الرؤية الإسلامية للمستقبل

Last Updated: 2024/04/04By

الرؤية الإسلامية للمستقبل

د. علي المؤمن

تنطوي متطلبات المستقبل على معرفة جملة من الحقائق النسبية، من خلال استطلاع المعطيات التي ستؤدي إليها، واستشراف طبيعة العناصر التي شكلتها. ومن أبرز هذه الحقائق: حقيقة الزمن الذي سنعيشه، أي عالم المستقبل، والتحديات الداخلية التي ستبرز في واقع هذا الزمن، والتحديات الخارجية التي ستواجهنا. ففي الإجابة على تساؤل: «في أي زمن سنعيش؟!» تكمن عملية الاستشراف المستقبلي، التي تكشف لنا عن نوعية الزمن الذي سنعيشه وشكله وضغوطاته وتحدياته. والإجابة على هذا السؤال ستجرنا بصورة طبيعية إلى سؤال آخر هو: «كيف سنعيش؟»، وهذه الكيفية إما نصنعها نحن أو نساهم في صنعها، ويستلزم ذلك ألواناً من التخطيط، أو نكون مسلوبي الإرادة ولا نمتلك أي برنامج وتخطيط لحياتنا.

والحقيقة أن معرفة الزمن الذي سنعيشه، وطبيعة ممارستنا للحياة فيه، يتطلب معرفة دقيقة بالزمن الذي نعيشه الآن، ومعرفة أخرى بآليات التطور ومعادلاته وقوانين الانتقال من الحاضر إلى الغد؛ لأن هذه المعرفة هي القناة التي توصلنا إلى الزمن القادم؛ إذ إن الزمن القادم تصنعه معطيات الحاضر وقراراته وتخطيطه.

وعلى هذا الأساس؛ ستكون المعرفة بالزمن أو العصر شاملة ومتكاملة. في حين أن العجز عن دخول العصر ومعرفته سيؤدي إلى عجز آخر؛ يتمثل في عدم توقع الآتي وكيفية استقباله؛ وبالتالي عجز عن التخطيط له. ويعود هذا إلى عدم قدرة بعض الشعوب على صناعة حاضره؛ بل ولم يساهم في صناعته، لأنه لم يخطط له فيما مضى، وإذا خطط له فهو تخطيط يستبطن ألواناً من الإحباط وعدم الثقة بالنفس والخوف.

ولا يخفى ما للدراسات المستقبلية (Future Studies) من أهمية متعاظمة في استشراف المستقبل واكتشافه ومحاولة التحكم به والسيطرة على بدائله، في شتى مجالات الحياة، ولا سيما على صعيد التغيير الاجتماعي المنشود، الذي يحقق للبشرية أهدافها في النهوض والسعادة والاستقرار، وصولاً إلى الهدف النهائي من وجود الإنسان على الأرض. والمناهج والأدوات العلمية المستخدمة في عملية الاستشراف المطلوبة، تستبعد جميع الوسائل التي تنظر للمستقبل نظرة خرافية، خاصة وأن التحديات الكبرى التي تواجه البشرية على مستوى الفكر والواقع، وتسارع الأحداث، وتراكم المتغيرات، والطفرات المتلاحقة في مجالات العلم والتكنولوجيا، ورغبة (دعاة التفوق) في مصادرة كل شيء، ستأخذ شكلاً ومضموناً مختلفين خلال العقود التي تتوسط القرن الخامس عشر الميلادي والعقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، حتى أن ضغوطها الحادة سوف لن تتجاوز المتخلفين والمتفرجين وحسب، بل ستسحقهم بعجلاتها الرهيبة، أو تمسخ وجودهم وهويتهم، أو تتركهم – في أفضل الحالات – يعيشون ذهولاً مستمراً مما يحدث.

ولم يكن الحكماء والمؤرخون وعلماء الطبيعيات بمعزل عن محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد انتهت محاولاتهم إلى وضع معادلات ومعايير، تنطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهر علم التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأوروبية والتقدم، وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة. ورغم أن الدراسات المستقبلية التي برزت في «منظومة الشمال» تمسكت في مبادئها النظرية بسنن التاريخ وفلسفة التقدم ومعايير التطور وفقاً لنظرة علمية استراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، إلا أن الدافع والغاية النهائية والمحرك يبقى ذاته الذي دفع الإنسان الأول إلى اكتشاف المستقبل؛ والذي تغير إنما هو المناهج والأهداف التفصيلية، على اعتبار أن النهضة الحديثة لمنظومة الشمال حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية خاضعة لتصورها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.

وباتت الدراسات المستقبلية رهان الغرب في السيطرة على المستقبل، بل عدّها «آلفن توفلر» ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات في المستقبل، وأطلق عليها تسمية «استراتيجية البقاء»، وكأنه يريد القول: إن المجتمع الذي يفتقد التخطيط الاستراتيجي في إطار دراسة المستقبل دراسة علمية معمقة، ومواجهة متغيراته، هو مجتمع لا يريد البقاء، أو أن احتمالات بقائه ستتقلص بشدة، إذ إن موجات التغير السريعة وصدماتها المتلاحقة، ستسحق هذا المجتمع بعجلاتها الرهيبة. وهذا التحذير رغم منطلقه المادي الدنيوي، فإنه تعبير آخر عن سنة كونية قائمة، وكما يقول الإمام علي(ع): «من استقبل الأمور أبصر ومن استدبر الأمور تحَّير». وبالنتيجة، فإن الإنسان الذي يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد لنفسه مكاناً حتى في الهامش، لأن البقاء في الهامش سيكون بقرار من دائرة التحكم، التي يمسك بها من استقبل الأمور وأبصرها وعرف الزمان واستعدّ له.

    ولا يمكن للاستعداد للمستقبل أن ينجح بأساليب عفوية ودراسات عشوائية آنية، أو بالوعظ والإرشاد والحديث عن الآمال والأماني، بل بمناهج علمية مستقاة من رؤيتنا الكونية التوحيدية، ومن أصولنا الإسلامية، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها. وإذا كان الغرب قد ابتكر الدراسات المستقبلية (Future Studies) وفقاً لتصوره وغاياته، فإنه بذلك ينسجم مع تطلعاته وما يريده من المستقبل.

ولا يلتقي واقع المسلمين وخبراتهم في استشراف المستقبل وبنائه مع ما أكدت عليه الأصول الإسلامية بشأن الاستعداد للمستقبل، باعتباره ضمانة لحاضر الأمة ومستقبلها، وصيانة لماضيها المجيد. فمن خلال النصوص والتجربة التاريخية يتبين أن الإسلام سبق جميع النظم والنظريات في الدعوة لاستشراف المستقبل استشرافاً علمياً مدروساً، واستباق أحداثه ومفاجآته، والتخطيط لاحتمالاته والوقوف على بدائله. وبقراءة سريعة لبعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تؤكد ضرورة اكتشاف السنن الإلهية، والعمل وفقها، على اعتبار أنها توضح جدلية العلاقة الترابطية والتأثير والتأثر المباشرين بين الماضي والحاضر والمستقبل، وضرورة التعرف على المستقبل بهدف بنائه، وتكشف عن بعض الخطوط العامة للحتميات والوعود الإلهية المستقبلية، سنقف على هذه الحقيقة بوضوح. ففي مجال السنن – مثلاً – يقول الله تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين))، ((وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)). وفي مجال الاستعداد للمستقبل يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد))، ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوى يرى)). أما الوعود الإلهية والحتميات المستقبلية فيقول تعالى فيها: ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض))، ((إن الساعة آتية لا ريب فيها))، وغيرها.

وفي السياق نفسه؛ جاء في الحديث الشريف ما يفسر هذه الحقائق ويكشف عن المزيد من تفاصيلها: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»، «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»، «من لم يعرف لؤم الأيام لم يحترس من سطوات الدهر»، «من استقبل الأمور أبصر ومن استدبر الأمور تحير»، «من لم يحترز من المكائد قبل وقوعها لم ينفعه الأسف عند هجومها». ومجمل ما تفيد به السنن الإلهية ومصادر المعرفة الإسلامية، والخبرة الإنسانية، هو أن الاستسلام للمستقبل والوقوف موقف المتفرج حياله، سيؤدي إلى ألوان بشعة من التراجع والتخلف والانحطاط، وهو ما حصل مع كل الأمم والحضارات التي مارست هذا الدور ((فلن تجد لسنة الله تبديلا)).

وقد جاء الإسلام ليختم الرؤية الدينية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، ويمنح الإنسان منهجية صادقة في التعرف على المستقبل، ويدفعه نحو البناء والتقدم والنهوض، الذي يحقق للإنسان هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة والكدح لملاقاة الرب الرحيم ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)). بيد أن المسلمين في عصور التراجع والانكفاء انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، التي أدت بهم إلى ألوان بشعة من التنكر للحاضر والمستقبل، والتشبث غير الواعي بالماضي.

والكتابات الإسلامية الرائدة التي تحدثت عن البناء والنهوض، والتي بادر إليها بعض الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي؛ كان هدفها وضع معالجات للواقع الراهن بكل تحدياته الضاغطة، وتحديد المواقف الفكرية والنظرية أو السياسية حياله، وقد تحدثت عن مفاهيم وأفكار ترتبط بالنهوض وشروطه والسنن الإلهية ومقومات النمو والتطور، واستخدم أغلبها خطاباً إرشادياً واستنهاضياً.

ورغم أن هذه البحوث والنظريات والأطروحات أثمرت عن موجات وتيارات نهضوية مهمة في تاريخ المسلمين المعاصر؛ إلّا أنها مثلت ـــ غالباً ـــ ردود أفعال لمواجهة القلق الفكري والاجتماعي الذي عاشته المسلمون، بما ينسجم وظروفهم السياسية والاقتصادية والثقافية المتشابهة، في ظل الاحتلال الأجنبي والاستعمار والأنظمة المرتبطة بالخارج، أي أنها لم تكن كتابات تأسيسية غالباً، أو كانت تواجه بعقبة الواقع السياسي والثقافي الذي يحول تحولها الى مشاريع عمل، كما انها لم تكن تحمل مقومات الدراسة المستقبلية العلمية، لأنها لم تعتمد المناهج العلمية في تحديد زمن المستقبل وصوره وأهدافه وبدائله وأساليب الوصول إليه، فخطاب النهضة ظل يجيب على سؤال «ما يجب أن نكون عليه»، وأحال الإجابة على «كيف؟» للأطر العامة والكليات الإرشادية، وترك الإجابة على تساؤل «متى؟» للزمن المفتوح.

في حين أن الدراسات المستقبلية الحديثة تجيب – وفقاً لمناهجها – على خمسة أسئلة:

  • ماذا سيكون؟ وفي الإجابة عليه تكمن عملية الاكتشاف والتبصر، في إطار عملية الاستشراف، وتحديد الأهداف والموضوع والحقل، وينتج عنه التعرف على صور المستقبل واحتمالاته.
  • ما يجب أن يكون؟ وينتج عنه اختيار النماذج والبدائل المطلوبة في حقل معين أو عدة حقول مترابطة.
  • كيف؟ وفيه تتحدد المناهج والأساليب والأدوات للوصول إلى الهدف والبديل.
  • متى؟ وتتحدد فيه المراحل الزمنية للوصول إلى الأهداف.
  • أين؟ تحديد مكان تحقيق الهدف.

ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة يتم تحديد صور المستقبل واحتمالاته، وموضوع الاستشراف وأهدافه، والنماذج والبدائل المطلوبة، والمناهج والأساليب، والزمان والمكان.

ولعل من العوامل الرئيسة التي ضاعفت تساؤلات الإنسان المسلم المعاصر، وساهمت في زيادة حاجاته، عاملاً تطوّر حركة العصر، وتعاظم حجم المشروع الإسلامي. فكلّما تطوّرت حركة الحياة؛ تراكمت حاجات الإنسان، وكلّما كبُر حجم المشروع الإسلامي وأثمرت حركته في الواقع، كبُرت معه تساؤلات الإنسان، وهي تساؤلات ملحة، وبحاجة إلى من يجيب عليها إجابة منسجمة ومستوى العقل المسلم المعاصر.

وقد جلب العامل الأول معه جملة من الثورات العلمية والاجتماعية الكبرى على مستوى العالم، كثورة الاتصالات، وثورة المواصلات، وثورة المعلومات، والثورة الاقتصادية (الصناعية والتكنولوجيا)، والتحولات السياسية والاجتماعية (تحولات الجغرافية السياسية والخارطة السياسية). وحيال ذلك، وجد الإنسان المسلم نفسه في دوامة من الحاجات المختلفة، وعلى مختلف الصعد، وفي مقدمتها حاجة البحث عن الموقع وسط كل تلك التطورات.

أما العامل الثاني؛ فكان نتيجته الإنجازات التاريخية الكبرى التي حققها المشروع الإسلامي خلال العقدين الأخيرين، ويقف في مقدمتها تأسيس الدولة الإسلامية الحديثة، واقتراب الإسلاميين من مواقع القرار الشعبي أو القرار السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية، وانتشار حركة الصحوة الإسلامية، وامتداد الإسلام في أنحاء مختلفة من العالم، فكان الإنسان المسلم ـ ولا يزال ـ يبحث عن إجابات لتساؤلاته، وفي مقدمتها معرفة موقفه ونظريته حيال مختلف المسائل، وعلى رأسها المسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي إطار كل مسألة تبرز مجموعة من العناوين الرئيسة، كالحرية، والحرية الفكرية، وتجديد الفكر الإسلامي، وأسلمة المعرفة، والعقل المسلم، وولاية الأمر، وحركة الدولة الإسلامية في دائرة المنظومة العالمية، وتجديد الأنساق الاجتماعية التقليدية، والتنمية والتخلف، والوحدة الإسلامية.

وما زالت الخبرة الإسلامية وجهود الباحثين المسلمين في مجال الدراسات المستقبلية متواضعة ومحدودة، وهي – عموماً – مبادرات مؤقتة لبعض المعاهد ومراكز الأبحاث، أو جهود حكومية في إطار الخطط الرسمية التنموية والاستراتيجية للدولة. ولعل من المبادرات المهمة في هذا المجال ما صدر في بيروت والقاهرة وطهران والرباط والجزائر واسطنبول وكوالالامبور من دراسات استشرافية علمية، سيحفظ التاريخ لأصحابها دورهم الريادي. وهذه الدراسات العلمية المستقبلية تنتمي في منهجها وفي الاتجاهات والأنماط التي تستخدمها، إلى الدراسات الغربية، أي أنها لا تعتمد منهجاً خاصاً ورؤية مستقلة، تراعي الخصوصيات العقائدية والفقهية والتاريخية للمسلمين وعالمهم، بل تعتمد ما تسميه بالعناصر العلمية التي تطرحها المناهج الغربية المادية.

وهذا الأمر – في الواقع – ينسجم مع الاتجاه الفكري الذي ينتمي إليه أصحاب هذه المحاولات وطبيعة المؤسسات التي صدرت منها. وفي الوقت نفسه يتأتى من خلال عدم دخول الإسلاميين والاتجاهات الإسلامية (الرسمية والشعبية) هذا المعترك، إلا ما ندر، فضلاً عن عدم وجود محاولات لتأسيس رؤية إسلامية لاستشراف المستقبل. فالنقص الذي يعاني منه المسلمون يكمن – أساساً – في عدم بلورتهم وامتلاكهم لمنهج إسلامي في دراسة المستقبل واستشرافه، فكيف – إذن – بالجانب العملي أي الإعداد العملي للمستقبل!

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment