماية السلطة السياسية؛ فإن حماية السلطة الاجتماعية للمعتقدات التأسيسية للعقائد والمذاهب هي بالأهمية نفسها أحياناً، وهذه الحماية كفيلة باستمرار حضور المعتقدات والمذاهب في الواقع الإنساني، سواء كانت دينية أو دنيوية، ولن تبقى وتستمر وتنمو دون تحولها الى عصبية اجتماعية ومنظومة إنسانية متشكلة على قواعد العقيدة والمذهب، وهو ما يصطلح عليه في موروث المسلمين بـــ “الطائفة”، وإلّا فإن العقيدة تبقى حبيسة العقول والأوراق وبعض الأنصار، وعرضة للاندثار أيضاً. وهذه الطائفة هي مجتمع المذهب أو مجتمع العقيدة، وليس العقيدة أو المذهب نفسيهما، وهي الدعامة الثانية الكفيلة ببقاء العقيدة والمذهب. وتبرز أهمية الطائفة، عندما تنهار السلطة الداعمة للعقيدة والمذهب، وتأتي سلطة مناوئة لهما، فهنا تكون الطائفة أو مجتمع العقيدة والمذهب جدار الصد لحماية المذهب والعقيدة. بيد أن هذا الجدار ربما لا يستطيع الاستمرار في المقاومة، وينهار بفعل قهر السلطة وقمعها، وهو ما حصل في جميع مراحل التاريخ الإنساني والإسلامي.

والطائفة هو مجتمع إنساني تأسس وفق المعتقد والمذهب، ويتحول إلزاماً بالتدريج الى عصبية اجتماعية، وهذه العصبية تضم كل الأفراد والمجتمعات التي تنتمي بالوراثة ـــ عادة ـــ الى المذهب، وبالتالي؛ ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الأفراد ملتزمين بتعاليم العقيدة والمذهب، نظرياً وعملياً، ولكنهم جزء من الطائفة، ويدافعون عنها ويحمون تعاليمها وطقوسها ورموزها، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم ووجودهم، وليس عن المذهب والعقيدة وحسب. ولا يستقيم وضع الطائفة إلّا كانت لديها نظاماً وبناءً اجتماعياً، فيه قيادة روحية اجتماعية ومؤسسات دينية وثقافية ومالية غالباً، وسياسية وعسكرية أحياناً، وقواعد بشرية (أتباع العقيدة والمذهب) تعمل في إطار هذا النظام وتحميه وتحتمي به.

إن العوامل التي لعبت الدور الأساس في الإبقاء على بعض العقائد والمذاهب وزوال أخرى، تكاد تكون ذاتها التي عملت على نشر ما بقي منها في أصقاع الدنيا، وأهمها: إرادة الدولة بالدرجة الأولى، ثم قوة مجتمع المذهب (الطائفة) وحصانته وفاعليته، ويشتمل ذلك على النشاط التبليغي، واستثمار أتباع المذهب للمواقع التي يتسنمونها في الحكومة، وخاصة مواقع الوزارة والإفتاء والقضاء. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن بعض هذه المذاهب لم يحظ – ابتداءً – بدعم تلك العوامل، بل شق طريقه بصعوبة، تحت وقع الفعل العكسي السلبي.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment