الدولة الاسلامية الحديثة وفقه التطبيق
الدولة الإسلامية الحديث وفقه التطبيق
د. علي المؤمن
شكّل تأسيس الدولة الإسلامية في إيران أكبر تحدٍ واجهه الفقه خلال تاريخه الطويل، إذ أصبح لزاماً على حركة الاجتهاد أن تكون بمستوى المرحلة التي خلقها الواقع الجديد، سواء على مستوى استيعاب كل الموضوعات التي تحتاجها الدولة الإسلامية ومجتمعها، أو التوغل بعمق في الموضوعات المماثلة التي سبق للفقه معالجتها بصور تنسجم مع مراحل زمنية سابقة. ومثل هذا الإلزام ـ في جانب منه ـ اختباراً لقدرة الفقه الإسلامي على الاستجابة لجميع الحاجات التشريعية للإنسان والمجتمع والدولة، وهي مقولة طالما أثبتت مصداقيتها في مراحل تاريخية أخرى. ولكن ما قدمته حركة الاجتهاد في هذه المراحل على مستوى فقه الأفراد وفقه الجماعة إنما يتلاءم مع حاجاتها. أما المرحلة الجديدة التي دخلتها مدرسة الإمامة بقيام الدولة الإسلامية في إيران، فإنها اتخذت مساراً استثنائياً مختلفاً تماماً.
الواقع الفقهي الموروث وركائز التحول
لقد ورثت الدولة الإسلامية واقعاً فقهياً منكفئاً لا يرقى إلى الحد الأدنى من مستوى حاجات الدولة والمجتمع الجديد. ولا يقتصر هذا الخلل على النظريات والنظم الفقهية التي تستوعب مجالات السياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع والثقافة وغيرها، بل يمتد إلى قواعد وأساليب حركة الاجتهاد في تعاملها مع مثل هذه القضايا، وهو تعامل يتسم بالتردد والحذر ومحدودية الوعي ولربما الجمود. وتسبب هذا التعامل في خلق صعوبة جمة واجهها الفقهاء خلال عملية التأسيس والتأصيل لنظريات الدولة الإسلامية وصياغة نظم التطبيق. فضلاً عن أن المدونات المعدودات في الفقه السياسي الإسلامي أو فقه الدولة الإسلامية التي سبق صدورها قيام الجمهورية الإسلامية، كانت أقرب لفقه النظرية منها إلى فقه التطبيق، لأنها كانت تبحث موضوعاتها وتستنبط أحكامها في إطار افتراضات تفتقر إلى المثال التطبيقي الواقعي، فولد ـ ذلك الفقه ـ مجرداً عن الواقع المحسوس الذي يطرح القضايا والموضوعات والإشكاليات بصورة تجعل البحث الفقهي أو الحكم الشرعي منطلقاً من الواقع ولصيقاً بحقائقه، في حين كان تأسيس الدولة الإسلامية المحفز الأساس للبحث الفقهي ليخوض في عمق تفصيلات فقه الدولة الإسلامية أو فقه التطبيق. من هنا يمكن القول بأن فقه النظرية كان وراء تأسيس الدولة الإسلامية في إيران، ومن جانبه كان هذا التأسيس المصيري الدافع المباشر لبلورة فقه التطبيق. وبكلمة أخرى فإن فقه النظرية أنجب الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية أنجبت بدورها فقه التطبيق.
لقد تمثل المنطلق الأساس لهذا التحول في النظرة الجديدة إلى قضايا فقه المجتمع والدولة وأساليب التعامل معها، وهو منطلق سبق لبعض الفقهاء أن عملوا على تركيزه قبل سنين طويلة من تأسيس الدولة الإسلامية الحديثة. وعلى أساس هذه النظرة بدأت مرحلة أخرى في غاية الخصوبة، برز فيها كم هائل من البحوث والنظريات المعمقة التي تأسست على قواعد الفقه الاجتهادي في حركته الجديدة. فالحقيقة أن الفقه الذي ورثه فقهاء عصر الدولة الإسلامية الحديثة ليس هو السبب في العجز عن تلبية حاجات الدولة ومجتمعها، ولم يكن الفقهاء السابقين عاجزون عن الكشف والتأسيس والتأصيل، ولكن العجز يكمن في النظرة إلى هذه الحاجات، وهي نظرة كوّنتها العديد من العوامل التاريخية القاهرة التي تعرضت لها مدرسة الإمامة. ولعل الانجازات الفقهية الكبيرة التي قدمتها حركة الاجتهاد خلال عقدين فقط من عمر الجمهورية الإسلامية، دليل آخر على القدرة المستمرة للفقه على العطاء. وكثيراً ما كان الإمام الخميني يعبّر عن رفضه لانكفاء الفقه على موضوعات بذاتها، ويؤكد ضرورة توسيع دائرة الاجتهاد لتستوعب كل مساحات حركة الحياة وإدارة المجتمع ونظم الدولة، ومما كان يقوله مخاطباً فقهاء مدرسته: «يجب أن تثابروا، حتى لا يقال ـ والعياذ بالله ـ إن الإسلام عاجز عن إدارة العالم في المجالات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والسياسية([1]). ووجد هذا الاتجاه التجديدي ـ الذي أعلن الإمام الخميني عن ولادته قبل قيام الجمهورية الإسلامية بسنين طويلة ـ وجد له صدى طيباً في أوساط خاصة من الفقهاء، معظمهم من تلامذته وأنصار مدرسته الاجتهادية أو من الفقهاء المجددين والمصلحين.
وكان الإمام الشهيد محمد باقر الصدر أيضاً من أبرز رواد الدعوة للاتجاه التجديدي في حركة الاجتهاد والمنظرين لها في كثير من بحوثه ومؤلفاته، كبحوثه في علمي الفقه والأصول وبعض ما جاء في المدرسة القرآنية ودراسة الاتجاهات المستقبلية في حركة الاجتهاد. وجاءت بحوثه الأخرى تطبيقاً لهذا الاتجاه، كـ«اقتصادنا» (في جزئه الثاني) و«البنك اللاربوي» ومجموعة بحوث «الإسلام يقود الحياة». ومن هنا يمكن القول بأن بحوث الإمام الخميني الفقهية وأفكاره السياسية والاجتماعية، وبحوث الشهيد الصدر التنظيري والتطبيقية يكمل بعضها بعضاً، وتشكل بمجموعها ثورة في واقع الفقه الاجتهادي.
هذا التحول ركز على الجانب الاجتماعي في الفقه، أي المقدار الذي تتقوم به حياة البشرية، وهو الجانب الذي تعرض من قبل للانكماش، على اعتبار أن حركة الاجتهاد بذلت خلال مئات السنين كل ما في وسعها لبلورة وتعميق الأحكام الفردية في الفقه، أي التي تتصل بسلوك الفرد وتصرفاته. ورغم أن المراد من فقه التطبيق هو أحكام الفقه برمتها، أي تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لكن الذي يعنينا هنا هو الجانب الاجتماعي من فقه التطبيق، لعلاقته المباشرة بفقه الدولة الإسلامية. ورغم أن حركة الاجتهاد تستهدف من حيث المبدأ كلا مجالي التطبيق: الفردي والاجتماعي، ولكنها في خطها التاريخي كانت تتجه ـ غالباً ـ نحو المجال الفردي، فالمجتهد ـ خلال عملية الاستنباط ـ يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد تطبيق النظرية الإسلامية للحياة على سلوكه، ولا يتمثل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول أن ينشئ حياته وعلاقاته على أساس الإسلام. وهذا الانكماش له ظروفه الموضوعية وملابساته التاريخية بالنسبة لمدرسة الإمامة، حتى تعمق شعورها بأن مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفردي([2]). وهو الأمر الذي تسبب في انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، أي إهمال الموضوعات التي تتصل بالمجال التطبيقي الاجتماعي الذي ينظم حياة الجماعة المسلمة.
وبدوره أدى هذا الانكماش ـ كما يقول السيد الصدر ـ إلى «تسرب الفردية إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها.. وأخذ ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد([3]). مما أبعد حركة الاجتهاد ـ بشكل وآخر ـ عن هدفها النهائي الذي يتمثل في تطبيق أحكام الشريعة ومقاصدها بالصورة التي تتوصل إليها، وفي تحويلها إلى منظومة متكاملة تعكس تكامل الإسلام وكماله. وقد امتد أثر هذا الخلل إلى طريقة فهم النص الشرعي، إذ أهملت شخصية النبي(ص) أو الإمام(ع) كحاكم ورئيس دولة عند دراسة النصوص المتعلقة بهما، والتي يقصد بها الأوامر والنواهي التي كان يصدرها النبي بوصفه رئيساً للدولة. كما لم تعالج النصوص الشرعية بروح التطبيق على الواقع واتخاذه قاعدة منه، ولهذا سوّغ الكثيرون لأنفسهم تجزئة الموضوع الواحد والالتزام بأحكام مختلفة له([4]).
ورغم أن بوادر الاتجاه الموضوعي([5]) في حركة الاجتهاد ظهرت في وقت مبكر، إلا أنه بقي محدوداً في وقائع معينة، ولم يتسع لكل مجالات الحياة، أي إنه لم يمتد أفقياً كافياً، على اعتبار أن وقائع الحياة تتجدد وتتكاثر باستمرار وتتولد ميادين جديدة، فكان ضرورياً لهذا الاتجاه أن ينمو ويتمدد باستمرار ليعرض كل ما يستجد من وقائع ومن حاجات الإنسان والجماعة المسلمة على الشريعة، بهدف الوصول إلى الحكم الواقعي المرتبط بها. بينهما كانت مساحة العملية الاجتهادية التي يمارسها الفقهاء السابقون ـ في مختلف المراحل الزمنية ـ تفي بحاجات عصرهم([6])، وتنسجم مع ظروفهم الموضوعية ومع الأوضاع التي ترسم حدود حركتهم الفقهية. وإلى جانب التمدد الأفقي وتوسيع مساحة الاتجاه الموضوعي في الفقه، كانت هناك ضرورة محسوسة أخرى، تتمثل في التوغل العمودي للاتجاه الموضوعي ـ كما يقول السيد الصدر ـ ليصل إلى النظريات الأساسية وعدم الاكتفاء بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية، لأن كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية([7]).
ظهور عصر الاستخدام الشامل للفقه
يمكن إجمال العوامل التي أدت إلى ظهور عصر الاستخدام الشامل للفقه وإيجاد تلك التحولات في مسار الفقه بما يلي:
1 ـ حاجات الدولة الإسلامية الحديثة ومجتمعها، على الصعد كافة.
2 ـ تحديات التطور الهائل والسريع في حركة العلم والتكنولوجيا، والمعرفة البشرية بشكل عام.
3 ـ التكامل التدريجي الذي بلغته الأبحاث الاجتهادية من حيث العمق والدقة في الآراء والنظرات، بفضل الأسلوب الاجتهادي الذي اتبعه الشيخ مرتضى الأنصاري، ثم أتباع مدرسته([8]). وهو تطور مرحلي حمل همّه من الفقهاء المجددين جاءوا بعد الشيخ الأنصاري، بدءاً بالإمام الميرزا محمد حسن الشيرازي.
4 ـ ظهور دعوات التجديد في البحث الفقهي وأساليب حركة الاجتهاد، على صعيد الحوزتين العلميتين في النجف الأشرف وقم، وهي دعوات اقترنت بخطوات عملية وتطبيقية رائدة.
والاتجاه الموضوعي هو في الحقيقة تعبيراً عن اتجاه الاستخدام الشامل للفقه، والذي ظهر بقوة بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، وكان الأسلوب الأمثل لإنجاز بحوث الفقه التطبيقي، الذي ينطلق من وقائع الحياة ويتمدد أفقياً ليستوعب كل مجالاتها وتفصيلاتها، ثم يعرضها على مصادر الشريعة الإسلامية والأصول العملية للاستنباط، بغية التعرف على أحكامها الشرعية. وفي الوقت نفسه ينطلق فقه التطبيق من تلك التفصيلات وما يقترن بها من أحكام وتشريعات، لينفذ من خلالها إلى عمق الشريعة ومقاصدها، وصولاً إلى نظرياتها الأساسية في كل مجالات الحياة. فحركة فقه التطبيق تبدأ بالتعرف على تفصيلات الواقع، ثم تستنبط الأحكام الشرعية لهذه التفصيلات، وبعد تجميع هذه الأحكام وصياغتها في نظرية شرعية أساسية، تعمل على إخضاع الواقع لهذه النظرية. إذن.. فقه التطبيق يمثل رتبة مكمّلة لفقه النظرية، لأنه يأخذ بنظر الاعتبار حاجات الواقع ويهدف إلى إخضاعه للشريعة، مستفيداً من حقائق الزمان والمكان، بينما لا يأخذ فقه النظرية ـ عادة ـ هذه الحقائق بنظر الاعتبار.
وظهور عصر الاستخدام الشامل لفقه التطبيق، يمثل إفرازاً مباشراً لمشروع الدولة الإسلامية الحديثة ومعلولاً لحاجاتها التي تتسع لكل حركة الحياة. فمن أجل دفع حركة الدولة لتحقيق هدفها بتطبيق الشريعة الإسلامية، عند فقهاؤها إلى تحريك عجلة الفقه الاجتهادي بصورة موضوعية وباتجاهين أفقي وعمودي، وصولاً إلى التشريعات المتكاملة التي أخذت موقعها بالتدريج من حركة التطبيق الشاملة. هذا العصر الجديد الذي أسسه وقاده الإمام الخميني، أدخل الفقه الإسلامي مرحلة جديدة تماماً، وكشف عن أسلوب اجتهادي يحتاجه مشروع الدولة الإسلامية. وهو الأسلوب الذي يأخذ بنظر الاعتبار ـ كما ذكرنا ـ دور الزمان والمكان في الاجتهاد، والذي يؤثر بدوره في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية([9]). وفضلاً عن شموليته لكل الموضوعات، فإنه ينظر إلى حاجات التطبيق في مرحلة التنظير والاستنباط وفي مرحلة العمل. يقول الإمام الخميني: «الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد، فبلحاظ العلاقات الحاكمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد في أحد الأنظمة، لعل حكماً جديداً يطرح على مسألة ما كان الحكم السابق عليها فيما يمضي يختلف، بمعنى أن الإحاطة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية جعلت نفس ذلك الموضوع ـ بالظاهر ـ موضوعياً جديداً، فيستتبعه قهراً حكماً جديداً»([10]). وبهذا يمكن للشريعة الإسلامية تحقيق أهدافها بدفع الواقع النسبي نحو المثال المطلق، وهو الهدف الذي رسمه الباري تعالى للإنسان عندما استخلفه في الأرض.
وفي المقابل بقيت الاتجاهات الفقهية الأخرى، التقليدية في نظرتها إلى الواقع، تعاني من عدة معوقات أساسية، أهمها:
1 ـ تحديد البحث الفقهي ـ غالباً ـ بالدائرة المتوارثة، التي تقتصر ـ عادة ـ على المجالات الفردية والعبادية، وعدم الانطلاق في رحاب فقه الدولة ومجتمعها.
2 ـ عرض الكثير من البحوث الفقهية، ولا سيما المتعلقة بالمجالات الاجتماعية، بصور افتراضية أو نظرية، دون الأخذ بنظر الاعتبار ضرورات التطبيق ومتطلبات الواقع.
3 ـ صعوبة فهم مضامين هذه البحوث والأحكام ومصطلحاتها على مجمل أبناء الأمة، وكأنها بحوث نظرية مدونة لنخبة متفردة في تخصصها.
وظلت هذه الاتجاهات الاجتهادية (التقليدية في نظرتها إلى الواقع) عائقاً أمام التشريع في تلبية الحاجات التشريعية للدولة الإسلامية الحديثة، لأن الذهنيات التي تتبناها عجزت عن مواكبة الواقع الفقهي المتطور الذي خلقته الدولة وتجربتها الجديدة، فكانت تلبية تلك الحاجات تستغرق زمناً “ول، ما دفع الإمام الخميني إلى الحديث بمرارة عن هذه الاتجاهات الموروثة، ودعا إلى إيجاد تحول أساسي في مفهومي الاجتهاد والمجتهد، يتناسب ومتطلبات تجربة التطبيق، فلم يعد يكفي ـ وفقاً لمباني الإمام الخميني ـ أن يحصر المجتهد جهده الفقهي في المسائل الفردية والعبادية، ولا ينطلق في رحاب حاجات الجماعة المسلمة ونظمها وعلاقاتها. يقول الإمام الراحل: «الحكومة عند المجتهد الحقيقي هي تجسيد للفلسفة العملية لجميع الفقه في جوانب الحياة البشرية. أن الحكومة هي مظهر الجانب العملي للفقه في تعامله مع جميع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. فالفقه هو النظرية الحقيقية المتكاملة لإدارة شؤون الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد». ثم يقول: «إن الهدف الأساس هو كيف تستطيع تطبيق الأصول الثابتة للفقه في عمل الفرد والمجتمع وتتمكن من الحصول على جواب للمعضلات. ان جل خوف الاستكبار يرجع إلى هذه المسألة وهي أن يمتد للاجتهاد بعد محسوس عملي، وان يخلق في المسلمين روح التعامل والحركة([11]). وفي رسالة أخرى يتحدث الإمام عن شرط القابلية على «فهم حقائق العصر» أو الحقائق الاجتماعية لدى المجتهد، وصولاً إلى القابلية على تشخيص المصلحة الحقيقية للأمة، ويعد الشخص الذي يفتقد إلى هذا الشرط مجتهداً متجزءاً، لأنه ـ بالنتيجة ـ يعجز عن التواصل مع حقائق فقه التطبيق، الذي يمثل رهان حركة الاجتهاد في قدرتها على استيعاب كل متطلبات الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية الحديثة ونظمها ومشكلاتها، فيقول بكل وضوح: «إن الاجتهاد في الاصطلاح الحوزوي لا يكفي، وإذا كان هناك شخص أعلم في علوم الحوزة، ولكن لا يستطيع تشخيص المصلحة العامة، أو لا يستطيع تشخيص الأفراد من الصالح والطالح، والمفيد من غير المفيد، فإنه ـ يشكل عام ـ فاقد التشخيص في المجالات السياسية والاجتهادية، وناقد القدرة في اتخاذ القرار. إن هذا الشخص لا يعتبر مجتهداً في المسائل الحكومية والاجتماعية، ولا يستطيع أن يمسك زمام أمور المجتمع بيده([12]). ويذهب بعض المفكرين الإسلاميين إلى أن هذه الحقائق هي الفلسفة الاجتماعية (Analytical Philosophy) نفسها، والتي يعبّر عنها الشيخ مرتضى الأنصاري في المكاسب المحرمة بـ«العرق»، وهو ليس العرق بمعناه الاصطلاحي المتداول. وعلى هذا الأساس فإنه اشترط المعرفة الاجتماعية وسعة الأفق الثقافي والانفتاح على حقائق العصر بأي فقيه، لكي تكون له ولاية شرعية([13]).
نتاجات فقه التطبيق
يمكن استخلاص أم مكاسب النهضة الفقهية التي صنعها الإمام الخميني على مستوى تجديد حركة الاجتهاد، والتي تبلورت في فقه التطبيق، بما يلي:
1 ـ تعميق الاتجاه الموضوعي في الفقه من خلال الاستخدام الجامع للاجتهاد.
2 ـ توسيع دائرة نشر البحث الفقهي وطرحها في مختلف وسائل الإعلام، ونخلق ثقافة فقهية عامة.
3 ـ بلورة دور الزمان والمكان في عملية الاجتهاد.
4 ـ تحول الفقه من البحوث النظرية والفرضية إلى البحوث التطبيقية والواقعية.
5 ـ الخروج من حالة الجمود الفقهي والفكري والأحكام المسبقة أو أساليب وفتاوى الفقهاء السابقين.
6 ـ التوازن في الأساليب الاجتهادية، أي عدم الإفراط في أساليب الفقه المتحرك وعدم التفريط في أساليب الفقه التقليدي.
7 ـ إعادة النظر في جميع المصادر الفقهية([14]).
هذه النتاجات تمثل في الواقع منعطفاً فاصلاً وتاريخياً على مسار حركة الفقه، ولا سيما على صعيد مدرسة الإمامة، التي لا تزال الميدان الذي تتفاعل فيه هذه التحولات الكبرى. من جانب آخر، أفرز تأسيس الدولة الإسلامية في إيران واقعاً علمياً واجتماعياً تتفرد به، ويتمثل ببروز أعداد كبيرة من الفقهاء المنفتحين على قضايا العصر وحاجاته وتفصيلاته ومشاكله، مع احتفاظهم بوسائل الاجتهاد التقليدي ـ كما هو الاتجاه الاجتهادي للإمام الخميني([15]) ـ وفي الوقت نفسه دفع هذا الواقع المثقفين الإسلاميين إلى الانفتاح على قضايا الفقه وقواعده وأصوله والتعرف عن قرب على مصادر التراث الإسلامي العلمي المحيطة بالفقه([16]). هذا الواقع التكاملي أخذ يعزز كل يوم من موقع الفقه والشريعة في حركة الحياة، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
طهران ـ علي المؤمن
الإحالات
([1] ) الإمام الخميني، صحيفة نور، ج21، ص61.
([2] ) انظر: الشهيد الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، بحوث إسلامية، ص 80.
([4] ) انظر: المصدر السابق، ص 82.
([5] ) يعرّف الإمام محمد باقر الصدر الاتجاه الموضوعي بأنه «عبارة عن أن يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلى الشريعة»، أي معالجة النص الشرعي بروح التطبيق على الواقع، فالعملية الاجتهادية في الاتجاه الموضوعي تبدأ بقضايا الواقع وحوادثه وحاجاته، في أي مجال من مجال الحياة، ثم عرضها على مصادر الشريعة للتعرف على حكمها، ثم إعادتها للواقع بهدف إخضاعها للشريعة أو تطبيق حكم الشريعة فيها. انظر: المدرسة القرآنية، ص 30، والاتجاهات المستقبلية، ص 82.
([6] ) للمزيد انظر: الشهيد الصدر، المدرسة القرآنية، ص 30 ـ 31.
([7] ) انظر: المصدر السابق، ص 31 ـ 35.
([8] ) انظر: الشيخ الجناني، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، مجلة التوحيد، العدد 73، حزيران (يونيو) 1995، ص 35.
([9] ) تغيير موضوعات الأحكام الشرعية لا يعني تغيير الأحكام الشرعية، بل المتغير هي الموضوعات، وعند تغير الموضوع يتغير حكمه السابق، لأنه لم يعد الموضوع نفسه. انظر: المصدر السابق.
([10] ) من رسالة الإمام الخميني إلى علماء الإسلام والحوزات العلمية، في 15 رجب 1409هـ، صحيفة نور، ج21، ص88.
([12] ) من رسالة الإمام الخميني إلى الشيخ الأنصاري في عام 1409هـ، صحيفة «اطلاعات».
([13] ) د. عبد العزيز ساشا دينا، الولي الفقيه.. الصلاحيات والمسؤوليات (حوار)، مجلة نقد ونظر، العدد الرابع، خريف 1996م.
([14] ) انظر في هذا المجال: الجناتي (مصدر سابق)، ص 32 ـ 33.
([15] ) يدعو الإمام الخميني إلى الفقه التقليدي أو الاجتهاد الجواهري، ولكن يدعو إلى تجديد أساليبه وإضافة عناصر جديدة لحركته، إذ يقول: «إنني أتبنى الفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري.. ولكن هذا لا يعني أن فقه الإسلام ليس فقهاً متحركاً، فالزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد». انظر: رسالته لعلماء الإسلام (مصدر سابق). فالإمام لم يدعو لتغيير أدوات الاجتهاد، بل دعا إلى تغيير نظرة الاجتهاد إلى الواقع وإلى الموضوع، وإلى شمولية حركة الاجتهاد. وهذه الدعوة تضع فرقاً دقيقاً بين المجتهد التقليدي في أدواته وأساليبه، والمجتهد التقليدي في نظرته للواقع ومتطلباته، فالأول يمثل مدرسة الإمام الاجتهادية، والثاني يعده الإمام الراحل مجتهداً متجزءاً، وإن كان الإمام في المسائل التقليدية.
([16] ) انظر: للكاتب نفسه، الإسلام والتجديد.. رؤى في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 125 ـ 128.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua