الدولة العراقية الحديثة وتعزيز العصبية الطائفية

Last Updated: 2024/04/03By

الدولة العراقية الحديثة وتعزيز العصبية الطائفية

د. علي المؤمن

لم تكن في العراق يوماً دولة بالمفهوم النُظُمي الحديث للدولة؛ فخلال حقبة عمرها (1350) عاماً، حكمت فيها سلطات فردية أو أسرية، أطلقت على نفسها اسم الدولة، كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، وصولاً إلى الدولة البعثية، وربما كانت فترة ما بعد عام 1921 وحتى 1958 تعبِّر عن بدايات تأسيس دولة، لكنها كانت محكومة بسلطة الاحتلال، ثم بحكم أُسرة سنية غير عراقية، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي الطائفي الذي يغيِّب الأكثرية لمصلحة أقلية تتداول سلطة السياسة والمال والعسكر والقانون والتعليم والإعلام.

أما العهد الجمهوري؛ فمثًل شبه انقلاب على شكل الدولة وليس جوهرها الطائفي العنصري، رغم أن عبد الكريم قاسم كان أول حاكم عراقي غير طائفي، لكنه كان محكوماً بالعقيدة الطائفية العنصرية الموروثة للدولة، ولذلك؛ كان أغلب وزرائه وأعضاء مجلس قيادة الثورة وقادة القوات المسلحة ومسؤولي الدولة من السنة، كما بقيت المناهج الدراسية ورموز الدولة كما هي.

وقد كان جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، حتى العام 2003؛ أدوات لتطبيق قواعد البناء الطائفي للدولة العراقية الحديثة، وتنفيذ المخطط الاستعماري البريطاني الذي عمل على بلورة هذا القواعد، وظل يرعاها، ولم تكن هذه القواعد من اختراع الإنجليز وتأسيسهم، بل إن الأتراك العثمانيين هم الذين أرسوها في العراق وبلاد الشام والخليج، في مراحل احتلالهم لهذه البلدان، مستفيدين من إرث قديم، ثم أورثوها الإنجليز، الذين بلوروها وقننوها في مرحلة ما بعد الحرب الاستعمارية العالمية الأولى، وكان لون هذه القواعد فاقعاً ومثيراً للاشمئزاز في العراق أكثر من غيره، لأنها خالفت جميع حقائق الجغرافية السكانية وبديهياتها، بعد أن شيدوا عليها صرح الدولة الطائفية القومية التي تحكم الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، وظلت معركة الأكثرية السكانية الشيعية مع هذه المعادلة الناشزة قائمة، منذ الاحتلال العثماني للعراق وحتى سقوط الدولة الطائفية العراقية. ويحاول الكثيرون التغطية على هذه المعادلة وآثارها ومخرجاتها، لأسباب طائفية، أو بدافع الحرص على وحدة الموقف الشعبي العراقي وتجنب الإثارات الطائفية. إلا أن هذه التغطية لا تنسجم مع مصلحة البلد والشعب العراق والأُمة، لأنها تتعارض مع المنهج العلمي في البحث التاريخي، لأن آثارها ستبقي فاعلة وقائمة، وتعمل على تكريس مشكلة أساسية تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في العراق، وبالنتيجة؛ فإن حديثاً بهذا الاتجاه يكشف عن أسوأ مضامين الطائفية، ويعرّي الجريمة الكبرى التي ارتكبها الإنجليز بحق الأمة في العراق بكل طوائفها وقومياتها، سنّة وشيعة، عرباً وكرداً وفيليين وتركماناً.

والمستهدف في هذا الحديث، هو النظام السياسي العراقي الطائفي أو الدولة العراقية الطائفية، وليس طائفة بعينها، لأن الطائفة التي ينتمي إليها النظام السياسي تاريخياً وليس مذهبياً؛ إذ لا وجود لمشكلة سياسية أو مذهبية بين الطائفتين المسلمتين الكبيرتين السنية والشيعة، ولا بين القوميتين الكبريين العربية والكردية، بل المشكلة تكمن في البنية الطائفية للنظام السياسي والمجتمع السياسي الرسمي، الذين ينتميان إلى مركب طائفي وقومي نسبة 16 بالمائة فقط من عدد السكان، هم السنة العرب، في حين أن الجماعة السكانية المضطهدة، التي لا يمثلها النظام عقدياً وسياسياً وواقعياً، تزيد نسبتها على 81 بالمائة من عدد السكان، بينهم 65 بالمائة شيعة، عرباً وفيليين وكرداً وتركماناً وأصول إيرانية، و16 بالمائة منهم أكراداً وتركماناً سنة. وهنا يقول السيد محمد باقر الصدر: ((إن الطاغوت وأوليائه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة بأن المسألة مسألة شيعة وسنّة، وليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك. وأريد أن أقولها لكم يا أبناء «علي» و«الحسين» وأبناء «أبي بكر» و«عمر» إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني. إن الحكم السني الذي مثلّه الخلفاء الراشدون والذين كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل «علي» السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول «أبي بكر». وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي)).

فهناك فرق جذري وأساس بين الدولة الطائفية والدولة المذهبية؛ فالدولة الطائفية هي الدولة اللا دينية التي تتبنى نظاماً سياسياً ينتمي تاريخياً إلى طائفة معينة، أما الدولة المذهبية فهي دولة دينية تخضع لنظام سياسي يتعبد بفقه أحد المذاهب الإسلامية. والحال أن النظام السياسي المطبق بعد قيام الدولة العراقية الحديثة هو الشكل الأول، فهو نظام طائفي قومي، لم يكن يوماً مذهبياً، بل أنه ينتمي إلى مركب الأقلية القومية الطائفية، الأمر الذي يجعله يشعر بالخطر دائماً وعدم الاستقرار والتهديد، فيبقى متحفزاً دائماً للفتك بأي تحرك يرفع صوته للمطالبة بأبسط الحقوق، وإن كانت مطالبة بخفض جرعات التمييز، فيجد صاحب الطلب نفسه ـ ابتداءً ـ أمام تهمتين شنيعتين جاهزتين: طائفي وشعوبي، أو يأخذ طريقه إلى السجن وربما المشنقة، هذا إذا لم ينف في ليلة ظلماء إلى ما وراء الحدود. وقد أصبحت هذه الايديولوجيا جزءاً من البنية العقدية للدولة وقوانينها وسياساتها، بصرف النظر عن طبيعة الحكومات المتعاقبة وايديولوجياتها الخاصة، وإن كانت حكومة حزب البعث العراقي أشد تعبيراً عنها.

لقد حاول الترك العثمانيون طيلة مئات السنين تغيير البنية المذهبية للمجتمع العراقي، إلا أنه فشلوا في هذا الجزء، رغم الفتاوى المضادة والحصار والاضطهاد ونجحوا في جزء آخر، وهو المتمثل في التأسيس لنظام سياسي طائفي في ولايات العراق ينسجم وايديولوجيتهم العليا. ولكن المفارقة المثيرة حدثت بدخول العثمانيين الحرب الاستعمارية الأولى إلى جانب ألمانيا في عام 1914، حينها اتجهت الحركة العربية السنية التي تشاطرهم الانتماء المذهبي وتقر بالولاء السياسي لهم، إلى مناهضة العثمانيين والارتباط بالاستعمار البريطاني، بفعل الوعود المتبادلة بين أمير الحجاز الشريف حسين والإنجليز، وانتهى الأمر إلى إعلان الشريف حسين ما عرف بالثورة العربية، وانضم إليه أغلب الذين كبروا ـ سناً وشأناً ـ مع المناصب السياسية والعسكرية والإدارية التي أسبغتها عليهم الدولة العثمانية، وتحول ولاؤهم من تركيا (الإسلامية) إلى بريطانيا (الصليبية)، وانقلب الهلال ـ فجأة ـ صليباً على صدورهم.

أما الطرف الثاني من المفارقة، فهم شيعة العراق وسوريا ولبنان، الذين واجهوا التحول السياسي والميداني الجديد بالرهان على المبادئ، فدافعوا عن الدولة العثمانية بدمائهم، لأنها تنطوي على الحد الأدنى من تمثيل الإسلام، وتشكل الخيار الأصولي في المعركة مع الاستعمار البريطاني القادم، بعد أن تناسوا بفعل سخونة المبادئ عداء الدولة العثمانية التاريخي لهم، وهو ما يعبِّر عنه السيد الصدر بقوله «إن الحكم السني (العثماني) الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام». فقد أعلن فقهاء النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية الجهاد ضد بريطانيا، بمجرد دخول قواتها البصرة عام 1914، وقادوا المعارك إلى جانب العثمانيين، وظلوا يقاومون الإنجليز، رغم انسحاب الأتراك المبكر من ساحة المعركة، ثم دخول الإنجليز بغداد عام 1917، وإسدال الستار على النفوذ العثماني في العراق إلى الأبد.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment