الديمقراطية في فكر المسلمين

Last Updated: 2024/04/03By

الديمقراطية في فكر المسلمين

د. علي المؤمن

يعتقد بعض الباحثين أن المسلمين عرفوا الديمقراطية وكتبوا عنها منذ عهد ازدهار الترجمة، إذ ترجمها أول مرة الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت 950 م) ومن بعده الفيلسوف ابن سينا (ت 428 هـ) بعبارة «المدينة ذات السياسة الاجتماعية» أو «المدينة الجماعية». وقد وصفها ابن سينا بقوله: «أن يكون أهل المدينة – شرعاً – سواء فيما لهم من الحقوق والكرامة، (وما) عليهم من الأروش (الديات والغرامات). لا يروس أحد أحداً نحله غير إجماعهم عليه، ومهما شاءوا استبدلوا به». بينما يرى الفارابي أن غاية أهل المدينة الجماعية «أن يكونوا أحراراً، كل منهم يعمل ما يشاء، فلا يمنع هواه شيء أصلاً، ويكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادتهم، وحقيقتها أنه ليس فيها رئيس ولا مرؤوس».

وتدخل هذه الآراء وغيرها في إطار الفلسفة السياسية، فهي تطورات عقلية، تعبّر عن الاتجاه الفكري لأصحابها، ولا تعبّر عن تأصيل فكري إسلامي. وينطبق هذا على آراء معظم المفكرين المسلمين وعلماء الدين في القرن التاسع عشر الميلادي، من الذين تناولوا موضوع الديمقراطية، كخير الدين التونسي (1780 – 1879) ورفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873) وعبد الرحمن الكواكبي (1848 – 1902) وجمال الدين الأفغاني (1839 – 1897) ومحمد عبده (1849 – 1905) وغيرهم، فهؤلاء حاولوا التأكيد على أن الشورى هي الديمقراطية أو أنها قريبة منها جداً، وفيها خلاص المسلمين من الاستبداد والتخلف والاستعمار. وهذا الاتجاه لا ينطلق من التأصيل الفكري أو الفقهي لشكل الحكم الإسلامي، وإنما منطلقه انعدام الخيارات الأخرى، فكانت الديمقراطية هي الخيار الذي يقابل الاستبداد والتخلف والتبعية، ما دفعهم إلى تكييف الشورى فكرياً لتوائم الديمقراطية.

والأمر نفسه ينطبق على المرجع الديني الميرزا محمد حسن النائيني (1857 – 1936) وكل دعاة الحركة الدستورية في إيران والعراق خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن الميلادي العشرين. إذ إن قضية التأصيل الفقهي للحكم الإسلامي لم تكن مطروحة آنذاك ولم تكن خياراً مقابل خيار الاستبداد؛ بل كان جل هم الميرزا النائيني وغيره من الفقهاء والمفكرين هو القضاء على الاستبداد، وإيجاد البديل الواقعي، ولو في الحدود الدنيا المقبولة شرعاً، كالمشروطة أي الحكم الذي يشترط فيه الخضوع للدستور والقوانين العامة وتشريعات مجلس الشورى(البرلمان)، وهو ما يمكن التعبير عنه بالملكية الدستورية.

ومنذ أواسط القرن الميلادي الماضي أصبح الحديث عن الديمقراطية يأخذ منحى آخر في الوسط الإسلامي. وكانت حركة الإخوان المسلمين في مصر تتوزعها اتجاهات مختلفة حيال الموضوع. ويذكر بعض الباحثين أن الشيخ حسن البنا (1906 – 1949) كان ميالاً نحو قبول آليات الديمقراطية وأساليبها، وهو ما عبّر عنه في محاضرة ألقاها في عام 1948 بجمعية الشبان المسلمين تحت عنوان: «الديمقراطية الإسلامية». وبعدها بأربع سنوات تقريباً أصدر الكاتب المصري عباس محمود العقاد (1889 – 1964) كتابه «الديمقراطية في الإسلام»، والذي أكّد فيه أن «فكرة الديمقراطية أنشأها الإسلام لأول مرة في تاريخ العالم». وفي العام نفسه أصدر محمد ضياء الدين الريس كتابه «النظريات السياسية الإسلامية»، الذي قارن فيه بين الديمقراطية والإسلام، وحاول التقريب بينهما، مع التأكيد على نقاط الاختلاف أيضاً، «إذ ذكر أن ثمة أوجهاً للاتفاق كثيرة بين الإسلام والديمقراطية، لكن أوجه الاختلاف أكبر».

وبالانتقال إلى المفكرين الإسلاميين المعاصرين، سنجد ثلاثة آراء صريحة لمصلحة الديمقراطية، وتحمل مضموناً واحداً تقريباً، الأول للشيخ يوسف القرضاوي والثاني للشيخ محمد مهدي شمس الدين والثالث للسيد محمد حسن الأمين إذ يذهب الشيخ القرضاوي إلى أن المتأمل لجوهر الديمقراطية يجد أنها من صميم الإسلام، فالإسلام ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه، فقد ورد في الحديث الشريف: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً»، وذكر الحديث أن أولهم «رجل أمّ قومه وهم له كارهون». وإذا كان هذا في الصلاة – كما يقول الشيخ القرضاوي – فكيف في أمور الحياة والسياسة.

أما الشيخ شمس الدين فيرى أن للديمقراطية ثلاث سمات، أولها الرؤية الفلسفية الليبرالية، والتي تعطي الشعب حق أن يحكم نفسه، والفهم الإسلامي – كما يقول – يؤكد صيغة «ولاية الأمة على نفسها»؛ والأخرى كون الديمقراطية آلية لإدارة السلطة وتداول السلطة، وهنا لا يوجد «في الشرع أي نص شرعي على الإطلاق – لا في الكتاب ولا في السنة ولا في الفقه العام – ما يمنع اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل»؛ والسمة الثالثة كونها آلية تشريعية لسن القوانين من خلال المؤسسات النيابية ففي ما يتصل بما هو منصوص عليه، أي ثوابت الشريعة، فلا يمكن للبشر أن يشرّعوا فيها، وهو ما يتعارض والديمقراطية، أما في الجوانب التنظيمية والإدارية والعلاقات الخارجية ومعظم الجانب الاقتصادي، وفي حدود مراعاتها للمبادئ العليا للشريعة، «فذلك من شأن البشر وإدراكهم لمصالحهم».

بينما يعتقد السيد محمد حسن الأمين بأن الديمقراطية لا تتضمن مفهوماً ولا عقيدة بشأن الله والإنسان والكون والمجتمع، إنها – بذاتها – لا تعني أكثر من كونها نظاماً سياسياً واجتماعياً حراً، أي هي محاولة لوضع مفهوم «الحرية» ضمن نظام للسياسة والمجتمع… إنها نظام حيادي وإطار لتنظيم مبدأ حرية الإنسان».

ويطرح المفكر الإسلامي السوداني حسن الترابي رؤية ناقدة للديمقراطية، من منطلق تعارضها مع المقاصد الروحية والأخلاقية التي يدعو لها الإسلام، فيقول بأن الديمقراطية الغربية «تنطوي على إطلاق الهوى والشهوات السياسية من قيود الأخلاق، ففي حدود احترام سيادة الشعب أو الأغلبية، يبقى كل عامل سياسي حراً، وتبقى كل حيلة أو تدبير سياسي مباحاً.. منذ «ميكافيللي» أُسست السياسة الغربية على الإباحية والمكر، وانتقلت تلك التقاليد إلى الديمقراطية فأعدتها بفساد عظيم… وظل الفساد ملازماً للأداء السياسي الغربي، فكل المكائد والمنافقات والرشاوى مباحة، شريطة ألا ينفتح الأمر على الكافة، ويقولون – عزاءً لأنفسهم – إن الفساد الديمقراطي خير من الاستبداد».

وفي إيران – بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية – بقي الحديث عن الديمقراطية يتراوح بين القطيعة معها، باعتبارها تنتمي إلى مرجعية حضارية مختلفة، وأن أي مصالحة معها ستؤدي إلى انهيار الحدود بين الفكر الإسلامي والفكر الوضعي، وإن التقى بها الفكر السياسي الإسلامي في بعض المجالات، وبين التصالح معها واقتباس ما ينفع منها، شريطة عدم تعارض ما يتم اقتباسه مع الشريعة الإسلامية، وبين تبنيها بكل خصائصها. وكان للإمام الخميني موقف صريح في هذا المجال، فهو لم يعالج هذه الإشكالية معالجة فكرية أو فقهية، كما أنه لم يعارضها أو يوافق عليها؛ بل كان يؤكد أن النظام الإسلامي هو مشروع حضاري مستقل وواضح، وفيه ما يضمن كل حاجات الإنسان ومتطلبات العصر، وهو ليس بحاجة للتشبث بأفكار الآخرين ومناهجهم، ولا سيما إذا كانت غامضة وفضفاضة، وكان يدعو الجميع إلى فهم الإسلام ونهضته ونظامه فهماً حقيقياً، للحيلولة دون الخلط بين روح الإسلام ومقاصده وبين أي مفاهيم ومعتقدات لا تنتمي إليه.

وكان الإمام الخميني يسأل دعاة تبني الديمقراطية بقوله: «أين هي الديمقراطية التي مُلئ العالم باسمها إلى هذا الحد؟ وأي البلدان تعمل وفق الديمقراطية؟ وهذه القوى الكبرى.. أيها تعمل بموجب الموازين الديمقراطية؟ فللديمقراطية معنى مختلف بين بلد وآخر، لها معنى معين في الاتحاد السوفياتي، ولها معنى آخر في أمريكا، ولها معنى معين لدى أرسطو، وهي ذات معنى مختلف عند غيره. نحن نقول: إنها شيء مجهول ولها في كل مكان معنى معين، ولا يمكننا أن نضعها في دستورنا، بحيث يستطيع كل واحد أن يستفيد من أحد معانيها ويصوغها بشكل تبدو فيه لصالحه، ولذلك فإننا نقول: الإسلام، ونكتفي به».

ولا شك في أن التطور الفكري والسياسي المتسارع الذي شهدته إيران في عقد التسعينات، أدخل جميع التيارات والجماعات السياسية والفكرية في دائرة السجال حول جدوى التعاطي مع المذاهب والمفاهيم السائدة في الواقع السياسي الغربي، وظهر هذا السجال بصورة واسعة وواضحة في الصحافة ووسائل الإعلام والندوات والجامعات والمنابر الحزبية والرسمية، وكان السجال يدور هذه المرة بين الإسلاميين أنفسهم، أي بين التيارات والجماعات السياسية الداخلة في إطار النظام نفسه. وأخذ السجال بعداً شمولياً أكثر عمقاً في أعقاب صعود ما عُرف بجبهة الإصلاحيين إلى الحكم، وسيطرتها على السلطتين التنفيذية (1996) والتشريعية (1998) وعلى معظم المجالس البلدية (1999)؛ فبعد انتخابه رئيساً للجمهورية الإسلامية؛ دعا السيد محمد خاتمي إلى جملة من المفاهيم السياسية والفكرية التي ساهمت في تحريك الواقع الفكري بقوة، كالديمقراطية الإسلامية والمجتمع المدني والتعددية وغيرها. كما ذهبت أصوات في التيار المقابل الذي يعرف بـ«المحافظين»، إلى عدم وجود تعارض في جانب الممارسة بين الحكومة الإسلامية والديمقراطية، ومن هؤلاء الدكتور محمد جواد لاريجاني الذي يقول: «الحكومة الإسلامية من الناحية الذاتية ليست ديمقراطية، ولكن من ناحية الممارسة هي ديمقراطية بالكامل، وليس هناك أي تعارض بينها».

هذا الاستعراض لبعض الأفكار والمواقف تجاه الديمقراطية، يؤكد الحقيقة التي سبق التطرق إليها، وهي وجود مساحات مشتركة بين الحكم الإسلامي والحكم الديمقراطي في جانب الممارسة وآليات إدارة السلطة وتداولها، ومساحات تعارض أخرى بينهما في الجانب الفلسفي والفكري والتشريعي.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment